رسالة إيف إنسلر إلى الطبيعة الأم
في رسالة اعتذار، تحكي الناشطة الحقوقية إيف إنسلر عن علاقة الإنسان المتخبطة بالطبيعة، بين كرهها الأشجار ثم تعلقها بشجرة واحدة عند النافذة.
في كتابها «في جسد العالم» (In the Body of the World)، تحكي لنا الكاتبة والمسرحية والناشطة الحقوقية إيف إنسلر عن جزءٍ من العلاقة المتخبطة التي جمعتها بالطبيعة. ففي غمرة الحياة النابضة والشباب المتدفق في العروق، أسرعت إيف في إطلاق حكم صارم تقول فيه بأنها تكره الأشجار:
«لا أريد رؤية أية شجرة بعد الآن، هي مقترنة عندي بالبلدات الصغيرة والعقول الضيقة والعزلة والنميمة والشتاء الطويل المتجمد والمناظر الطبيعية الخضراء اللا متناهية والثرثرة الفارغة والأسر والأطفال والزواج والحياة. ارتبطت الأشجار بالحياة»
كان من الصعب عليها -هي التي ترعرعت في أميركا، حيث تكمن كل القيم في الإنجازات المادية والكسب- أن ترى أبعد من الشجرة، ما لم تكن هذه الأخيرة خشبًا تشيّد به المنازل وتصنع منه الموائد، أي قيمة يمكن أن تستمدّها منها؟
لذلك، ألقت إيف بهذا الحكم وهي تهرع مبتعدة عن متنزه فيرمونت، نيويورك، وأخذتها حياة كاملة من التخبط ومكالبة صراعات عدة ومواجهة ماضٍ قاس لتعترف بأنها بهروبها من الطبيعة، كانت تهرب من الحياة.
«كنت خائفة من الأشجار. شعرت بأن الأرض عدوي. لم أكن أعيش في الغابة. عشت في قلب المدينة الإسمنتية حيث تُحجب السماء والغروب والنجوم. اندفعت بسرعة المحركات، فانقطعت أنفاسي. صرت غريبة عن نفسي وعن إيقاعات الأرض»
ولا عجب أنها، حينما وجدت نفسها وحيدة في غرفة مشفى تصارع من أجل البقاءِ مرضَ السرطان، أقل ما كانت تتوقعه، شجرة تتطفل على عزلتها من النافذة.
«ما لم أتوقعه كان الشجرة. منعني الوهن من الكتابة أو الاتصال أو حتى متابعة فلم. وكان كل ما بوسعي فعله التحديق في الشجرة، الشيء الوحيد أمامي. في البداية أزعجني الأمر وفكرت بأني سأجن من الملل. لكن بعد الأيام الأولى والساعات العديدة، أخذت أرى الشجرة بالفعل»
«لقد وجدت أمي أخيرًا»
فجأة صار للشجرة وكل الطبيعة من خلفها معنى غير منفّر، صارت ترياقًا لكل السبل المعتادة التي نهرب فيها من أنفسنا.
«أن أستلقي على سرير المشفى وأراقب شجرة، ألج شجرة، أن أجد الحياة الخضراء الكامنة في الشجرة، هذه كانت الصحوة. لم أكن أطيق انتظار الاستيقاظ ومراقبة الشجر. كنت أسمح لها بحملي. اختلف المشهد كل يومٍ حسب النور أو الريح أو المطر. كانت الشجرة ترياقًا وعلاجًا؛ كانت معلّمًا ودرسًا»
حتى في الأيام العثرة التي رفضت فيها إيف التعاون مع العلاج، بدا وكأن الشجرة تسخر منها، بشموخها الوافر أمام نافذة الغرفة. ما لم تعرفه إيف قبل ذلك هو أن الشجرة لم تلق بسحرها أمامها فحسب، بل بداخلها كذلك. اتضح بأن أحد مكونات العلاج الكيماوي، تاكسول Taxol، يُستخلص من لحاء وأشواك شجر الطقسوس. «الشجرة هي ما هدّأني وحماني، وحصّن بنية خلاياي الدفاعية لتصير آمنة من كل هجوم. لقد وجدت أمي أخيرًا»
لذلك حينما انتهت إيف من تأليف كتابها «الاعتذار» (The Apology) الذي ضمّ رسالة كتبتها بلسان والدها موجهة إليها، تعتذر فيها وتغوص مفسّرة بالتفاصيل كل السبل الـتي آذاها بها؛ كان لزامًا كتابة رسالة اعتذار أخرى.
اعتذار يلزمها بمواجهة ألمها الأعمق وذنبها وخزيها، «اعتذار تجنّبتُه منذ انتقلت من المدينة إلى الغابة حيث أعيش الآن بين أشجار البلوط والخرّوب والصفصافة الوافرة، رفقة ليديا السلحفاة العضاضة، مياه الينبوع الجارية والثعالب والغزلان وذئاب القيوطي والدببة وطيور الكاردينال، وكلبي العزيز بابلو. هذا قرباني لك. اعتذاري للأرض، نفسها»
رسالة إعتذار إلى الطبيعة الأم
أمي العزيزة،
بدأ كل شيء مع مقال الطيور، مليونان وتسع مائة ألف طائر مفقود من شمال أميركا، اختفى مليونان وتسع مائة ألف طير دون أن ينتبه أحد. طيور الدوري والعصافير السوداء والسنونو التي لم تنجُ، التي لم تخرج للحياة، تلك التي توقفت عن التحليق أو التغريد أو بناء أعشاشها الحذقة، التي لم تجثم على التراب الأسود ولم تغرز مناقيرها الوديعة فيه.
بدأ كل شيء مع الطيور. ألم نعلّق في يونيو، جيمس وأنا، عن كونهم بالكاد يظهرون في السماء؟ أطبق صمت غريب. لكنهم عادوا لاحقًا. حطّت أسراب طيور دوري الحظائر والغربان الكبيرة على الحصى واحدًا بعد الآخر.
أعلم بأن هذا كان بعد أن سمعت عن الطيور، ذاك المساء سقطت من على دراجتي. تدحرجت فجأة، عاجزة عن منع الكارثة من أن تحدث، عاجزة عن إيجاد الفرامل أو جعلها تعمل، عاجزة عن تجنّب الوقوع. وقعت وتدحرج وأيقنت بأني أنهار، بأننا كنّا جميعًا ننهار، الغربان وأشجار الصنوبر وجبال الجليد والتوقعات – ننهار وننهار.
أردت أن أستمر. لم أرغب في أن أبقى هنا لأشهد أي شيء ينهار ويضيع ويبهت ويحترق ويجف ويختفي ويختنق ولا يزهر أبدًا. لم أرغب في أن أحيى دون الطيور والنحل والحشرات المتلألئة التي تنير ليالي الصيف. لم أرغب في أن أعيش مع الجوع الذي جعلنا عقيمين أو اليأس الذي أخرج مخالبنا. أردت أن أنحدر إلى عمق الأرض السوداء وأهمد وأدفن هناك.
لكنك يا أمي، تكشفين عن خطط أخرى. حطّت دراجتي على العشب والتراب وارتطمت، كنت في العاشرة من عمري، ملقاة على الطريق، ركبتي مخدوشة ومدمّاة. وأدركت بأن الطبيعة آنذاك كانت شيئًا غريبًا وقاسيًا، شيئًا قادرًا على إذايتي، فكل ما كان عظيمًا وقويًّا وجميلًا وكنت أعرفه وأحبه، يؤذيني في النهاية.
حتى آنذاك، كنت قد أقصيت سلفًا، أو هكذا شعرت، منفيّة للأبد خارج الغابة. كنت أنتمي للمكسور والفاسد والميت.
ربما كان ألم ركبتي وذراعي الحاد، أو التراب العالق على سترتي الجديدة، وربما كان الصدمة أو الإدراك بأن قطْران الحزن الكثيف المتخثر في قلبي فضّل الموت، أو ربما الصوت الرتيب لأسلاك عجلة الدراجة وهي تدور من دوني. مهما كان السبب فقد كُسر شيءٌ ما، وسمعت العواء.
أمي، أنا السبب في اختفاء الطيور. أنا السبب في عجز السالمون على التبييض والفراشات العاجزة على قطع رحلتها عائدة إلى منازلها. أنا الشعاب المرجانية الباهتة الميتة والبحر الفائر بالميثان. أنا ملايين الهاربين من الأراضي التي جفت والغابات التي احترقت أو الجزر التي غرقت.
لم أرك يا أمي، كنت لا شيء بالنسبة لي. دفعتني غطرستي التي صنعتها أزماتي السابقة وطموحي إلى تلك المدينة النابضة المحطمة. أطارد حلمًا، أطارد جائزة، أطارد الإنجاز الذي سيثبت أخيرًًا بأني لم أكن سيئة ولا غبية ولا عدمًا ولا خطأً.
آه يا أمي، ياللازدراء الذي كنت أحمله تجاهك. ما الذي كان بوسعك تقديمه ليمنحني مكانًا في سوق الأفكار والإنجازات؟ ما الذي يمكن لأشجارك العارية أن تمنحني غير الوحدة الصاعقة للشتاء أو الخضرة التي لم أقدر على استقبالها أو تحمّلها. قزّمتك لمجرد طقس وعقبة تحول في طريقي، طين متّسخ يفسد بمِلحه جزمة المدينة الغالية خاصتي.
رفضت دعوتك، واحتقرت كرمك، ونظرت بعين الشك لحبك. تجاهلت كل ما كنا نفعله لاستغلالك وإذايتك. تظاهرت بتصديق قصص الأجداد التي أوجبت ترويضك والتحكم فيك، بأنك كنت تسعين للقضاء علينا.
ضغطت بجسدي المتورم على بطنك المعشوشب، أستنشقك. اشتقت إليك، أمي. غبت لوقت طويل وأنا آسفة، آسفة للغاية.
صُنعت من تراب ورمل ونجوم وأنهار وجلد وعظم وأوراق وشعر ومخالب. أنا جزء منك، من كل هذا، لا أكثر ولا أقل. أنا فطر ومدقّة بتلة و سداة. أنا غصن وقفير نحل وصخر. أنا ما كان هنا وما سيكون. أنا الطاقة وأنا الغبار أنا موجٌ ومعجزة. أنا اندفاع ونظام. أنا زهرة الفاوانيا والشجرة المظليّة في السافانا الأفريقية.
أنا زهرة الخزامى والهندباء واللؤلؤية والدهلية والقسموس والأقحوان والبنفسج والقلب الدامي والورد. أنا كل ما سُميّ وما لم يُمنح إسمًا بعدُ، كل ما التُقِط وما تُرك وشأنه. أنا كل كائناتك المفقودة، كل الطيور التي لم تر النور. أنا البنت، أنا الراعية، أنا المدافعة الشرسة، أنا الحزينة واللصة. أنا الطفلة. أنا المتوسّلة. وأنا هنا الآن، أمي. كلّي لك. كلّي لك. كلّي لك.