مابعد كورونا: ملامح الزمن الجديد
كيف يتشكل مستقبل مابعد كورونا؟ وكيف سيتواءام البشر مع المخاوف الجديدة التي جاء بها الفيروس؟ ما هو التأثير التي سيحدثه كورونا في المنظومة الاقتصادية؟
إن الطبيعة لم تخدعنا، بل إنها تكرر نفسها حد الملل. وما فيروسات كورونا القديم وإيبولا وسارس، والإنفلونزا الإسبانية والطاعون الأسود وسنة الرحمة والهواء الأصفر، وسواها من الجوائح التي نسيناها أو تناسيناها، إلا جزء من دورة الطبيعة التي تشمل الأوبئة الفتاكة، بالإضافة إلى موجات الجفاف والزلازل والبراكين وفيضانات تسونامي والإشعاعات الشمسية والكونية وانقلاب القطبين والعصور الجليدية وقصف النيازك.
ولعلنا نضيف إلى القائمة الحروب التي نشنّها على بعضنا لغير سبب واضح، اللهم إلا دعمًا للسنة الكونية التي تهدف إلى تحقيق «توازن» ما. ولا بد أن نعترف أننا -نحن البشر- نشكّل خرقًا بديعًا لهذا التوازن. فقد طوعنا الجوع بتقنيات الزراعة وتربية الحيوانات، وحجّمنا المرض -إلى حد كبير- بالتطعيم والبحوث الوراثية، وروّضنا عناصر الطبيعة بتقنيات هندسية عدة.
قرَّبنا المسافات وطورنا العملة الرقمية ووسعنا المدن واستهلكنا كل موارد الأرض بنهم شديد. والنتيجة أن تعداد سكان الأرض الذي لم يتجاوز المليار الواحد إلى العام 1800، قد بلغ ثلاثة مليارات عام 1960، ونحن الآن نقارب المليار الثامن. أما استهلاكنا للطاقة فقد تضاعف أكثر من خمس مرات منذ العام 1960. ولن نخوض في العبء الذي تشكّله هذه المليارات الثمانية من البشر كي تعيش حياة كريمة، داخل منظومة اقتصادية متكاملة، تبدأ قبل الولادة وتنتهي بالوفاة، وتقوم عليها حضارتنا المعاصرة.
اختلال منظومة الحضارة
هذه «المنظومة الاقتصادية» هي الضحية الأولى والحقيقية لفيروس كورونا. وحين نتكلم عن حالنا في زمن ما بعد الفيروس، فإننا لا نتكلم عن طفرة وراثية جينية ما ستحل بنا إثر هذه الأزمة. فلن نصير بثلاثة أعين مثلًا في زمن ما بعد الوباء، بل سنظل كما نحن، لكن تعاطينا مع المنظومة (منظومة الحضارة) هو ما سيتغير.
الحديث هنا عن مستقبل التعلم والعمل، وعن مستقبل تجارة التجزئة والأسواق والفنادق وشركات الطيران والمحاماة، وعودة الدوري الإنقليزي الممتاز. كيف سيتواءم كل ذلك مع المخاوف الجديدة التي جاء بها الفيروس؟ كيف ستنمو أعمال الشركات الكبرى كأمازون وأبل ومايكروسوفت وماكدونالدز وستاربكس وحركة الشحن البحري للخيرات عبر أركان الأرض مع هذا الزلزال الذي أجبر الناس على التزام بيوتهم؟
والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة جديرة بالتأمل، فأحد أبرز ابتلاءات هذه الجائحة اضطرارُنا إلى التزام بيوتنا، وكأن البيوت محض معتقلات، والحياة في كل ما يتجاوز أسوارها.
وهذه وجهة نظر فلسفية لن أخوض في تفاصيلها، لكن يجب أن نعي، ربطًا بما سلف، أن مغادرة البيت للعمل أو التشافي أو النزهة أو التسوق، وتحريك مليارات السيارات ووسائل النقل الأخرى وإعادة تزويدها بالوقود وصيانتها المستمرة، وهذا الانهيال على صالونات التجميل والمقاهي والأسواق والالتحاق بالجامعات والأكاديميات والتسجيل في النوادي الصحية – كله جزءٌ من المنظومة التي غيّرها الفيروس.
موجة من الخسائر
هل غيّرها حقًا؟ أم أنه يهددها تهديدًا يستتبع وضع ضمانات لتقليل الخسائر إذا ما حانت الجولة التالية مع الفيروس الذي سيتطور ويعود بلا شك. هذه سنّة طبيعية.
وبالحديث عن الخسائر، فلا شك أن الروح أغلى ما يمكن فقده، وهذا مرض قاتل إلى حد ما. هكذا تشهد الأرقام، وإن كان أقل فتكًا من الإيدز والانتحار المتعمد وحوادث السيارات، حتى شهر أبريل تحديدًا. لكنه يظل خطيرًا وسريع الانتشار بشكل مخيف، إذ يُتوقع أن يصيب 50% من البشر قبل أن تنحسر موجته، بل يتوقع تقرير صدر قبل أيام أن يضرب الفيروس ثلثي البشرية ولا ينحسر قبل عامين من الآن.
إن كل الإجراءات والقوانين التي نتجت وستنتج عن هذه الجائحة تهدف بلا شك لتجنيبنا الشر، حتى لا ينتهي بنا الأمر مرضى. والسؤال الذي يطرحه الكثيرون منا:
وماذا في ذلك؟ فلنمرض ولنتعافَ ولتستمر الحياة دون هذا التعطيل الذي نشهده.
لكن كيف تستمر الحياة إذا سقط ثلاثة إلى خمسة مليارات مرضى في الآن ذاته؟ كيف ستطير الطائرات وتشتغل منصات النفط ومحطات التحلية والكهرباء؟ من سيحاسب خلف مكاتب صناديق البيع في الأسواق المركزية ويرصّ البضائع على رفوفها؟ من سيوقع أوراقنا المهمة ويحرس حدودنا ويصلح أجهزتنا المتعطلة ويعلّم أبناءنا؟ والأهم، من سيعالج مرضانا؟
انهيار المنظومات الصحية
المنظومة على شفير الانهيار، ونعرف جيدًا كيف انهارت المنظومات الصحية في بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا. إن هذا الفشل هو ما تهدف الحكومات لتجنبه، لأنها ملزمة تجاه مواطنيها في المقام الأول، ولأنها لا تريد أن تفقد مصداقيتها أمام هؤلاء المواطنين.
وهذه ظاهرة شهدناها في العديد من دول العالم الأول خصوصًا، في أميركا مثلًا، حيث عُد إجبار الناس على ترك أعمالهم والتزام بيوتهم خرقًا صريحًا لقوانين الحرية الشخصية.
مستقبل الحريات الشخصية
ما مستقبل الحريات الشخصية في عالم ما بعد الوباء؟ هذا سؤال قديم يأتينا بصيغة جديدة اليوم. فبعد كارثة 11 سبتمبر والهوس الأمني الذي اجتاح العالم وما تبع ذلك من تنصت «قانوني» على المراسلات والهويات الإلكترونية بذريعة مكافحة الإرهاب، قلنا وقتها إن حرياتنا الشخصية قد اُنتهِكت.
لكننا ما لبثنا أن تعودنا على ذلك وتكيفنا معه. والآن تحت سطوة الوباء، تطبق دول مثل الصين واليابان إجراءات كفيلة برصد درجة حرارة الفرد عبر الهاتف الذكي وإرسالها إلى مراكز المتابعة دون موافقة الأفراد، وتتبع الكاميرات الذكية السائرين في الشوارع لينال كل اثنين متقاربين مخالفة فورية بتهمة تهديد الأمن العام. وستملأ عناصر الأمن الحدائق والشواطئ لتتأكد من تطبيق قانون «التباعد الاجتماعي» الذي سيصير سمة للمرحلة القادمة.
تحلّق طائرات الدرون اليوم فوق مدن الهند لتذكر الناس بأن يلبثوا في بيوتهم. ويرتدي المواطنون في هونق كونق أساور تعقب تتابع مدى تحركاتهم، وفي المدن المسلمة يُذكَّر الناس خمس مرات في اليوم بـ«ألا صلّوا في رحالكم».
لا تخالط!
قائمة التهم الجديدة في ظل أزمة كورونا مدهشة ومضحكة ومخيفة: الأعراس ومراسم العزاء والسفر بين المحافظات والاحتفال بالأعياد وشعائر التعبد الجماعية، كلها صارت مرفوضة وفقًا للقانون ولقاعدة حفظ الضرورات الخمس. وصارت «المخالطة» في حد ذاتها ممنوعة إلا في أضيق الحدود.
ولكن إلى متى يستمر هذا؟ إن هذا الكاركتر الخفيّ -المخالط- هو الأهم في هذا السيناريو الجديد، لأن المرض لم يعد يعني المريض الفرد ولا يؤثر في حياته وحده، بل صار يستتبع سلسلة طويلة من التحقيقات والاستقصاءات لمعرفة من خالطه؟ من اقترب منه بما يكفي لتوسيع نطاق الجائحة؟ لم حصل ذلك وتحت أي ظروف؟
هكذا سيُستجوَب الموبوء الجديد، ويُتتبَّع كل من خالطه لعزلهم فيزيائيًا في متتالية رياضية ستنتهي حتمًا بقيتوهات للاستشفاء.
هل تصير استمارة المخالطين جزءًا من إجراءات استخراج فيزا سياحية في الزمن القادم؟ هل سترفضك أميركا لأنك كنت في الصين خلال العام 2019؟ هل سترفضك الصين لأنك حضرت مباراة كرة في ملعب إيطالي مزدحم أوائل 2020؟ أو لأنك أصرّيت على أداء العمرة ما إن سُمح بذلك؟
سوق السياحة ما بعد الوباء
هل سيؤدي ملفك الشخصي الاجتماعي، كونك من ذوي الصداقات العريضة، إلى إعادتك أنت وكامل ركاب الطائرة من حيث أتيتم؟ ألن يصيب هذا سوق السياحة والسفر -التي قدّر حجمها بـ8 تريليونات دولار في عام 2017- في مقتل؟
بشكل ما، يبدو أن حظر السفر هو أفضل ما نفعله لإبقاء الفيروس بعيدًا عن حدودنا. لكن كيف سيكون شكل أول رحلة طيران دولية في زمن ما بعد كورونا؟ لا شك في أنها ستكون محفوفة بالمخاوف، وقد يُطلب من المسافرين جميعهم أن يحضروا قبل الرحلة بأربع أو ست ساعات ليخضعوا للفحص، على أن يحضر كل منهم جواز سفر طبي يثبت به سلامة تاريخه المرَضي.
كيف سيكون حجم قاعة الانتظار في المطار تحت قانون التباعد الاجتماعي؟ هل سينادوننا واحدًا واحدًا لنصعد الطائرة متباعدين؟ وكيف سنجلس في الطائرة متباعدين؟
هل سنُجبَر طوال الرحلة على لبس الأقنعة والقفازات؟ هل سيعقمنا الطاقم كل 30 دقيقة؟ كم ستستغرق إجراءات الوصول؟ لأننا بالتأكيد، سنُعقَّم ونُفحَص واحدًا واحدًا في محطة الوصول. هل سنُعزَل لمدة 14 يومًا حال وصولنا؟ والسؤال الأكثر إخافة هو: كيف سيستقبلنا شعب الدولة التي وصلنا إليها أخيرًا؟
كورونا، اليمين والعنصرية
ستتصاعد النزعة اليمينية والعنصرية لأكثر من سبب، بما يتجاوز المناكفات بين الإدارتين الأميركية والصينية.
فالمهاجرون الفارون من أتوا الفقر والبطالة سينافسون مواطني الدول الأكثر رفاهًا التي تعاني هي الأخرى. علّقت الولايات المتحدة الهجرة مؤقتًا، وسيغدو هذا ديدنًا في دول عدة مدفوعًا بوعود انتخابية رنانة واستحقاقات شعوبية ملحّة.
الإسبان والطليان والأميركان يعانون الآن، لكن هذه الدول ستتعافى -بعد معركة مريرة- وستصير لديها مناعة ضد الفيروس. لكن ماذا عن الشعوب الأقل حظًا وقدرة على المواجهة والتضحية؟ تلك التي اختبأت حتى مرّت السحابة القاتمة؟
ألن يعيد ذلك تعريف الرجل الخارق؟ يبدو ذلك إحياء لأسطورة العِرق السامي، وقد يؤدي إلى تصاعد نعرات عنصرية وترسيخ عقدة الأجنبي وبناء أسوار حقيقية على الحدود لقطع دابر الشر. لوم الأجنبي وتحميله تبعة فشل النظام ما هي إلا وسيلة غريزية للدفاع عن النفس ضد مخاوف المستقبل.
عودة للفردانية
مع تحدي النظام الرعوي والصحي واحتمال الاقتتال على الموارد التموينية والطاقة السريرية، يصير جحا أولى بلحم ثوره على نحو بالغ البراقماتية. هذا مثال عابر على الخوف الذي قد يتغوّل ويستفحل مع تزعزع ثقة الأفراد بقدرات حكوماتهم، وخوفهم على نصيبهم من حصة الرعاية الأولية.
ومثلما ينكفئ الأفراد على ذواتهم خلال الأزمة ليعيدوا تدوير ذواتهم، تنكفئ الحكومات والمجتمعات. ثمة نعرة اكتفائية وانكفائية لا سيما لدى الدول التي وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الأزمة. ويتجلى ذلك في أوربا التي بات اتحادها الآن أمام تقسيم نظري قد يرسخه الزمن القادم، بين شمال غني وجنوب مكافح. ويتضح هذا التصور في الموقف السياسي الإيطالي مثلًا.
سيشهد زمن ما بعد كورونا عودة الفردانية في التعاطي مع الجائحة، وتحقيق الحد الأدنى من الأمن الوقائي على مستوى الدولة بغض النظر عن الأحلاف والتكتلات، لأنه «ما حك ظهرك مثل ظفرك»، وأثبتت الأيام أن التعاون الدولي هش بهشاشة مناعة الإنسان.
الهيكيكوموري العالمي
ومن من أهم مظاهر المرحلة الانكفاء على الذات أو ثقافة العزلة. وإن كانت وسائل التقنية الحديثة قد خففت كثيرًا من وطأة الاعتزال الذي فرضته الحكومات على الناس، فإن هناك نوعًا من عقيدة الاعتزال الجديدة قيد التشكل وقد تستثمر فيها الأسواق الخدمية لتعززها وتستفيد منها، مثل خدمات التوصيل والمتاجر الإلكترونية والتعليم والعمل عن بعد.
في اليابان، تُعرف الهيكيكوموري بالفئة التي ترفض مخالطة الناس طواعية، وتعتزل الحياة بكامل أشكالها طواعية في بيوتها أو بيوت والديها. قد يُشخَّص هذا العرَض بكونه حالة مرضية، لكن شهرين من الوباء بينت لكثير من الناس أن بيوتهم جنّات مخبوءة، وأن مواجهة الوحدة أرحم من مواجهة الحياة المعاصرة بضغوطها غير المبررة التي فرضتها قسرًا منظومة العمل التي جمّدها الفيروس إلى حين.
سياسة شد الحزام
كي تعود هذه المنظومة للعمل من جديد، فإنها ستعبر مرحلة صعبة عنوانها «سياسة شد الحزام»، وستقتضي إجراءات اقتصادية صارمة للحد من الإنفاق الحكومي وتعويض المتضررين. وسينعكس هذا على المنشآت المتوسطة والصغيرة، وتتضاعف معدلات البطالة في سوق العمل مع تسريح آلاف الموظفين دفعة واحدة، ومعها ستزيد إعانات الضمان الاجتماعي، ما سيضع ضغوطًا متزايدة على الحكومات ويخلق أثرًا اجتماعيًّا يتجلى في أنماط الإنفاق والاستهلاك.
سيؤدي شد الحزام إلى إعادة حسابات الأسر والأفراد، وإعادة برمجة أولويات الحياة، وهذه نتيجة واضحة لأول شهرين من الحظر الذي نعايشه. فقد اكتشف كثيرون منا أخيرًا -بدهشة- أن مصاريفهم أصبحت أقل وأن بوسعهم التوفير من رواتبهم. كيف سيؤثر ذلك على سلوكيات الرفاه والاستهلاك؟ ليس هذا وقت السيارات الجديدة والهواتف الجديدة والمطاعم الجديدة، لأن الطلب يقود العرض ولأن التنقل والتسوق بالكمامات والقفازات غير عملي.
هذه العقلية الجديدة خطيرة جدًا على المنظومة المبنية في الأساس على تهييج وازع الاستهلاك. نعرف أن العالم قد مرّ بركود -أو كساد- مشابه أثناء أزمة 2008/2009 الاقتصادية، لكن انتشار الأزمة هنا أكبر وأعمق وتأثيرها السلوكي أشد رسوخًا على نطاق عالمي.
أدب الوباء
من الظواهر السلوكية الظريفة التي أوجدها الحظر أيضًا انتعاش أدب العزلة، ومثله ثقافة الإنتاجية، إذ قرر فريق من الشباب استغلال كل دقيقة من هذه «التجربة» الجديدة ويوثقها ويطور نفسه خلالها، فيعيد تصميم الديكور الداخلي لمنزله ويقرأ كل الكتب التي تجمع عليها الغبار فوق الرفوف ويشاهد روائع السينما العالمية أخيرًا.
كل هذا لطيف، وإن كان لا يُعتقَد أنه سيستمر على ذات المنوال إذا استمر الحظر الوبائي -نظريًا- لعدة أشهر تالية. ثم إن الفراغ خطير، والخبز يحتاج لمن يأتي به للمائدة. كيف ستفتح البيوت ونتطور وظيفيًا إذا طال زمن الحظر؟
العمل عن بُعد
شهد سهم شركة زوم انتعاشًا خلال زمن الجائحة. وهذا منطقي وينطبق على كل تقنيات التواصل عن بعد مثل سكايب وقوقل دو وسواهما، لا سيما مع اضطرار الموظفين إلى عقد الاجتماعات عن بُعد خارج مواقع العمل بسبب تعليمات التباعد الاجتماعي.
لا يمكن لهذه الهبّة أن تستمر طويلًا، ولا يعوّل عليها بشهادة العارفين. والحقيقة أن التحرر من التزامات بيئة العمل الرسمية بقدر ما يبدو مغريًا لأول وهلة، فإنه يقود إلى معضلات قد تؤثر على جودة العمل وعلى الاستقرار النفسي والأداء الوظيفي. ولنكن صريحين مع بعضنا، ماذا نفعل حقًا بينما «نحضر» اجتماعًا عن بعد؟
الالتزام بمواعيد عمل ثابتة جزء من الروتين الذي ينظم يوم الإنسان، وما سوى ذلك أشبه بالفوضى السائلة التي يختلط فيها الليل بالنهار وتتهاوى الفوارق بين الوقتين الخاص والعام.
إننا نتأنق ونهتم أكثر بالمظهر الشخصي حين نغادر بيوتنا لنقابل زملاء عملنا وجهًا لوجه. وقد نتفادى العناء والتكلفة التي تترتب على ذلك بالعمل من المنزل، لكن إلى أي مدى؟ ثم إن الحضور للعمل عامل مهم لتعزيز فكرة الانتماء إلى الفريق والإحساس بعدم الإقصاء، كما أن الحياة بالبيجاما لأيام عديدة تشكل تحديًا راديكاليًا للمعنى.
التعليم عن بعد
وما يقال عن العمل عن بعد ينطبق على التعليم عن بعد. ولعل قطاع التعليم سيدفع الثمن غاليًا جدًا، لا سيما وقد تعطلت المدارس والجامعات، وما يزال العام الدراسي المقبل يقبع في غياهب المجهول. ولا تقتصر المعاناة على عذاب الآباء والأمهات مع أبنائهم غير المنضبطين على منصات التعليم الإلكترونية، وسيل الواجبات والامتحانات الذي يغمرهم به المعلمون ليشغلوا أوقاتهم الخاوية.
أما التعليم الجامعي، فلا شيء أسوأ من تأخر التحاق الطلاب وتسديد رسوم انتسابهم التي تدفع رواتب الأساتذة وتموّل أبحاثهم. وبسبب الفيروس، فإن الجامعات حول العالم مقبلة على عام دراسي خلوٍ من الطلبة المستجدين، أي أن خريجي سوق العمل سينقطعون لمدة عام على الأقل، وهذه قاصمة اقتصادية أخرى.
مستقبل الذكاء الاصطناعي
ماذا عن القطاع الصحي؟ فالعاملون الصحيون شهداء المرحلة بلا شك. ولعل تطوير تقنيات الطبابة عن بعد يشكل حلًا منقذًا لهم يقيهم شر الاختلاط المباشر بالمرضى، ما يأخذنا إلى المستقبل الواعد للروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في زمن ما بعد كورونا.
ستحل الروبوتات أكثر من إشكالية؛ ستنظف وتعقم وتراقب وترصد المسافات بين الناس في الأماكن العامة ودرجات حرارتهم وعلاماتهم الحيوية.
وستراقب تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحركات سياراتنا وتبلغ السلطات إذا حصلت زيادة في الحركة أو تجمعات غير مقبولة، وستراقب ما يبحث عنه أحدنا على الإنترنت، لتستنتج من ذلك ما إذا اختبئ مريض ليبحث عن أعراض الإصابة فتبلغ عنه، أو ما إذا كان هناك اهتمام متزايد بمنتج ما فتعزز من طلبيات شحنه وتصنيعه، والمهمتان الأخيرتان ستقوم بها روبوتات أيضًا.
ستشغل التقنيات الذكية منصات النفط ومحطات الطاقة وستراقب حركة النقل الجوي والبحري، وتدير تطبيقات الترفيه والبث الترفيهي، وتوصل الدرونات الطيّارة البيتزا والأدوية؛ وسيسهم ذلك كله في تعزيز السلامة العامة وتقليل المخالطة، ويحد من حركة السيارات ويخفض من انبعاثات الملوثات التي قلّت بالفعل بشكل مدهش منذ تفشي الجائحة.
تبدو الروبوتات حلًا مستقبليًا ممتازًا لإشكالية العمالة الفقيرة التي تمثل خط المواجهة لاستمرارية الحياة اليومية، وتمثل كذلك البؤرة الأنشط لتفشي الوباء بسبب ظروف معيشتها المتواضعة. لكن كم روبوت موجود حاليًا لتوصيل الطلبات أو جمع النفايات؟ يكفي حديثًا عن الإنسان الآلة، ماذا عنّا نحن البشر؟
التكيف مع الوباء
إننا سنتكيف، وسنتعود ونجد حلولًا. سمحت إسبانيا لمواطنيها بالتنزه في الشوارع بعد أربعين يومًا من الحبس المنزلي، وأرخت كوريا الجنوبية إجراءات حظرها أخيرًا. وفي الواقع، وعودًا على البدء، فإن المنظومة ستجد حلولًا لتستمر.
ستُكتب الروايات والأعمال الدرامية لتصف المرحلة وتستحضر الزمن الماضي بحنين، وستظهر دراسات سوسيولوجية تحلل سلوك الناس في ظل الأزمة، وسيتكلم خطباء المساجد عن أهمية التآخي والتآزر، وغالبًا لن يكون لهم تأثير كبير على المستمع الذي يشغل باله أمر البحث عن أكياس البصل النادرة.
لا يمكن لأي كان أن يحدد بدقة مدى التأثير الذي ستخلفه هذه الجائحة على التاريخ والجغرافيا، لأننا لا نعرف حجمها الحقيقي بعد. وكل ما يمكننا فعله أن نخمن ونتوقع وأن ندعو ألا يطول بنا الأمر.
غياب منظومة الرفاه
ولكن علينا أن نذكّر أنفسنا أن حظر التجوال وانتفاء الخيارات الطبيعية، وأزمات البيض والليمون ونقص المناديل وورق التواليت، وفقد أبسط مقومات الحريات الشخصية، تُعدُّ مشاكل يومية اعتيادية يتعايش معها الملايين في مخيمات اللاجئين ومدن الصفيح وميادين الحروب.
إنهم الملايين الذين تجاوزتهم المنظومة، والذين قرروا أن يتشبثوا بالحياة دون أساسياتها، منظومة الرفاه والوفرة وحرية التنقل والاختيار؛ وهذا هو المبرر الحقيقي لخوفنا المريع من كورونا ومآلاته.
إن هذه التجربة حافلة بمرارات وذكريات مؤسفة، وسنتوقف عند القرار المصيري الذي وجد الممارسون الصحيون أنفسهم في مواجهته في عز الأزمة وقلة الموارد:
من سيتُرَك ليموت اليوم كي يعيش الباقون؟
سؤال يحفر عميقًا في المعنى، معنى الحياة والخير والشر والعدالة.