تنوع الصنع والتعقيد الاقتصادي
يتناول الباحث الاقتصادي علاء المكتوم التعقيد الاقتصادي بشتى صوره، ويعقد مقارنة بين الاقتصاد البسيط ضد الاقتصاد المتقدم فيما يخص تنوع الصنع و...
لطالما حيرتني هذه الأسئلة كثيرًا: إذا كنا عازمين على تنويع مصادر الدخل والتخلص من الاعتماد على النفط، فإلى أي القطاعات نتّجه؟ كيف نستطيع معرفة الاتجاه الصحيح؟ هل يفترض أن نستثمر في الصناعات التي تتوافق مع الموارد الطبيعية لدينا؟ هل الأفضل أن نتخصص في صناعات دقيقة ومتقدمة مما يعطينا ميزة تنافسية؟ أم الأفضل أن يكون اقتصادنا متنوّعًا ومتعدّد الصناعات؟
يأتي هذا المقال على رأس سلسلة مقالات سنتناول فيها الأجوبة الشافية على هذه الأسئلة والتي توصلت إليها بعد قراءة وتحليل جميع منشورات مركز التنمية الدولي في جامعة هارفارد Growth Lab والتي يديرها فريق مستقل من الاقتصاديين الرائعين.
الصنعة
لم تزدهر المجتمعات المتقدمة لأن أفرادها بارعون وأذكياء، ولا لأنهم مجتهدون ومخلصون أكثر من غيرهم، بل لأن هذه المجتمعات تمتلك تنوعًا عاليًا نسمّيه (Knowhow)، وهو مصطلح لو بحثت عن ترجمته ستجد له مقابلات في العربية من قبيل (خبرة) أو (دراية بالعمل) أو (معرفة عملية) أو (مهارة)، لكنّي شخصيًا وجدت أن الكلمة الأقرب والأدق لترجمته هي «الصنعة».
لو تأملت هذه المجتمعات المتقدمة، لوجدت أن كل فرد فيها يجيد صنعة معينة تساهم في تكوين منتج ما. تتحد هذه الصنعات وتندمج داخل الشركات لتولّد منتجاتٍ تجارية تباع في الأسواق العالمية، وهو ما يحقق عوائد ترفع من مستوى المعيشة ورفاهية المجتمع ككل.
ولكن، ماذا نقصد بالصنعة؟ يوجد نوعان من المعرفة التي يكتسبها الفرد أو المجتمع عمومًا. معرفة صريحة (Explicit) وهي التي تُكتسب من الكتب والإنترنت والمخطوطات والوثائق، معرفة يمكن نقلها أو نسخها بسهولة من مكان لآخر. يمكن لأي شخص قراءة كيفية ركوب الدراجة، ومشاهدة عشرات الفيديوهات التعليمية، لكن لن يعرف أن يجيد ذلك إلا بالممارسة الحقيقية.
أما النوع الآخر فهو المعرفة الضمنية (Tacit) ولا يمكن نقلها من مكان لآخر بسهولة لتواجدها في الدماغ فقط، ونسخها لدماغ آخر يتطلب تدريبا عمليًّا مكثفًا. هي المعرفة التي يمتلكها من يجيد ركوب الدراجة، ويمتلكها طبيب الأسنان الذي يحدد مكان التسوس في الأسنان، ويقوم بإزالته بدقة، وتنظيفه ثم وضع الحشوة كما ينبغي. هذه المعرفة الضمنية هي «الصنعة».
تنوع الصنع
الصنعة التي يمتلكها رجل الإنويت البدائي من سكان القطب الشمالي أكثر تنوعًا وأعلى مستوى من الصنعة التي يمتلكها مبرمج كمبيوتر في وادي سيليكون، حيث يستطيع الإنويت بناء منزله وحياكة ملابسه واصطياد الحيوانات وإسعاف نفسه واستخراج الماء، وقد يكون أكثر اجتهادًا واستغلالاً لوقته وتحملاً للظروف. بينما لا يعرف المبرمج صناعة أي شيء مما يلبسه ويأكله، وكل ما يجيده هو كتابة أكواد كمبيوتر فقط.
لكن المجتمع الذي ينتمي المبرمج إليه يمتلك صنعة إجمالية أعلى من المجتمع الذي ينتمي إليه رجل الإنويت، وذلك لأنه مجتمع متنوع جدًا لدرجة قدرة الفرد على التخصص في صنعة دقيقة داخل المنظومة، ولأن عقولاً أخرى تخصصت في صناعة ملابسه وبناء منزله وتشكيل أثاثه، وهو بصفته يضيف شيئًا بسيطًا مما يمتلكه من صنعة متخصصة إلى هذا الفضاء متنوّع الصنعات.
إذًا ما يهم فعلًا هو تنوع الصنعات في المجتمع. إذا تنوعت، أصبحت تخدم بعضها، ويتشكل ترابط فيما بينها. وكلما ترابطت أكثر، ولّدت خدمات ومنتجات أكثر تنوعًا وتقدمًا بسبب استفادة كل منها من الآخر.
الاقتصاد البسيط ضد المتقدم
يتكرر النموذج الأول في الدول ذات الاقتصاد البسيط، حيث المنتجات معزولة عن بعضها. وغالبًا ما تكون المنتجات التي يصدرها بسيطة، مثل: حبوب القهوة وقطع الخشب والملح. هذه الصنعات غير مترابطة، والأهم من ذلك، ليست لها فرصة مستقبلية بالارتباط، وبالتالي تعجز عن تصدير منتجات أكثر تنوعًا في المستقبل.
بينما يتكرر النموذج الثاني في الدول ذات الاقتصاد المتقدم، حيث المنتجات قريبة من بعضها: كالإكسسوارات الصوتية وأجهزة البث والمغناطيسات الكهربائية والموصلات والمقاومات الكهربائية ومكثفات الكهرباء والدوائر الإلكترونية. ليست الصنعات التي تساهم في تكوين هذه المنتجات منوعة وحسب، بل مترابطة أيضًا. وبسبب هذا التنوع والترابط، من المحتمل أن يتم تصدير منتجات متقدمة أكثر في المستقبل مجاورة للمنتجات الحالية.
نستنتج إذًا أن المستوى المعيشي للمجتمع لا يتحسن إذا كان أفراده أكثر ذكاءً أو اجتهادًا أو ثقافة أو تعلمًا، فليست هذه هي المقاييس الصحيحة. المقياس هو امتلاك هذا المجتمع لتنوعٍ عالٍ وترابطٍ قويٍ من الصنعات التي تتظافر فيما بينها وتكمّل بعضها داخل منظومة إنتاج كما لو أنها شبكة متماسكة. وكلما ازداد هذا التنوع، توسّعت الشبكة، وصار بوسع الأفراد التخصص أكثر، والتكامل أكثر، لسبر أغوار جديدة من المنتجات.
شبكة الصنعات المعقدة
لنتخيل أن الصنعات في أفراد المجتمع مثل أحرف الأبجدية، كلما امتلكت أحرفًا أكثر، صار بوسعك تكوين كلمات أكثر تنوعًا.
لاحظ أن إضافة الحرف O زاد حصيلة الكلمات اثني عشرة كلمة إضافية، وبعد إضافة الحرف S أصبحت حصيلة الكلمات تسعا وثلاثين كلمة إضافية.
هل يعني هذا أن الحرف S يولد كلمات أكثر؟ لا، بل يعني أنه كلما أضفنا حرفًا إضافيًا، ارتفعت حصيلة الكلمات بشكل أسّي. وهذا بالضبط ما يحصل عند امتلاك المجتمع صنعات إضافية، يرتفع تنوع المنتجات بشكل أسي. والدولة التي تمتلك أحرفًا عديدة، تستطيع تشكيل كلمات فريدة ونادرة (منتجات معقدة ونادرة).
يسمى هذا التنوع والترابط Economic Complexity أو «تعقيد الاقتصاد»: إذ كلما زاد الاقتصاد تعقيدًا، زادت قابليته لخلق صنعات أكثر، وهذا يعني تصدير منتجات أكثر تنوعًا، وأكثر تقدمًا، لديها ميزة تنافسية عالية في التبادل التجاري العالمي، وبالتالي ارتفاع الناتج المحلي للفرد، وازدياد المجتمع ازدهارًا ورفاهية.
كيف نعرف إذًا ما إذا كان الاقتصاد معقدًا أم لا؟ وكيف نقيس هذا التعقيد؟ كيف نقيس الصنعات الموجودة عند أفراده ومدى تنوعها وارتباطها؟ وكيف نزيد تنوع الصنعات في المجتمع؟ توصل مركز التنمية الدولي في جامعة هارفارد للإجابة على هذه الأسئلة من خلال مشروعه (الأطلس: تعقيد الاقتصاد). وحتى نكشف هذا البحث المدهش لابد من توضيح مفهوم مهم مرتبط بالمنتجات الموجودة في حياتنا.
المنتجات التي تصدّرها الدول
حتى نعرف مستوى تعقيد الاقتصاد، لابد أن ننظر أولاً إلى صادرات الدولة مقارنة بصادرات دول العالم من جانبين أساسيين: تنوع المنتجات في صادرات الدولة، ومدى ندرة هذه المنتجات مقارنة بمنتجات الدول الأخرى.
تختلف الدول في تنوّع المنتجات التي تصدّرها، فبعضها يصدّر أنواعًا متعدّدةً من المنتجات، والبعض الآخر يصدر أنواعا محدودة -بغضِّ النظر عن قيمة هذه الصادرات- نسمي هذا المعيار بالتنوّع Diversity. وتختلف المنتجات كذلك في عدد الدول المصدّرة لها، وهذا سوف نسميه التواجد Ubiquity.
حينما يُصدَّر المنتج من قبل دول عديدة (الأغذية مثلاً) فهو منتج ذو تواجد عالٍ، أما المنتج الذي يُصدَّر من قبل دول قليلة، فهو منتج ذو تواجد محدود (جهاز أشعة إكس مثلاً).
عند تحليل صادرات جميع دول العالم على هذا الأساس، تتضح علاقة منتظمة وملحوظة بين تنوع صادرات الدول ومستوى تواجد صادراتها. في الغالب، كلما ازداد تنوع صادرات الدولة، توفرت صادرات أقل تواجدًا ضمن مزيج صادراتها.
ففي المثال أعلاه، نجد أن هولندا، وبسبب تنوع صادراتها، تصدر أجهزة أشعة إكس، وهو منتج قليل التواجد. بينما صادرات غانا، ولأنها قليلة التنوع، تقتصر على منتجات عالية التواجد مثل السمك المجمد.
تفاوت التعقيد
التنوع والتواجد مؤشران مهمان لتقييم المقدرات التي تمتلكها الدولة، وكلما توفرا معًا في صادرات الدولة بشكل أكبر، أشار هذا إلى أن اقتصادها أكثر تعقيدًا. نشير للتعقيد الاقتصادي باستخدام مؤشر (ECI) اختصاراً لـ Economic Complexity Index.
توضح هذه الخارطة تفاوت التعقيد بين دول العالم. يشير توجه اللون للأحمر بأن الدولة تمتلك اقتصادًا معقدًا (أي مؤشر ECI مرتفع).
أما في هذا الجدول، فنجد أكثر خمس منتجات تعقيدًا في العالم، متبوعة بأقل خمس منتجات تعقيدًا:
يتضح إذًا أن النفط الخام هو أقل المنتجات تعقيدًا من بين كل منتجات العالم حسب هذا التصنيف الذي يتضمن قرابة 3000 منتج. أي يمكن وصفه بأنه منتج معزول. والصنعة لإنتاجه هي الأبعد عن جميع الصنعات الأخرى في العالم. ودائمًا ما تكون الدول التي تنتجه قليلة التنوع في صادراتها.
مقارنة بين دولتين
حتى نوضح الميزة العظيمة في مؤشر التعقيد الاقتصادي ECI، لنجرِ مقارنة بين سنغافورة وباكستان من حيث تعقيد اقتصاد كل منهما وأثر هذا على مستوى الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
يمكن من خلال تحليل الصادرات أن نستشف مستوى التقدم داخل كل بلد. دعونا نحلل تنوع المنتجات أولاً.
لكلا الدولتين نفس التنوع في الصادرات، حيث ينتج كل منهما قرابة 133 نوعًا من المنتجات. لكنّنا إن حلّلنا تواجد المنتجات، نجد أن باكستان تصدر منتجاتٍ لـ 28 دولة أخرى (ما يجعلها ضمن الـ60% من حيث تواجد المنتجات) بينما صادرات سنغافورة تشمل 17 دولة أخرى فقط (ما يجعلها ضمن الـ1% حول العالم من حيث تواجد المنتجات).
وبالتالي، فسنغافورة أغنى من باكستان بـ 38 مرة. إضافة لذلك، ما تصدره سنغافورة من منتجات تصدره دول ذات اقتصاد متنوع جدًا، بينما تصدر صادرات باكستان عن دول ذات تنوع شديد ضعيف.
ما تصنعه الدول وتصدّره يعبر عما تمتلكه من مقدرات عند تحليلها مع صادرات الآخرين.
مقارنة بين منتجَين
تُصنع أجهزة التخطيط الإشعاعي الطبي في أماكن قليلة. الدول التي تصنعها، مثل الولايات المتحدة وألمانيا، تصدّر منتجات أخرى عديدة أيضًا. نستطيع أن نستنتج أن أجهزة التخطيط الإشعاعي منتجات معقدة، مما يعني أنّ الدول المصدّرة لها تمتلك مقدرات عالية. في الجهة الأخرى، تصدر معظم دول العالم قطع الخشب، أي أن كثيرًا من دول العالم تمتلك المعرفة اللازمة لتصديرها، وبالتالي لا تعتبر منتجات معقدة.
لنأخذ على سبيل المثال النفط الخام والألماس الخام. هذه المنتجات مثل أجهزة التخطيط الإشعاعي، تصنع في أماكن قليلة. ولكن هل هذا يعني أنها منتجات معقدة؟ وأن الدول المصدرة لها تمتلك مقدرات عالية؟ بالطبع لا. لو كانت هذه المنتجات معقدة جدًا لوجدنا انعكاس تقدم الدول المصدرة لها في منتجات أخرى. بعبارة ثانية، لامتلكت هذه الدول صادراتٍ متنوعة جدًا. دولة سيراليون وبوتسوانا (واللتان تشتهران بالألماس الخام) وكذلك دول الخليج (التي تشتهر بالنفط الخام) لا تمتلك صادرات متنوعة.
إن الدول التي تعتمد على الموارد الطبيعية النادرة يتحقق في صادراتها عامل «قلة التواجد» فحسب. حيث أنها منتجات لا تصدرها معظم دول العالم. وعند تحليل صادراتها مقارنة بباقي الدول، يمكن بسهولة ملاحظة أنها «قليلة التنوع». وبهذا لا يتحقق الشرطان اللازمان لبلوغ التعقيد الاقتصادي، فالاقتصاد فيها -وإن كان يحقق لها الغنى- غير متماسك ومعرض للتهديد أمام متغيرات الأسعار والأسواق العالمية.
ولكن، ما هو أثر التعقيد الاقتصادي على دخل الفرد ونمو الاقتصاد؟ هل الاستثمار المكثف في التعليم حقًا عامل مؤثر في النمو الاقتصادي؟ وما هي العلاقة الجوهرية بين الورد والأغذية الطازجة؟ سوف نستعرض إجابات كل هذه الأسئلة في المقال الثاني.