خطر أن تدرك مبكرًا
لم يعد العالم اليوم قرية صغيرة فحسب، فالبشريّة منذ بداية التاريخ لم تتقارب أو تتصل يومًا من الأيام بهذا الشكل كما هو اليوم. بات التواصل بين البشر أسرع من...
طفل لم يبلغ العاشرة من عمره، ممسكًا بجهاز iPad الذي حصل عليه بعد عملية إصرارٍ كبيرةٍ منه على والديه دامت أسابيع و بضعة أيام، يجلس في أحد زوايا المنزل مُحدقًا عيناهُ في الشاشة لساعات. أمُّه مشغولة هي الأخرى في أحد تطبيقات المحادثة بهاتفها الذكي تحادث أختها التي تدرس في الولايات المتحدة. أباهُ يجلسُ في أحد غرف المنزل مشغولًا منذ نصف ساعة أو أكثر في مكالمة فيديو (بعدما تجاوز الحجب بنجاح!) ويُناقش مع صديقه، الذي وصل لتركيا منذ يومين، بعض الأمور التجارية.
الآن لنبدأ المقالة. لم يعد العالم اليوم قرية صغيرة فحسب، فالبشريّة منذ بداية التاريخ لم تتقارب أو تتصل يومًا من الأيام بهذا الشكل كما هو اليوم. باتت عملية التواصل بين البشر حول العالم في هذا الوقت أسرع من شراء كوب قهوة أو طلب وجبة عشاء من أحد المطاعم. أصبحت المعلومات بجميع أشكالها سهلة الوصول، يفصل كل ذلك جهاز ذكي واحد مصنوع من البلاستيك والزجاج، منحني الأطراف من الجانبين، وموقعه في صالة المنزل مدروس جيدًا، تعمل فيه إشارة الاتصال اللاسلكي WiFi بشكل مذهل، وسماعات أذن من طراز عالي الجودة لحفظ الخصوصية، وبضغطة زر واحدة تسرقك من عالمك المحيط بك إلى عالمٍ مليءٍ بكل شيء.. كل شيء فعلًا.. بحرية تامة وبلا رقابة!
لم يكن العالم يعمل بهذه الطريقة من قبل! لقد كان العالم عبارةً عن مجموعات من البشر في أماكن متفرقة حول الكرة الأرضية، كل مجموعة يتواصل أفرادها فيما بينهم بطريقة تقليدية خاصة، فيها من التطور الشيء البسيط. كل ذلك أصبح في الأذهان من الماضي البعيد رغم أنه قريب تاريخيًا. ذلك يشرح لنا حجم التطوّر الهائل الذي حدث للبشرية خلال العشرين سنة الماضية وما تبعه هذا التطور السريع جدًا من تغيير السلوك والعادات ونمط الحياة في المجتمعات. الأمر الذي أدى إلى تغيير طريقة التفكير والإدراك لدى الإنسان للكثير من الأمور التي تحدث حوله. يشمل ذلك بشكل تلقائي إعادة النظر في المعتقدات الحياتية والمجتمعية وتغيير الأفكار والنظريات من خلال التعرف على صور أخرى للحياة على هذه الأرض وطرق مختلفة في التفكير والنظر للأمور.
أصبح العالم أجمع في حقل تجارب ضخم جدًا
أصبح العالم أجمع من شرقه لغربه ومن شماله إلى جنوبه في حقل تجارب ضخم جدًا. لا توجد قوانين محددة في هذا الحقل، كما أن التجارب التي تتم فيه هي تجارب أولية لا تحكمها أنظمة معينة، ولا تخضع لأي رقابة عامة. الأمر المثير للإهتمام أكثر هو أن كل الأشخاص الذي يقومون بتلك التجارب هم كذلك جزء من تجارب أخرى يقوم بها أناس آخرين، وهؤلاء بدورهم يعلمون أنهم أيضًا يخضعون لتجارب مجموعة أخرى من الأشخاص. وبالتالي فإن من علامات هذا الحقل هو أنه بلا معايير محددة، ألوانه مختلفة، أنماطه متغيرة بشكل مستمر.
بالحديث عن المعلومات فإن الشبكات الاجتماعية والتي يقضي عليها الأطفال والمراهقين جل وقتهم هي أحد أهم الأماكن المليئة بالمعلومات المتطايرة في كل اتجاه. تلك المعلومات تبدو ناقصة أحيانًا، أو ربما كانت معلومات هامة وقيمة لكنها وُضِعت في غير مكانها المناسب، أو تم إيصالها بطريقة خاطئة! ليس المقصود إعطاء الصورة السوداء من ذلك كله فحسب، بل الحصول على الصورة البيضاء في وقت مبكر لطفل لم يبلغ العاشرة من عمره على الأرجح قد يبدو أمرًا خطيرًا على الإدراك في المدى البعيد!
لتوضيح ذلك أكثر، العديد من الأطفال اليوم يشاهدون YouTube، يتابعون محتويات مرئية في Instagram. في تلك البيئات، يحصل الأطفال على كمية من المعلومات، بعضها سخيف المحتوى وبعضها ممتع، وبعضها الآخر غير صالح، ليس هذا فحسب بل قد تكون تلك المعلومات صحيحة لكنها غير موجهة للأطفال في هذا العمر، بيد أن الطفل يستقبلها لأنه يريد مشاهدة أي شيء حتى لا يشعر بالملل و لإشباع غريزة حب الاستكشاف لديه. في هذا العالم السريع جدًا، فكّر كيف يتشكل عقل طفل بعمر ثمان سنوات على سبيل المثال عندما يعيش حياته في مواقع الكبار؟ ألا يبدو ذلك أمرًا خطيرًا في كيفية طريقة تفكير ذلك الطفل فيما بعد؟
التعرض للمحتوى المحفوف بالمخاطر عبر الإنترنت كان له تأثير مباشر على سلوكيات المراهقين الخطرة، وينبغي اعتبار سلوكيات الأصدقاء على الإنترنت مصدرًا قابلًا للتطبيق من أقرانهم
الإدراك المبكر للحياة يجعل الإنسان أقل قدرة على الاستمتاع بها، كما أن الإدراك المبكر لكثير من الأمور يؤثر على الطفل نفسيًا على المدى البعيد. بشكل أكثر إيضاحًا، الإدراك المبكر عند الطفل يعني البلوغ أو النضج المبكر عقليًا وفكريًا. الأطفال الذين يعانون من سن البلوغ المبكر لديهم معدلات أعلى من الاكتئاب والقلق مقارنة مع أقرانهم. بالإضافة إلى انخفاض احترام الذات لديهم. ويوجد هذا التأثير بشكل متسق في الفتيات، بينما النتائج التي تنطوي على الفتيان هي أقل وضوحًا. ولعل أكثر ما يبعث على الانزعاج أن الخطر المعزز للاكتئاب والقلق قد يمتد على طول الطريق إلى سنوات الجامعة.
يذكر جينغ صن (Associate Professor Jing Sun) وهو أستاذ مشارك في جامعة أوكلاند في نيوزيلنداأن أحد عوامل البلوغ المبكر هو الحرمان من الطفولة. جسديًا، الأطفال ينمون بشكل أسرع من ذي قبل – هذا ليس رأيًا – تظهر بعض الأبحاث أنه خلال العقود القليلة الماضية، دخل الأطفال مرحلة البلوغ في عمر أقل من أي وقت مضى. من الواضح أن الشبكات الاجتماعية ليست السبب الوحيد في أن الأطفال يصلون إلى النضج البدني بسرعة – لكن لا يوجد تأثير دون سبب! ومع ذلك، فإنه من الشائع جدًا للأطفال الوصول إلى الإنترنت في الوقت الذي يصلون فيه إلى سن البلوغ، وهم يعرفون بالفعل أن الانترنت هو مصدر ممتاز للمعلومات حول أي موضوع يمكنهم تخيله.
هنا دراسة نشرت في مايو 2014 في مجلة صحة المراهقين، درست 1,563 من طلاب الصف العاشر من خمس مدارس جنوب كالفورنيا لتحديد مدى تأثير استخدامهم للشبكات الاجتماعية على السلوكيات الخطرة مثل التدخين والمخدرات وغيرها. وكانت استنتاجات الباحثين مثيرة للقلق.حيث يحذرون: “التعرض للمحتوى المحفوف بالمخاطر عبر الإنترنت كان له تأثير مباشر على سلوكيات المراهقين الخطرة، وينبغي اعتبار سلوكيات الأصدقاء على الإنترنت مصدرًا قابلًا للتطبيق من أقرانهم”.
التطوّر الهائل للتقنية في السنوات الأخيرة كان وما زال حدث مذهل ورائع ولا يمكن وصفه أحيانًا، حيث ساعد على تواصل الناس وتطوّر التعليم وانتشار المعرفة بين أفراد المجتمع، لكن هذا الأمر يدعو للتفكير أيضًا حول كيف أن التقنية قد تؤثر على موضوع التعلّم نفسه، وما لها من تأثير أكبر على الإدراك وطريقة التفكير لدى الأطفال والمراهقين في عمر صغير وعقل يُحب الاستكشاف ومعرفة الأشياء، لكنه لا يملك القدرة بعد على التمييز بشكل جيّد بين الأمور الضارة والنافعة! هذه الثورة من المعلومات وسهولة الوصول إليها قد تصنع جيلًا مفكرًا ومبدعًا إن تم توجيهه بشكل جيد، لكن بذات الوقت قد تصنع جيلًا مشوّهًا فكريًا، يقفز من مرحلة إلى أخرى، ولا يعيش مرحلته كما ينبغي. يملّ بسرعة، ويكبر بسرعة بلا تجارب ولا ذكريات، وربما يشعر بالتعاسة لما يشاهده من صورٍ كثيرة لأنماط حياة مختلفة، الأمر الذي يُشعره بالبؤس والملل من حياته اليومية أحيانًا كونه لا يملك ما يملكه الآخرون.
ألا تثقوا بنا؟
الكثير من الآباء والأمهات في الماضي ولا زالوا، يحرصون على عدم ترك أطفالهم اللعب في الشوارع وقضاء الوقت هناك، وهذا أمر منطقي كون الشارع يُعلّم الأطفال العادات سيئة، والكلمات البذيئة، بالإضافة إلى تدني مستوى الأخلاق والثقافة لديهم. أيضًا، عندما يذهب الوالدان مع ابنهما الصغير للمكتبة فهم يحرصون على شراء كتبًا لقصصٍ مفيدة تناسب عمر طفلهم الصغير الذي لم يبلغ العاشرة بعد. كذلك، حينما يريد الطفل مشاهدة التلفاز فإن الأم تأخذ جهاز التحكم محاولةً إيجاد قناة فضائية تقدم محتوى جيّد هادف للأطفال.
حسنًا.. بعض المحتوى الموجود في الشبكات والمنصات الاجتماعية غير المخصصة للأطفال هي النسخة الجديدة للشارع اليوم لكن بطريقة أكثر جاذبية، كما أنها هي كتب القصص تلك التي لا تناسب عقل الطفل بعد، وهي تلك القنوات الفضائية الغير مناسبة للأطفال أيضًا. يحدث التشوّه الإدراكي والمعرفي عند جلوس الطفل في ركن من أركان المنزل حاملًا بيده جهازًا ذكيًا لساعاتٍ طويلة، ليشاهد محتوىً غير مناسب لعمره في YouTube أو Instagram وSnapchat، يستقي منه معلومات خاطئة و قناعات غريبة، وسلوك سيء! بل وربما معلومات قيّمة جدًا لكنها غير موجهة له في هذا العمر!
تعتقد الدكتورة باربرا جرينبرج (Dr. Barbara Greenberg)، وهي متخصصة في علم النفس للمراهقين في كونيتيكت ، أن على الآباء أن يراقبوا هواتف أطفالهم دائمًا، بل يجب عليهم التأكد من القيام بذلك: “سيغضب الأطفال ويقولون محتجين: ألا تثقوا بنا؟” تجيب: “إذا كنتم أيها الآباء والأمهات تثقون بحسن تصرفهم وهم بهذا السن، فأنتم حمقى!”
الخطر الكبير الآخر الذي يأتي من تواصل الأطفال داخل تلك الشبكات بشكل غير مباشر هو التنمر الإلكتروني. تقول الدكتورة دونا ويك (Dr. Donna Wick)، وهي طبيبة نفسية: “الأطفال في الشبكات الإجتماعية يقولون كل تلك الأشياء التي لن تفكر أبدًا أن تقولها لأحد بشكل مباشر وجهًا لوجه”. وهذا يشكل خطرًا حقيقيًا على الحالة النفسية للطفل ويؤثر على علاقاته مع أصدقائه في الحياة الحقيقية. ماذا عن شعور الطفل السيء من عدم حصوله على علامات الاعجاب في Instagram مثلًا؟ في عقله الصغير هو ذات الشعور الذي يصيب الطفل عندما لا يحبه أقرانه ويرفضون اللعب معه.
لا نتحدث عن المحتوى “للبالغين فقط” -على الرغم من أنه لا يزال هناك الكثير منه على الشبكات الاجتماعية- بدلًا من ذلك، فإن الحقيقة البسيطة هي أن الشبكات الاجتماعية مكان لتفاعل الكبار حيث أنها مصممة خصيصًا للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 13 سنة وأعلى ,وقد جعلت بعض الشبكات الإجتماعية هذا واضحًا تمامًا في صفحات التسجيل لديها مثل فيسبوك و YouTube التابع لجوجل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وجود لوائح قانونية لذلك.