الاستعمار اللغوي: من مذكرات أديب كيني

في عام 1967، كان الكاتب الكيني جيمس نقوقي (James Ngugi) يعد أحد أهم الكتّاب الإفريقيين، ولم يدخل الثلاثين بعد. كانت قد نشرت له مسرحية وثلاث روايات. روايته الأولى التي كتبها وهو لا يزال في الجامعة، «لا تبكِ أيها الطفل»، أول روايةٍ باللغة الإنقليزية تصدر من شرق إفريقيا، وأظهرته مباشرةً كاسمٍ إفريقي أدبي لامع. وعززت روايتاه التاليتان من وجوده على الساحة الأدبية العالمية، حيث تعد روايته الثالثة، «حبة من قمح»، أحد أفضل الأعمال التي أصدرتها القارة السمراء.

إلا أن كلها هذا النجاح لم يكن كافيًا لجيمس نقوقي.

جيمس نقوقي

كاتب كيني، كان يكتب بالإنقليزية، واتجه الآن إلى الكتابة بلغته القومية ونقد الاستعمار اللغوي. كتب الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، كما كتب مقالات أدبية واجتماعية، وكتب في أدب الطفل.

قبل نهاية عام 1970، غيّر نقوقي اسمه من جيمس نقوقي إلى نقوقي وا ثيونقو (Ngugi wa Thiong’o)، معلنًا رفض اسمه -وديانته- الاستعمارية. ففي عام 1977 عاد نقوقي بروايته الرابعة، «بتلات دم» معلنًا أنها روايته الأخيرة التي يكتبها بالإنقليزية، اللغة التي أطلقته إلى العالمية.

بدأ بعدها نقوقي في كتابة الروايات والمسرحيات بلغته الأم، القيكويوية (Gĩkũyũ)، في حين استمر في استخدام اللغة الإنقليزية في مقالاته النقدية. ثم في عام 1986، أصدر نقوقي كتابه الأشهر  في نقد الاستعمار اللغوي، «تحرير العقل من الاستعمار: سياسة اللغة في الأدب الإفريقي».

في هذا الكتاب يودّع نقوقي الكتابة باللغة الإنقليزية، معلنًا أنه آخر عمل نقدي يكتبه بهذه اللغة كما فعل مع الأعمال الروائية من قبل. يبرر نقوقي قراره هذا بين طيات الكتاب، ويشرح الاستعمار اللغوي وعلاقته المتوترة مع لغة المستعمر ولغته الأم.

مقطع من الباب الأول، بعنوان «لغة الأدب الإفريقي»:

ولدت لعائلة ضخمة من الفلّاحين: أبٌ وأربعة زوجات، ونحو ثمانية وعشرين طفلًا. كذلك كنت أنتمي، كما انتمينا كلنا في تلك الأيام، لعائلة أضخم من الأقارب، وللمجتمع ككل.

كنا نتحدث بالقيكويوية أثناء عملنا في الحقل. كنا نتحدث بالقيكويوية داخل المنزل وخارجه. أستطيع أن أتذكر بوضوح ليالي السمر وحكاية القصص حول النار. كان البالغون من يحكي القصص للأطفال، لكن الجميع كان مهتمًا ومشاركًا. نحن الأطفال كنا نعيد حكاية تلك القصص للأطفال الآخرين الذين عملوا في الحقل يحصدون الأزهار وأوراق الشاي وحبوب البُن لمالكي الأرض الأوربيين والإفريقيين.

تلك القصص، والتي كان أبطالها غالبًا من الحيوانات، كانت تُحكى بالقيكويوية. الأرنب البري، بفطنته ودهائه رغمًا عن حجمه الصغير الضعيف، كان بطلنا. رأينا أنفسنا فيه وهو يصارع ضد الحيوانات المفترسة كالسّباع والنمور والضباع. انتصاراته كانت انتصاراتنا، ومنه تعلمنا أن من يَظهرون كضعفاء يستطيعون التغلب بذكائهم على الأقوياء. رأينا تلك الحيوانات تُعاني مع عداوة البيئة، قحط ومطر وشمس ورياح، معاناة كانت تجبرهم غالبًا على إيجاد طريقة للتعاون. إلا أننا كنا مهتمين أيضًا بمعاناتهم بين أنفسهم، بالعلاقة بين المفترسات والفرائس. هاتان المعاناتان التوأميتان، مع الطبيعة ومع الحيوانات الأخرى، كانت تعكس أنواعًا حقيقية من المعاناة في العالم البشري.

ماذا عن البشر؟

حبنا لقصص الحيوانات لا يعني أننا تجاهلنا القصص التي كان أبطالها بشرًا. كان هناك جنسان من البشر في تلك القصص:

• جنس البشر المثاليين، أولئك الشجعان الطيبون الراحمون الكارهون للشر.

• وجنس البشر الأشرار، أولئك الجشعون الأنانيون المتفردون الكارهون لكل ما يفيد المجتمع المتعاون.

وكان التعاون دائمًا هو أكمل أنواع الخير للمجتمع في تلك القصص. يستطيع التعاون أن يوحد البشر والحيوانات ضد الغيلان والمفترسات، كما في قصة الحمامة التي التهمت حبوب خروع سامة ثم أُرسلت لتنادي حدادًا يعمل في قرية بعيدة عن منزله، ليعود ويجد زوجته الحامل مهددةً من قبل غيلان لها فمّان.

كان هناك رواة قصص جيدون ورواةٌ سيئون. الراوي الجيد يستطيع أن يحكي نفس القصة مرارًا وتكرارًا، وسنسمعها دائمًا بحماس المرة الأولى. الراوي الجيد يستطيع أن يحكي قصة شخص آخر ويجعلها أكثر حيويةً وتأثيرًا. كانت الاختلافات بين الجيدين والسيئين كامنةً في استخدامهم للكلمات والصور، وطريقة تغيير صوتهم واستخدامهم لنغمات مختلفة.

وهكذا تعلمنا أهمية الكلمات ومعانيها وتأثيراتها. اللغة لم تكن فقط سلسلةً من الكلمات، بل كان لها قوة إيحائية تتخطى التأثير المباشر والمعنى الحرفي. تقديرنا لقوة الإيحاء السحرية للغة تضخّم بألعاب الكلمات التي كنا نلعبها، كالأحاجي والأمثال والأغاني العبثية التي لم يكن لها أي معنى سوى أن صوت الكلمات فيها جميل. هكذا تعلمنا موسيقا لغتنا كما تعلمنا معانيها. اللغة، من خلال صورها ورموزها، أرتنا العالم، وكانت جميلة بحد ذاتها.

انكسر هذا التناغم

كان المنزل والحقل إذن مدرستنا قبل المدرسة. كانت لغة تعليمنا القصصي الليلي، ولغة عائلتنا المقربة ومجتمعنا الواسع، ولغة عملنا في الحقول، لغةً واحدة.

ثم ذهبت إلى المدرسة، مدرسة المستعمر، وانكسر هذا التناغم. لغة تعليمي لم تعد هي لغة ثقافتي.

في البداية ارتدت المدرسة المسيحية في كاماندورا، ثم ارتدت مدرسة مسيحية أخرى في ماناقو، كان يديرها مجموعة وطنية تشكلّت لأجل تحرير الكيكويو (Kikuyu)، واتحاد مدارس الكارينقا. كانت القيكويوية لا تزال لغة التعليم الرسمية وقتها. أول مديح تلقّيته لكتابتي كان لقطعة بالقيكويوية. لهذا في السنوات الأربع الأولى كان هناك تناغم بين لغة تعليمي الرسمي ولغة مجتمعي الفلّاح الفقير.

لكن بعد إعلان حالة الطوارئ في كينيا عام 1952، استولى الكيان الاستعماري على كل المدارس التي كانت تديرها المجموعات الوطنية، وأصبح المسؤول عن هذه المدارس مجالس تعليمية يديرها الإنقليز. صارت الإنقليزية لغة تعليمي الرسمي. وفي كينيا، لم تكن الإنقليزية مجرد لغة، بل أصبحت هي اللغة، وبات على كل اللغات الأخرى الركوع أمامها.

الاستعمار اللغوي

إحدى أكثر التجارب إهانة كانت أن يراك أحد تتحدث القيكويوية بالقرب من المدرسة. المجرم كان يُعاقب بثلاث أو خمس ضربات عصا على مؤخرته العارية، أو يعاقب بحمل قطعة معدنية حول عنقه كُتب عليها أشياء مثل«أنا أحمق» أو «أنا حمار». أحيانًا كان المجرم يُغرّم غرامةً بالكاد يستطيع تسديدها. وكيف كان يقبض المعلمون على المجرم؟ كانوا يعطون زرًا لأحد الطلاب في بداية اليوم، وعلى هذا الطالب أن يعطي الزر لأي شخصٍ يتكلم لغته الأم، نفس الشيء يُطلب من الشخص الذي يتلقى هذا الزر بعده.

يتوجه المعلمون للطالب الذي يحمل الزر في نهاية اليوم، وسيخبرهم من أعطاه إياه، وهكذا دواليك حتى يقبضوا على جميع مجرمي ذلك اليوم. وهكذا تحوّل الطلاب إلى صائدي ساحرات، وبنفس الوقت تم تعليمهم لأي قدر كانت خيانة مجتمعهم مربحة.

أسلوب المدرسة نحو الإنقليزية كان العكس بالضبط. أي إنجاز في الحديث بالإنقليزية أو كتابتها كان يكافأ بحفاوة، جوائز واحترام وتصفيق ورفع إلى مرتبة أعلى. أصبحت الإنقليزية مقياس الذكاء والقدرة على النجاح في الفنون والعلوم وكل فروع التعلّم الأخرى. أصبحت الإنقليزية المُحدد الوحيد لتقدّم الطفل في سلّم التعليم الرسمي.

الاختبار الإفريقي الأوّلي لكينيا

وكما تعلمون، بالإضافة إلى عنصرية نظام التعليم الاستعماري العرقية، كان النظام مبنيًا كهرم. قاعدة واسعة للتعليم الابتدائي، فوقها منطقة أضيق للتعليم الثانوي، وفي القمة منطقة ضئيلة للتعليم الجامعي. اختيار من ينتقل من الابتدائية إلى الثانوية كان يتم عن طريق اختبار، في وقتي كان اسمه الاختبار الإفريقي الأوّلي لكينيا. في هذا الاختبار كان عليك اجتياز ستة أبواب من الرياضيات إلى العلوم الطبيعية إلى اللغة السواحيلية الكينية، وكل هذا الأبواب كانت مكتوبةً باللغة الإنقليزية.

لا أحد يستطيع أن ينجح في الاختبار إذا ما فشل في اللغة الإنقليزية، مهما كانت درجاتهم عبقريةً في كل الأبواب الأخرى. أتذكر أحد الطلاب الذين كانوا في صفي عام 1954م، كان متميزًا في كل المواد ما عدا الإنقليزية التي سقط فيها، وهكذا سقط في الاختبار كله. تحوّل بعدها إلى قائد حافلة. أما أنا الذي بالكاد اجتزت كل المواد ما عدا الإنقليزية التي كنت متفوقًا فيها، حصلت على مقعد في ثانوية الاتحاد، إحدى أكثر المدارس الإفريقية نخبويةً.

الإنقليزية هي الطريق

متطلبات مقعد في جامعة ماكيريري كانت مشابهة إلى حد ما. لا أحد يستطيع أن يرتدي معطف التخرج الأحمر، حتى لو كان عبقريًا في كل المواد الأخرى، إلا إذا تفوّق في الإنقليزية، النجاح فقط لم يعد يكفي. وهكذا كانت أفضل المقاعد في الهرم، وفي النظام كله، متوفرةً فقط لمن يحمل تلك البطاقة الائتمانية المسماة«اللغة الإنقليزية». كانت الإنقليزية هي الطريق الرسمي، والوصفة السحرية، لأن تكون من النخبة الاستعمارية.

تأثّر التعليم الأدبي باللغة المسيطرة، مساهمًا كذلك في تعزيز السيطرة بفضل الاستعمار اللغوي. توقف تعليم الأدب الشفهي باللغات الكينية. في المدرسة الابتدائية قرأنا روايات ديكنز وستيفينسون المبسطة بالإضافة لأعمال رايدر هاقارد. جيم هاوكينز وأوليفر تويست وتوم براون أصبحوا رفاق مخيلتي اليوميين، لا الأرنب ولا السبع ولا النمر.

في المدرسة الثانوية قرأت المزيد من رايدر هاقارد. بالإضافة لـجورد برنارد شو وجون بيوكان وآلان باتون والكابتن ويليام إيرل جونز. في ماكيريري قرأت الإنقليزية، من تشاوسر إلى تي إس إيليوت وشيءٍ من قراهام قرين.

وهكذا كانت اللغة، والقصص، تأخذنا شيئًا فشيئًا إلى أنفس أخرى غير أنفسنا. تنقلنا من عالمنا إلى عوالم أخرى.