مكة مدينة لا تتوب عن الدوران
كل شيء في مكة يمارس الطواف؛ البشر، الحمام، البيوت، الجبال. لا يوجد فيها طريق مستقيم واحد. كل شيء مقوسٌ ويأخذك في دائرة حول قلبها المربع. حتى طبائع البشر.
كل شيء في المدينة يمارس الطواف؛ البشر والحمام والبيوت والجبال. لا يوجد فيها طريق مستقيم واحد. كل شيء مقوسٌ، يأخذك في دائرة حول قلبها المربع، حتى طبائع البشر. في الكويت، كل الطرق تؤدي إلى البحر. في نيويورك، كل الطرق تؤدي إلى منهاتن التجارية، في باريس كل الطرق تأخذك إلى قوس النصر، في القاهرة كل الطرق تأخذك إلى النيل.
لكل مدينة قلبها ومحورها، وفي مكة كل الطرق تدور وتدور وتدور حول الكعبة. كأنما بنيت المدينة على يد إعصار حلزوني مقدس، يموج بك في كل جهات الأرض، ثم يأخذك بغتة إلى الكعبة. جذب هذا الإعصار أعراقًا وأجناسًا إلى قلب مكة. إعصارٌ لم يتوقف منذ فجرت أنامل إسماعيل زمزم، جذب الطيور والنسور وقبائل جُرْهُم.
المدينة الكوزموبوليتية
كلما تحدث عن الناس عن التعددية والهجرات (كوزموبوليتان) في المدن العالمية الجديدة؛ نيويورك ولندن ودبي وشانغهاي، تذكرت أنا مكة. إذ طالما رأيتُ وقرأتُ وآمنتُ بإن مكة من أقدم مدن العالم التعددية. عرفت مكة هذه الكوزمبوليتانية لثلاثة أسباب: الحجاج والمعتمرين، العلماء والزهاد، ثم التجار. والسبب الأكبر في رأيي هم العلماء.
فقد عرفت مكة والمدينة مصطلحًا لم يُعرف في العالم كله، وهم فئتا المجاورين وفئة النزلاء؛ مجموعة من العلماء أو طلبة العلم، يأتون من أماكن مختلفة من العالم بقصد التعلم أو التعليم أو بحثًا عن موت مقدس. أما المجاورون فيأتون لفترات طويلة لكنها مؤقتة. بينما النزلاء، فيعتزمون ميتةً ساجدةً. ظاهرةٌ حيّرت الرحالة الذين سافروا حولوا العالم ليسجلوها.
فنرى ابن بطوطة يخصص فصلًا كاملًا عن المجاورين في مكة وأحوالهم وأغلبهم من الزهاد والعلماء. والكثير من الآخرين يسجلون هذه الظاهرة. فتراهم يتحدثون عن عالمٍ جاء من كوجرات الهند ليدرس الفقه في الحرم. قاضٍ جاء من حلب ليفصل بين الناس، وزاهد جاء بخارى، ونحوي جاء من مراكش، ومفسرٌ جاء من تونس، وطبيب جاء من البلقان. فسيفساء حضارية لن تجدها في مكان آخر.
المدينة في التاريخ
بدأت هذه الظاهرة على أيدي العباسيين حينما تمكنوا من بسط الأمن على مكة وطرقها، فتحولت بشكل تدريجي إلى ملاذٍ لبعض الأمويين الهاربين من سطوة العباسين وإلى مقرٍ للزهاد (من أشهرهم الفضيل بن عياض). ثم مع كثرة الأوقاف والصدقات التي كان الخلفاء يبعثونها إلى أهل مكة، تحول الأمر إلى واقع اجتماعي يجد من يموّله ويدعمه.
واستمرت على يدي الأيوبيين على مستوى العلماء وطلبة العلم. وتجد في رحلة ابن جبير (معاصر لفترة حكم صلاح الدين الأيوبي) ذكرًا للعلماء الكبار المجاورين للحرم. لكن بدءًا من عصر المماليك ومن ثم الأتراك، دخل متغير جديد على المعادلة في مكة. إذ كانت ولاية مكة خالصة للأشراف دون تدخل من الدولة. ولكنهم في عصر المماليك قَبِلوا بولاية الأشراف على مكة مقابل أن يكون لهم ممثلون إداريون في مكة: باشا ومحتسب ودفترادار وقضاة. حينها بدأت هجرة الكثير من المماليك ومن بعدهم الأتراك الإداريين للسكن في مكة كموظفي دولة.
عيون زرقاء وضيقة
أحضر المماليك معهم أسرهم وبيوتهم واستقروا فيها ليضيفوا عيونًا زرقاء (المماليك) وعيونا ضيقة (الأتراك) على مكونات مكة المختلطة. وفي ذات الوقت نجد أن السلاطين في هذه الفترات اهتموا بالمجاورين وأوقفوا لها مدارس ومباني خاصة للسكنى والتدريس، ليحسنوا من أوضاعهم ويشجعوا المزيد من الطلبة والعلماء لمجاورة مكة. ولعل أشهرها مدرسة السلطان المصري المملوكي الأشرف قايتباي الذي أسس مدرسة وسكنى للمجاورين، بنيت على أحسن وجه، وقُسمت على أقسام كبيرة لتدريس المذاهب الأربعة.
حينما تقرأ التاريخ وفي كتب الطبقات، ترى تنوعًا في المجاورين: يمنيين وشاميين ومصريين ومغاربة وشناقطة وهنودًا وأتراك وأفغان (يسمونهم في مكة السليمانيين) وجاويين وحبشيين، وقس على ذلك التنوع ما شئت. وترى تحت كل عرقٍ من هؤلاء أعراقًا داخلية متشعبة. فاليمنيون ينقسمون على حضارمة وعدنيين وتهاميين. أما الجاويون ففيهم الإندونيسي والماليزي والتايلندي. لسببٍ أجهله لا أرى في التاريخ والحاضر تواجدًا لهجرات عراقية وفارسية!
أوجد هذا التنوع في الهجرات والخبرات العلمية بيئة كبيرة من الخلاف العلمي والمذهبي. حتى أن الصلوات في الحرم كانت تقام على المذاهب ولكل مذهب أمام وجانب يصلي فيه وخلفه أتباع المذهب.
قبلة التجارة
وفي فترات الأمن كانت التجارة تزدهر في مكة وتتسبب في وصول المزيد من الجينات الجديدة. يروي صاحب الرحلة العياشية حادثة غريبة في طريقه إلى مكة. حيث وجد قافلة من عشرين بعيرًا محملة ببضاعة من القماش الهندي الرفيع، تسير لوحدها في عرض الصحراء وبدون رجل يقودها أو يحرسها. ثم وجدوا بعد مسافة طويلة أصحاب القافلة جالسين في قهوة، فلما سألوهم عن تركهم لقافلتهم أجابوا: أنها لو ذهبت إلى مكة هكذا لم يتعرض لها أحد، لما في الطريق من أمان.
كما يخبر صاحب الرحلة العياشية أنهم كانوا يكترون الحمير من مكة إلى جدة دون أن يذهب صاحب الحمار معهم. فإذا وصل الحمار إلى جدة، فإن يذهب مباشرة إلى نائب صاحب الحمار في جدة. فيعيده الأخير إلى مكة بكل أمانة وأمن.
منذ بدايتها كانت مكة قصة حب بين إسماعيل الذي جاء من فلسطين وقبائل جرهم التي جاءت من اليمن. فكانت جغرافيًا نقطة لقاء متوسطة بين ساميي الشام واليمن. في الإسلام نحتفي بسيدنا إبراهيم احتفاءً لا تراه في المسيحية واليهودية. حتى صلواتنا اليومية تشمله ونؤمن بإن ديننا انبثق منه قبل أن ينبثق من سيدنا محمد. لكن لحكمة سماوية اختار رب العالمين أن تنتقل قبلتنا من القدس إلى مكة، التي باركها أبونا إبراهيم عليه السلام من قبل، فابتدأها لتكون عاصمة التعددية الفكرية والدينية والتجارية.
مدينة تحتضن العالم
لا زلت أذكر طفولتي في مكة. كنا نذهب لحفظ القرآن في حلقات الحرم. كانت الحلقة سلطة مدهشة من القارات والعوالم. شيخي كان يمنيًا. وشيخه كان مصريًا. وشيخهما كان ضريرًا إفريقيًا، جاء إلى الحرم ليحفظ القرآن ويموت بجانب الكعبة. الأطفال الذين كنا نحفظ معهم ونهرب معهم من عصا الشيخ كانوا خليطًا أعجب. خليطًا يضم العالم الإسلامي بامتداده على خطوط الطول الدافئة.
اليوم، حينما تزور مكة، تأمل خرائط الوجوه، ووزعها على خرائط العالم: هنا طفل أزرق العينين جده الخامس جاء من البوسنة. هناك شابٌ لامع السواد جاء جده من مالي حاجًا من مئتي سنة. تلك البيضاء المتوسطية كان جدها شيخًا في الأقصى حينما طلب منه السلطان أن يتولى القضاء في مكة من ثلاثمائة سنة. اِسبح في الوجوه وتخيل رحلتها إلى صحراء قاحلة، تتوسطها جبال مصمتة، ليصلوا إلى مكة. وافخر بمكة ساعتها لأنها فاقت في تعدديتها كل المدن الحديثة التي تتباهى بتنوع هجراتها الحديثة.
لكن احذر أن تجرك دواماتها وتقع في الفخ، وتكون محظوظًا مجاورًا.