إنديرا غاندي: المناصب العليا ليست الطريقة الوحيدة لخدمة بلدك
في خطابها أمام طالبات جامعة «إندرابراسثا»، تشارك إنديرا قاندي،أول رئيسة وزراء للهند، رؤيتها حول خدمة الوطن فی سیاق تقاليده والحداثة.
في عام 1966 اُنتخبت إنديرا قاندي لمنصب رئيسة وزراء الهند كأول امرأة تشغل هذا المنصب. ورغم دعم كبار مجلس الشيوخ انتخابها لأن والدها كان رئيس وزراء محبوب ولاعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم فیها، سرعان ما استطاعت إنديرا فرض قبضتها على الحكومة الهندية، لتصبح إحدى أقوى السياسيين الآسيويين.
مشهورةً بشخصيتها القوية ودهائها السياسي-إذ كانت سببًا رئيسًا في تحرير بنقلاديش– أصبحت إنديرا قاندي رمزًا نسويًا بارزًا. ورغم اعتراضها على ربطها بالنسوية، إذ قالت مرّة: «أنا لست نسويةٍ بأي شكلٍ من الأشكال، لكني أؤمن بقدرة النساء على فعل أي شيء»، فقد كانت قدوةً للكثير من الفتيات، خصوصًا الهنديات، اللاتي رأين فيها مثالًا على استطاعتهن فعل أي شيء.
يلي، خطابٌ ألقته إنديرا في اليوبيل الذهبي لجامعة «إندرابراسثا» النسائية عام 1974، في نيو دلهي:
يقول مثلٌ سانكرستي قديم: «المرأة هي المنزل، والمنزل أساس المجتمع.»
بناؤنا لمنازلنا يعني بناء بلدنا. وإذا كان بناؤنا لمنازلنا ناقصًا -إما نقصًا في اللوازم المادية أو نقصًا في أجواء الحب والرعاية التي يحتاجها كل طفلٍ لينمو- سيفتقد البلد التناغم. والبلدان التي تفتقد التناغم لا يمكن أن تنمو.
تعليم النساء
وهذا يجعل تعليم النساء أكثر أهميةً إلى حدٍ ما من تعليم الرجال والفِتيان. فنحن قد أهملنا تعليم النساء، ولا تقتصر «نحن» على الهند، بل تشمل العالم أجمع. بالنسبة لكم هو شيءٌ عادي، إلا أن تعليم النساء أمرٌ حديثٌ جدًا. الأيام الأولى لتعليم النساء في بريطانيا، مثلًا، كانت حديث الساعة في طفولتي. كان الكل يذكر ماذا حدث في الأيام الأولى.
وأنا أذكر ماذا كان يحدث هنا. لا أزال أذكر الحياة في دلهي القديمة عندما كنت في السابعة أو الثامنة. كنت لا أستطيع الخروج من المنزل إلا في هودج. لم يكن مسموحٌ للفتيات المشي في الشارع. كان عليكِ أولًا تغطية رأسك بالساري، ثم ترتدين وشاحًا أو شيئًا يغطي جسدك ويديك، ثم تضيفين وشاحًا أبيض ليغطي كل شيءٍ باستثناء وجهك. ثم تركبين الهودج، الذي كان نفسه مغطَّىً بقماش آخر. كل هذا كان يحدث في مجتمع لا يؤمن بالفصل بين الجنسين، ببينما كل مناسباتنا الاجتماعية كانت مختلطة. لكن هكذا كان الجو العام في دلهي، والجو العام في الهند.
أما الآن، أصبح لدينا نظام تعليمي، وهناك مناظرة على مستوى البلد فيما إذا كان هذا النظام التعليمي مناسبًا لحاجات المجتمع أو لحاجات الشباب. أنا من المؤمنين بحاجة نظامنا التعليمي لإعادة صيانة شاملة. لكني في الوقت نفسه لا أعتقد أن كل عناصره سيئة. فتعليمنا الحالي أنتج رجالًا ونساءً مميزين، خصوصًا العلماء والخبراء في مجالات متعددة، والذين يُطلبون للعمل في كل أنحاء العالم، حتى في أكثر البلدان تقدمًا. الكثير من شبابنا يغادر للعمل في الخارج ليتلقوا أجورًا أعلى ويعملوا في ظروفٍ أفضل.
بالطبع، الطرف الآخر من القصة هو أن العديد منهم يغريهم الخارج ويقنعهم بالمغادرة رغم ترددهم. نعرف طلابًا مميزين، خصوصًا في الطب والطاقة النووية، تواصل الخارج معهم قبل تخرجهم بمدة طويلة، وعُرضت عليهم محفزات كثيرة لمغادرة البلاد. هذا يوضّح أن العالم يراهم على قدرٍ عالٍ من المعرفة والقدرة للعمل في أي مكان.
استثمار التعليم
لهذا أقول أن في التعليم شيئًا يستحق الاستثمار. وكذلك يتضح لنا أن فلسفتنا القديمة قد علّمتنا أن لا شيء في الحياة جيدٌ أو سيءٌ بالكامل. كل شيءٍ خليطٌ من الإثنين، ويعود الأمر لنا في استخراج الجيد، في الاستفادة من كل ما حولنا. هناك أشخاصٌ يستطيعون استغلال قوّة ملاحظتهم ليستفيدوا من كل شيءٍ حولهم. وهناك أشخاص مهما أحطتهم بأبدع العقول، وأجمل الكتب، وغيرها من الأشياء، يظلون مُنغلقين، ولن يستفيدوا أبدًا من الثروة حولهم.
وبلدنا ثريةٌ جدًا. ثريةٌ بالثقافة، ثريةٌ بالعديد من التقاليد القديمة، بل حتى التقاليد الحديثة. بالطبع هناك الكثير من الأمور السيئة أيضًا، وأغلبها موجودةٌ في المجتمع، كالخرافات التي تضخمّت مؤخرًا لتحجب الشعاع الساطع لأفكارنا وقيمنا التاريخية، قيمنا الأبدية. وهناك أيضًا الفقر المادي الذي يُثقل عددًا ضخمًا من مواطنينا، الفقر القبيح الذي يعرقل نمو ملايين الفتيان والفتيات. علينا محاربة كل هذه الأشياء السيئة، وهذا ما كنّا نفعل منذ استقلالنا.
هذا الجانب المظلم من الصورة يوجد في كل بلدان العالم، حتى أغناها. لكنهم في العادة يحاولون إخفاءه وإظهار الجانب المشرق من إنجازاتهم. أما هنا في الهند، فيبدو أننا نريد إظهار أسوأ ما في مجتمعنا. وقبل أن يفعل أحدٌ أي شيء، عليه أولًا التحلي بالمعرفة والقدرة.
لكن بجانب هذين العاملين، يجب أن يفخر الرجل والمرأة بعملهما. يجب أن يكونوا واثقين بمقدرتهما. لو قال لك معلمك: «لن تستطيع فعل هذا»، فحتى إن كنت طالبًا مميزًا، ستواجه صعوبةً في تنفيذ المهمة. لكن لو شجّعك معلمك قائلًا: «استمر، أحسنت، لكن حاول أكثر هذه المرة»، حينها ستحاول أكثر وستفعلها. الشيء ذاته ينطبق على المجتمعات والبلدان.
إنديرا غاندي «الأيام السوداء ليست حكرًا على الهند»
هذه البلد، الهند، قد حازت على العديد من الإنجازات العظيمة تاريخيًا، وحتى حديثًا. لا أعتقد أن هناك العديد من قصص النجاح الحديثة كقصة نجاح بلدنا. صحيحٌ أننا لم ننه الفقر، ولم ننه العديد من مشاكلنا المُجتمعية، لكن لو قارننا أنفسنا بما كنَّا عليه قبل سبعٍ وعشرين سنة، فلن تجد بلدًا أخرى استطاعت تحقيق ما حققناه تحت هذه الظروف القاهرة.
اليوم، نمرّ بأيامٍ شديدة السواد. وهذه الأيام السوداء ليست حكرًا على الهند. فإذا استثنينا البلدان الاشتراكية -التي لا نعرف عنها الكثير- فكل بلدان العالم تُعاني من مشاكلنا الاقتصادية نفسها. عدة بُلدان فقط سلِمت من البطالة، وهي بُلدانٌ صغيرةٌ أصلًا. أما غيرهم، فحتى البلدان الغنيّة تعاني من البطالة اليوم، بعضهم يعاني من عجزٍ في مقومات الحياة، وبعضهم يعاني من عجزٍ في الطعام.
لا أعلم كم منكم يعلم أن بلدان أوربا الغربية واليابان يستوردون 41% من حاجات طعامهم، بينما الهند تستورد أقل من 2%. ومع ذلك نحن أنفسنا نُرسل للعالم صورةً توحي بأن الهند تتوسل الآخرين في الشوارع. وبطبيعة الحال، اذا ما وصفنا أنفسنا هكذا، فبقية العالم سيصفنا بهذا الوصف، بشكلٍ أقوى وأعلى صخبًا.
وبالطبع، تعد 2% كميةً ضخمة لبلد ضخم ذي تعدادٍ سكانيٍ هو الأضخم في العالم، باستثناء الصين. ولأنكن نساء متعلمات، ولهو شرفٌ عظيمٌ حصولكن على تعليمٍ عال، فينبغي لكنَّ رؤية مشاكلنا ضمن سياق ما حدث في هذا البلد، وما يحدث حول العالم.
هناك الآن انبهارٌ كبيرٌ بأشياء حدثت في بلدان أخرى، حيث المجتمع مبنيٌ بشكل مختلف، وحيث لا يُسمح بالمعارضة. الأشخاص نفسهم الذين يمتدحون تلك البلدان ويُبهرون بإنجازات أنظمتها، يقولون بأن الهند ديكتاتورية. مع أن لا أحد يستطيع أن يسمي لي بلدًا أعلى منَّا في حرية التعبير والتصرف. فقط يُقال عنّا شيءٌ ما، ويكرره العديد من الناس دون تفكيرٍ مع العديد من الإضافات، فننتهي بصورةٍ مشوهة عن البلد وشعبها.
ليست كل الحداثة جيدة
لدينا العديد من المشاكل، إما مشاكلٌ في الحكومة أو مشاكل في المجتمع، وبعضها بسبب تقاليدنا. فكما قلت، ليست كل التقاليد جيدة. وإحدى أهم مسؤوليات المرأة المتعلمة اليوم المؤالفة بين القيّم والأزلي في تقاليدنا العتيقة والجيّد والقيّم في أفكارنا الحديثة. فليس كل ما هو حديثٌ جيّد، مثلما ليس بالضرورة كل القديم جيدٌ أو سيء. ونحن من علينا أن يقرر هذا، لا لمرةٍ واحدة وإلى الأبد، بل ربما بشكلٍ أسبوعي.
كل شهرٍ علينا تحديد الجديد المفيد لبلدنا، وأي التقاليد القديمة نحافظ عليها ونحارب لأجلها. يعتقد البعض أن الحداثة هي في طريقة اللباس أو الحديث، أو في عاداتٍ وطقوس محددة. لكن هذا مجرّدُ جزءٍ سطحيٍ جدًا من الحداثة.
عندما كنت أقص شعري، كمثال، كان ذلك بسبب نوع الحياة التي كنت أعيشها. كنت جزءًا من الحركة الجديدة وقتها، ولم يكن منطقيًا للمرأة ذات الشعر الطويل أن تذهب للعمل في القرية كل يوم وهي غاسلةٌ شعرها. لذا عندما تعيشين حياةً ما، فملابسك وكل أجزائك يجب أن تُناسب هذه الحياة لتكوني فعّالة.
إذا كنت ستذهبين للعمل في القرية قلقةً إذا ما كانت ملابسك ستتسخ، فلن تكوني عاملة جيّدة. عليك أن تنسي طريقة التفكير هذه. لهذا تغيّرت الملابس تدريجيًا في بلدان أخرى حتى تناسب نمط حياتهم الجديد. فالسؤال هنا هل يناسب هذا التغيير أو سواه أهدافنا ونمط حياتنا؟ إذا كانت الإجابة نعم، فربما علينا تبنيه، بصرف النظر عما إذا كان مُتبنىً في بلدان أخرى أم لا. فالملابس التي نرتديها لا تهم، ما يهم طريقة تفكيرنا.
شعبًا مفكرًا
أحيانًا، أحزن جدًا عندما أرى علماء يُفكرون ويتصرفون بطريقةٍ غير علمية. ولا أقصد التفكير والتصرّف في المختبر، بل في منازلهم وفي تعاملهم مع الآخرين. وحتى تصبح الهند كما نريد لها أن تكون، مجتمع منطقيٍ متحضّرٍ متمسكٍ بأرضه وتقاليده العتيقة، علينا أن نكون شعبًا مفكرًا، وعليكن أن تكنّ شاباتٍ مفكراتٍ لا يأخذن ما يأتيهن من أنحاء العالم، لكن يستمعن له ويحللنه، ثم يقررن إذا ما كان يستحق التبنّي أو الرفض. هذا هو التعليم الذي نحتاجه، تعليمٌ يُجهّز شبابنا للتأقلم مع هذا العالم المتغيّر والإضافة له.
الطريق لخدمة البلد
يعتقد البعض أن الطريقة الوحيدة لخدمة البلد هي عن طريق المناصب العليا. لكن كلنا نعرف أن أضخم الآلات ستعجز عن العمل لو كان مسمارٌ واحدٌ فيها غير فعّال، وهذا المسمار الصغير مهمٌ كأي جزءٍ كبير. نفس الشيء ينطبق على الحياة الوطنية. لا يوجد عملٌ أصغر من أن يكون مهمًا، لا يوجد شخصٌ أصغر من أن يكون مهمًا. للكل مهمةٌ ما، وإذا ما نفّذوا مهمتهم بشكلٍ جيّد، فالبلد ستكون بوضعٍ جيّد.
ومن خرافاتنا أننا صنفنا بعض العمل «عملًا قذرًا». الكنس مثلًا يُعتبر قذرًا. مناسبٌ لبعض الأشخاص، لكن الأغلبية يجب أن يبتعدوا عنه. اليوم نكتشف أن فضلات الحيوانات، التي تُعتبر قذرةً، أصبحت واحدةً من أهم الأشياء في العالم، وكثيرٌ من الاقتصادات العالمية تعاني لعدم امتلاكها ما يكفي من السماد.
هو ذا جمال الكون وتوازنه. كل شيء، مهما رأيناه قذرًا أو صغيرًا، له هدف. نحن، بعلومنا وآلاتنا، أعدمنا هذا التوازن، حتى إن لم نقصد. لا يقتصر انعدام التوازن هذا على المقياس الضخم، حيث البلدان والاقتصاد العالمي، لكن حتى على مقياس الأفراد أنفسهم. فهم يشعرون بالانعزال عن مجتمعاتهم، ليس فقط في الهند، بل في كل بلدٍ حول العالم.
كلها ما عدا البلدان التي تستخدم تعليمها وحكومتها لتُقنع الأفراد بفكرةٍ واحدة فقط. يُقال لنا أن الأشخاص هناك سعيدون جدًا، مهما كان الذي يفعلون. إذا قيل لهم نظفوا الشارع، فكلهم سينظفون، حتى المعلمون والعلماء سينظفون. ويُقال لنا أنهم سعيدون، وإذا كانوا فعلًا سعيدين، فلا بأس في ذلك.
مهمة نساء الهند
لكن لا أعتقد أننا في الهند نستطيع إجبار المجتمع على أي شيء. قد تستطيع إجبارهم خمسًا وعشرين عامًا، أو خمسين عامًا، لكنهم بعدها سينفجرون. نسمح في مجتمعنا بالكثير من الانفجارات الصغيرة لأننا نعلم أنها تُحافظ على استقرار المجتمع وتطوره، وستحمينا من انفجارٍ ضخمي فوضوي يعرقل تناغمنا.
لذا آمل منكن، أنتن الحاصلات على شرف التعليم، أن لا تفكرن فقط في الأهداف الوطنية خلال عملكن، بل في العمل أيضًا لخلق السلام والتناغم، لجلب الجمال لحياة شعبنا وبلدنا. أعتقد أن هذه هي مهمة نساء الهند الخاصة. نريد أن نخدم بلدنا بشدة، لكننا لا نستطيع أن نعزلها عن بقية العالم. ما نريد فعله هو تحسين العالم. لهذا علينا أن نرى مشاكل الهند في سياق مشاكل العالم أجمع.
كان شرفًا لي أن أكون معكنّ هنا. أهنئ اللواتي نجحنَ، وأرجو الأفضل للبقيات اللواتي أعلم أنهن سيصبحن أفضل. لهذه الجامعة سمعةٌ ممتازة، لكن علينا دائمًا الحرص على أن نكون أفضل ممن سبقونا. كل التوفيق لَكُنّ.
إنديرا غاندي أول وآخر رئيسة وزراء هندية
يُشار إلى أنه بعد هذا الخطاب بسنة، ثار بعض الشعب والسياسيين ضد حكم إنديرا، متهمينها بالفساد والدكتاتورية. ردًا على هذا أعلنت إنديرا حالة الطوارئ في البلد، والتي استمرت لعامين، قُيّدت فيها حقوق الصحافة والسياسيين، وأعطيت فيها صلاحيات عديدة لأبناء إنديرا رغم كونهم سياسيين غير مُنتخبين. انتهت حالة الطوارئ بانتخاب مُناهضٍ لإنديرا لمنصب رئيس الوزراء، إلا أنها كسبت المنصب مجددًا في عام 1980.
في عام 1984، وبعد أن أعلنت فرقةٌ متطرفةٌ من السيخ مناهضتها لحكومة إنديرا، أمرت إنديرا الجيش الهندي بمهاجمة هذه الفرقة. لم يهتم الجيش باختباء الفرقة في معبدٍ سيخي، فهاجمت بالجنود والدبابات، مدمرين أجزاءً من المعبد، وقاتلين العديد من الإرهابيين والحجاج الأبرياء.
وهذا كان القرار الذي أودى بحياة إنديرا قاندي، إذ اغتالها سيخيان كانا يعملان في حرسها الخاص بعد الحادثة بعدة أشهر. جاعلين إنديرا أول رئيسة وزراء هندية، والأخيرة، حتى الآن.