الوباء الذي قتل امرأ القيس
يكاد القدماء يتفقون على أن امرأ القيس مات مسمومًا ولكن بعض المتأخرين يستنكر هذه الرواية حيث ينسبون وفاة امرئ القيس إلى وباء الطاعون الذي أصابه في بيزنطة.
يتغيَّر فهم التاريخ بأمرين: اكتشاف مصادر جديدة، أو إعادة تأويل المصادر المتوفِّرة، وقد يكون قليلًا من هذا وذلك. وكمحققٍ يحاول كشف ملابسات الجريمة، يمكن لقارئ التاريخ أن يُحقق في المصادر المتوفرة في مظان بعيدة ويقابل بينها، ليرى إن كانت أقوالها تؤازر بعضها البعض أم تناقضها، ثم يربط الخيوط بينها. وحياة امرئ القيس وموته قصة جنائية جديرة بالمحقق شارلوك هولمز، أو ربما بعالم وبائيات.
امرؤ القيس -الملك الضليل وذو القروح- (نحو 501–544م) هو أشهر شعراء الجاهلية وفي الطبقة الأولى منهم. كتب قصائد عُدَّت من المُعلَّقات، وعاش حياةً وإن كانت قصيرة إلا أنها كانت حافلة بالأخبار والأحداث، أشهرها مقتل والده الملك واضطراره إلى البحث عمَّن يعينه لاستعادة مُلكِه السليب، وقصة استجارته بالسموأل. وتختلف الروايات في حياة امرئ القيس كما هو معهود في شأن التواريخ السابقة للكتابة، لكن تتفق كلها على أسبقيته وشاعريته. يقول فيه علي بن أبي طالب:
«رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة»، ولمَّا سُئِل الفرزدق عن أشعر الناس قال: «ذو القروح».
تراجيديا امرئ القيس
يكاد القدماء يتفقون على أن امرأ القيس مات مسمومًا، حين وشى به أحد أعدائه إلى قيصر فسمَّهُ بحُلَّة مسمومة سرى منها السم إلى جلده. يقول ابن كثير:
وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجد في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال: إنه سقاه سُمًّا فقتله، فألجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب
ولقد كان موضوع الوشاية موافقًا لِمَا عُرف عن امرئ القيس في شبابه من تهتُّك وتهالك على النساء. وتوحي الرواية أن قيصر إنما غار على ابنته من تشبيب امرئ القيس بها فانتقم بتسميمه، فكأن هؤلاء القدماء يجعلون سقوط امرئ القيس نتيجةً طبيعية لنواقصه الشخصية المتمثلة في حب النساء والخمر واللهو، وهي الوصفة التقليدية للتراجيديا.
أما المتأخرون فبعضهم يستنكر هذا وينسب وفاة امرئ القيس إلى أسباب طبيعيَّة، ويقول بعضهم إنه مات بالجُدري، بناءً على الوصف الذي ورد في شعره للقروح التي أصابت جلده. ونرى أن الروايتين تخالفان الصواب، وإن كانت رواية المتأخرين أقرب إلى الحقيقة.
الموت الأسود
تنتشر الأوبئة والجوائح من عصر لآخر، وتسم العصر الذي تظهر فيه، وقد تُخلِّف وراءها تغيُّرات سياسية واجتماعية وسياسية. وقد أدى طاعون القرون الوسطى في أوربا، المسمى «الموت الأسود»، إلى تغيير الموازين الاقتصادية. فكثرة الموتى في السكان أنتجت نقصًا في الأيدي العاملة، مما منح الفلاحين والعمال قوةً تفاوضية أكبر إزاء ملاك الأراضي والإقطاعيين، وقد يكون من نتائج هذا أن ظهرت الطبقة الوسطى ونشطت الصناعة وقامت الثورتان العلمية والصناعية.
كما أن الأوبئة كانت في خدمة الأوربيين في فتحهم للعالم الجديد، إذ عاونتهم في تفريغ القارة من سكانها الأصليين الذين لم يكن لهم عهد بأمراض العالم القديم التي شاعت لآلاف السنين، واكتسب سكانه مناعة إزاءها، مما اضطرَّ الأوربيين إلى جلب العبيد من إفريقيا لحراثة أراضي العالم الجديد والعمل في مناجم ذهبه وفضته.
حروب جستينيان الأول
في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس، كان يحكم الإمبراطورية البيزنطية -أو الروم كما يسميهم العرب- قيصر يدعى جستينيان الأول (نحو 482–565م). وتقييم عصر هذا الإمبراطوري ليس سهلًا، فمن جهة حقق إنجازات معمارية كبناء آيا صوفيا وإنجازات سياسية كمدونة جستينيان القانونية التي وحدت شمل القوانين الرومانية المتباينة، ومن جهة أخرى أطلق حربًا بقيادة جنراله البارع بليساريوس لاستعادة الإمبراطورية الرومانية الغربية التي سقطت في أيدي القبائل الجرمانية.
لكن لم يبق من الإمبراطورية التي استعادها بعد وفاته شيء، ولم يُخلِّف لمن بعده إلا خزائن فارغة إذ صرف الأموال في العمارة وفي الحروب، سواءً حروب الفتح في الشق الغربي من الإمبراطورية، أو الحروب الدفاعية أمام الفُرْس في الشرق. يقول ويل ديورانت:
لقد نسي التاريخ حروب جستنيان، وحُقَّ له أن ينساها، ولا يُذْكر اسمه إلا مُقترنًا بقوانينه
كما أن ميله إلى التوحيد السياسي كان في مجال الأفكار، فرغم انكبابه على الدرس والقراءة ومناقشة دقائق العقائد الدينية مع الفلاسفة والعلماء، شنَّ حربًا على المخالفين دينيًا، وكان من ضحايا هذه الحرب المدارس الفلسفية الوثنية في أثينا.
طاعون جستينيان
في العام 542م، ظهر في القسطنطينية عاصمة البيزنطيين الطاعون الدملي (Bubonic Plague) الذي يُنسب إلى جستنيان ويسمى «طاعون جستنيان». وهذا الطاعون ناتج عن بكتيريا تُدعى اليرسينا الطاعونية (Yersinia pestis)، وهي بكتيريا حيوانية المنشأ وتنتقل عن طريق القوارض والبراغيث. ولا يُعرَف على وجه اليقين مصدر هذا الطاعون وكيف وصل إلى القسطنطينية، ولكن بروكوبيوس -مؤرِّخُ عصر جستنيان- يرجِّح أنه جاء من مصر.
وفي هذا الشأن يقول المؤرِّخ إدوارد قيبون في «تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» (The Decline and Fall of the Roman Empire):
لقد وُصِمَت إثيوبيا ومصر، في كل عصر، على أنهما مصدر الطاعون وبؤرته
وقد يكون في هذا شيء من الصحة، بسبب اعتماد القسطنطينية على غلال مصر وقمحها، وانتقال القوارض والبراغيث في السفن، ولكن الإسكندرية كانت مركزًا تجاريًّا ونقليًّا لجميع البحر الأبيض المتوسط، وقد يكون وصلها من وسط آسيا أو أقصى شرقها. يقول بروكوبيوس في كتابه «الحروب الفارسية» (History of the Wars, Volume I: Books 1-2) في أحداث العام 542م:
وفي تلك الأزمان كان هناك طاعون كاد يقضي على الجنس البشري قاطبة
وبعد أن يسفِّه آراء من يسميهم أصحاب الفلسفة الطبيعية، يحاول البرهنة على أن مصدر هذا الطاعون إلهي:
إذ لم يصب بقعة معينة من العالم أو قومًا مُعينين، ولم ينحصر في موسم واحد من السنة، ومن ثمَّ يمكن في هذه الظروف أن نجد تفسيرًا دقيقًا لعلته، ولكنه شمل العالم كله وأصاب حياة كل البشر، على اختلاف أجناسهم وأعمارهم
اليمن تحت الاحتلال الحبشي
قريبًا من ذلك الزمن، ولعله في ذات الزمن، نجد امرأ القيس يشرع بالتوجه إلى قيصر (جستنيان)؛ إذ لم تسر الأمور كما كان يريد لها أن تسير، ولم يتحقق له طموحه السياسي. يقول امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونهُ
وأيقن أنَّا لاحقانِ بقيصرَا
فقلت له: لا تبكِ عينك إنما
نحاولُ مُلكًا أو نموت فنُعذَرا
ويقول في البيت الذي يسبق هذه الأبيات:
ولو شاء كان الغزو من أرضِ حِمْيرٍ
ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرَا
وحُقَّ لنا أن نسأل: لماذا لم يختر امرؤ القيس اليمن موطن أبيه وموئل قبيلته كندة، ليكون منها الغزو الذي سيحقق طموحاته السياسية؟ إذا عدنا إلى التاريخ الجيوسياسي للمنطقة، سينتفي العجب. ذلك أنه في العام 525م وقعت اليمن تحت الاحتلال الحبشي.
كان لهذا الاحتلال دوافع اقتصادية ودينية، فكان الدافع الاقتصادي تأمين طرق الملاحة على ضفتيْ مضيق باب المندب والطريق المتجه إلى الهند، وتفويت فرصة وقوع اليمن في أيدي الفُرس العدو الاستراتيجي للبيزنطيين. أما الدافع الديني فهو أن حكام اليمن الحِمْيَريين اعتنقوا اليهودية وبدؤوا يضطهدون المسيحيين في اليمن، فدفع هذا الحبشة (وهي مملكة مسيحية) وبدعم من جستنيان إلى نجدة إخوانهم في الدين.
يقول ابن خلدون في كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر» في خبر احتلال الحبشة لليمن:
أفلت دوس [رجل مسيحي من نجران] فقدم على قيصر صاحب الروم [جستنيان] يستنصره على ذي نواس [ملك الحميريين المُتهوِّد]، وأعلمه بما ركب منهم وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار، فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره وطلب بثأره… وإنه [أن النجاشي] اعتذر بقلة السفن لركوب البحر، وكتب إلى قيصر… فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة
حلفاء كسرى
إذن نحن هنا بإزاء نوع مبكِّر من التدخل الإنساني الدولي المدفوع -على التوسُّع- بإنهاء انتهاكات حقوق إنسان. ولكنه ككل تدخُّل إنساني، لا بُدَّ له من دافع جيوسياسي واقتصادي.
وهكذا لم يكن خيار «الغزو من أرض حِمْير» واردًا، فأرض حمير نفسها تحتاج إلى من يحررها. ولذا فلم يكن لامرئ القيس إلا أن يقصد «قيصرا». ولكن لماذا لم يقصد كسرى؟ فالفرس هم الخيار الطبيعي ما دام قيصر هو الذي يدعم الاحتلال الحبشي لليمن، موطنُ امرئ القيس.
يظهر أن هناك تعقيدات سياسية أخرى تتعلق بأن بني أسد (القبيلة المناوئة لامرئ القيس التي قتلت أباه) ترتبط بمحالفة مع المناذرة حلفاء الفرس، ولذا لم تكن الاستعانة بالساسانيين مُتاحة.
اللجوء إلى قيصر
عمد امرؤ القيس إذن إلى قيصر. ونعرف أن التنقل في ذلك الزمن يتطلب وقتًا طويلًا، فلنقل إن امرأ القيس نفر إلى القسطنطينية نحو العام 542م، أي في تلك السنة التي ظهر فيها الوباء في المدينة. ولنقل إنه وصل المدينة نحو العام 543م، وبقي فيها ما شاء له البقاء، يأكل في حوانيتها ويشرب في مشاربها ويجرع ماءها ويمشي في أسواقها، قبل أن يتهيأ له لقاء القيصر جستنيان.
كانت بيزنطة تشتهر بالشكليات والأُبَّهة، وما كان لامرئ القيس هذا العربي القادم من الصحراء أن يحظى بلقاء قيصر من دون إجراءات كثيرة. ولنقل إن لقاء قيصر تهيأ له في نهاية العالم 543م، واستمع قيصر لعرض هذا العربي: أن يمده بالرجال والعتاد لأجل أن ينتقم من قبيلة في الصحراء العربية قتلت أباه.
وأيُّ رد من يمكن أن ننتظره من قيصر سوى أن هذه المغامرة محفوفة بالمخاطر ونجاحها لا يجلب نفعًا عظيمًا على الإمبراطورية؟ خصوصًا في الوقت الذي أفلست فيه خزائنها في محاولة استعادة الشق الغربي من الإمبراطورية في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيطالية، وفي محاولة صد عدوان الفرس الساسانيين من الشرق الذين نجحوا في عام 540م في نهب مدينتيْ حلب وأنطاكية، أي أنهم كانوا على مشارف آسيا الصغرى، وفي محاولة تطويع القبائل والشعوب في البلقان.
وما يزيد الطين بلة أنه لم يمر إذ ذاك إلا سنوات قلائل على السنة التي يُقدِّر العلماء أنها إحدى أسوأ السنوات في التاريخ البشري، وهي سنة 536م. ففي تلك السنة ثار بُركان في آيسلندا، ونتج عنه سحابة من رماد لفت الجزء الشمالي من الأرض لنحو 18 شهرًا بالظلام، فانخفضت درجات الحرارة إلى أدنى مستوياتها، مما أدى إلى فشل المحاصيل الزراعية ومن ثمَّ عموم المجاعة. ولم تتعافَ المنطقة اجتماعيًّا واقتصاديًّا من هذه الكارثة تمامًا إلا سنة 640م، أي بعد قرن ونيف.
امرؤ القيس يعود أدراجه
هكذا لم يكن مزاج قيصر يسمح بأن يقدِّم هذا العون لامرئ القيس، ولم تكن الظروف الجيوسياسية تسمح بهذا العون. ومن ثمَّ لم يبق له إلا أن يعود أدراجه، وكما يقول في إحدى قصائده:
وقد طوَّفتُ في الأفاقِ حتى
رضيت من الغنيمة بالإيابِ
ولكن كما سيتبين، فحتى هذه الغنيمة المتواضعة لن تُكتب له. بظننا أنه أثناء مقام امرئ القيس في القسطنطينية، التي كما ذكرنا كانت في غمرة جائحة الطاعون، أصيب بالعدوى. وتذكر بعض التقديرات أن الطاعون قضى على 40٪ من سكان المدينة، كما يذكر التاريخ أن القيصر جستنيان وعددًا من وزرائه أصيبوا به. إذن ليس بعيدًا أن يكون امرؤ القيس أصيب بالعدوى وهو في المدينة أو في القصر، وقد كانت البكتيريا في حالة حضانة، إذ تستمر عدة أيام قبل أن تظهر الأعراض.
وبين القسطنطينية وأنقرة -حيث ظهرت الأعراض على امرئ القيس وحيث تُوفي ودُفِن- نحو 400 كلم، والمسير بينهما يستغرق عدة أيام، فعندما ظهرت أعراض الطاعون به كان قد قارب أنقرة، واضطر إلى النزول -كما يذكر الرواة- عند جبل يدعى عسيب. وقد ذكر امرؤ القيس الأعراض التي أحسَّ بها في قصيدة قالها:
وما خفت تبريح الحياة كما أرى
تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعةً
ولكنها نفسٌ تَسَاقَطُ أنفسَا
وبُدِّلتُ قرحًا داميًا بعد صحةٍ
فيا لكِ من نُعمى تحوَّلنَ أبؤسَا
التاريخ ليس مؤامرة
تتضمن أعراض الطاعون الدملي الشعور العام بالتوعُّك، وتقلُّص العضلات، وتورُّم الغدد اللمفاوية، والغرغرينا التي تُصيب الأطراف. والأهم في تشخصينا لحالة امرئ القيس، أن جلد المُصاب يتعفَّن ويهترئ ويتساقط بينما هو حي، ومن هنا جاء تعبير امرئ القيس عن النفس التي تتساقط بالتدريج، والقروح التي تصيب الجلد والتي سماها القروح الدامية.
هاتان الحقيقتان (حقيقة انتشار جائحة «طاعون جستنيان» في زمان وجود امرئ القيس في القسطنطينية، وطبيعة الأعراض التي تكلَّم بها امرؤ القيس) كفيلتان بتبرئة قيصر من دم امرئ القيس. ولو أن قيصر أراد أن يلحق الأذى بامرئ القيس لما احتاج إلى تكلُّف هذه الحيلة المُعقدة واللجوء لسلاح بيولوجي، إذ كان يكفي أن يأمر جنده بأن يقتلوا امرأ القيس أو أن يفقؤوا عينيه كما هو جارٍ في البلاط البيزنطي.
قد تكون حقائق التاريخ أبسط بكثير مما يريد لها المؤرخون أن تكون. التاريخ ليس مؤامرةً وإن كان هناك مؤامرة في التاريخ. ذلك الشاب العابث المغرم بالنساء والخمر لا يجب أن يموت موتةً تليق بحياته وتعطيها معنى، ولا يجب أن يتغزَّلَ بابنة ملك وأن يُوشى به لينتقم الملك بتسميم حلة وإهدائها إليه، ليموت موتةً بطيئة ومؤلمة.
الحقيقة أن عددًا لا يحصى من الناس يسقطون ضحية للأوبئة، وفي جائحة جستنيان يقدَّر عدد الضحايا بما يقارب 50 مليون إنسان. وكونك شخصًا استثنائيًّا، لا يجنبك هذه الموتة الاعتيادية التي تصيب المشهور والمغمور، والشريف والسوقي.
وافت المنية امرأ القيس بقرب أنقرة، عند جبل يدعى عسيب، وفي هذا قال:
أجارتنا إنَّ الخُطُوبَ تنوبُ
وإني مُقيمٌ ما أقام عسيبُ
أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيبُ
وليس غريبًا من تناءت ديارُهُ
ولكن من وارَى التُّرَابُ غريبُ
صورة الغلاف من ويكي داتا