الكوارث: حافز يدفع البشر نحو التغيير
قد تكون الكوارث حدث مثبط لعزائمنا البشرية، لكنها في شواهد تاريخية كثيرة نكزة تدفعنا نحو الأفضل وإلى الأمام.
ثمة رغبة بشرية جامحة للتغيير، التغيير كنقطة بداية جديدة تجعله يعد بغدٍ مشرق قد يراه يتحقق في وقت قريب، أو تظهر معالمه في مستقبلٍ بعيد. هذا التغيير أو إحداث ثورة جديدة قد لا تكون مختصة بالأشخاص فقط، بل قد تتوسع لتشمل مؤسسات وقوانين منظمة لسير حياة البشر. لكن السؤال الأهم: ما الحافز الذي قد يدفع البشر للبدء بخطوة في اتجاه التغيير؟ أحيانًا قد تكون الكارثة في صورها المتعددة إحدى المسببات التي قد تغربل أنظمة قديمة، ثم تستحدث نُظُمًا متجددة منها. وعلى الرغم من كل السلبيات التي تحيط بالكوارث، قد نتشبث بنور تلقيه لنا لينير نفقًا ظنناه مظلمًا.
الوباء يحصد الفقراء
اكتسحت العالم قبل حوالي مائة عام أكبر موجة وفيات في تاريخنا البشري، عُرفت بوباء الإنفلونزا الإسبانية. غيّر الوباء كثيرًا من الأوضاع وأحدث ثورةً بالغةً في نظم الصحة العامة. كان العالم مختلفًا عمّا هو عليه الآن في العقد الأول من القرن العشرين، فلم توجد أنظمة متخصصة بالرعاية الصحية، وكان معظم الأطباء يعملون على نفقتهم الخاصة، أو من تبرعات قُدِّمت من الجمعيات الخيرية والمنظمات الدينية. وفي المقابل، لا يحصل معظم الناس على الخدمات الطبية المقدمة من هؤلاء الأطباء.
كانت القواعد الشائعة للصحة العامة في ذلك الوقت طبقية إلى حد كبير، فقد كان نبلاء المجتمع ينظرون إلى أُناس الطبقة الفقيرة على أنهم أكثر عرضة من غيرهم للأمراض والتشوهات الخلقية. ولم يحاول أبناء الطبقة النبيلة البحث عن أسباب ظهور تلك الأمراض لدى الفقراء خصوصًا في الظروف المعيشية التي كانوا يواجهونها، من بيوت مكتظة إلى ساعات العمل الطويلة وصولًا إلى التغذية السيئة. وإذا مرضوا بإحدى الأمراض القاتلة مثل التيفوئيد أو الكوليرا، يقع كامل اللوم على عاتقهم بسبب عدم سعيهم للبحث عن الحياة المثالية. كانت أعراف الصحة العامة عند حدوث الأوبئة تتلخص في محاولة حماية النبلاء قدر المستطاع من وصول تأثير تلك الأمراض إليهم.
الإنفلونزا الإسبانية
كان أول تفشٍّ لوباء الإنفلونزا الإسبانية في ربيع عام 1918، والحقيقة أنه لا علاقة لإسبانيا بهذا المرض، لكنه اهتمام الإعلام الإسباني بأخبار المرض، وخصوصًا أن وقوف البلد على الحياد في الحرب العالمية الأولى أعطى إعلامها حرية نسبية للتحدث في الموضوع. لكنه عرف كإنفلونزا والإنفلونزا كما نعلم مرتبطة بتأثيرها على عملية التنفس، ويصاحبها أعراض السعال والعطاس. ويعد المرض شديد العدوى وينتشر بسهولة بين الناس، خصوصًا في الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية وهذا سبب كافٍ لتسميته بمرض الحشود الغفيرة.
كان الظهور الأول للمرض خفيفًا ولم يعد خطيرًا وكان انتشاره محدودًا. ولم يفتك الوباء بالناس إلا بعد ظهوره للمرة الثانية بعدها بأشهر، حتى أن الكثيرين اعتقدوا أن من المستحيل أن يكون هذا هو نفس المرض الذي انتشر في فصل الربيع الماضي. كانت الأعراض تقليدية مشابهة للإنفلونزا العادية كالصداع والسعال، لكنها تتطور مع الوقت ليصبح لدى المريض ضيق في التنفس، فيبدأ لونه بالتحول تدريجيًا إلى اللون الأزرق مع نزيف في الأنف والفم. وعندما يتحول المريض من اللون الأزرق إلى الأسود يصبح من المستحيل أن يتعافى، نظرًا لامتلاء رئته بالسوائل. استمرت الموجة الثانية من انتشار الوباء إلى نهاية العام لتأتي بعدها موجة ثالثة وأخيرة في العام التالي 1919.
من المعروف أن المسبب الرئيسي للإنفلونزا هو الفيروس.
ولم يكن مصطلح الفيروس في العام 1918 شائعًا، واعتقد الأطباء بشكل دارج أن سبب الإصابة بالإنفلونزا الإسبانية قد يكون بكتيريًا. وأدّى هذا اللبس إلى عدم فعالية الأدوية حيث لا وجود لمضادات الحمى أو حقن خاصة بالإنفلونزا أو حتى المضادات الحيوية. وأعلنوا فيما بعد أن أماكن التجمعات البشرية قد تكون مسببة لانتقال المرض. ولكن حتى عندما توصلوا إلى تلك النتائج كان الوقت قد تأخر كثيرًا، ويعود السبب إلى عدم تسجيل الإنفلونزا على أنها مرض في العام 1918، وهذا يعني عدم رؤية الأطباء لاحتمالية حدوث الوباء في القريب العاجل.
حصد المرض حوالي 50 مليون إلى 100 مليون شخص أي ما يعادل 2.5% إلى 5% من مجموع سكان العالم. وإذا قارناها بعدد ضحايا الحربين العالميتيْن الأولى والثانية، فإنها تتخطاها.
دروس مستفادة
جعل الدرس المستفاد من هذه الكارثة المنظمات الصحية تعي جيدًا ألا تشير بأصابع الاتهام إلى أشخاص بعينهم، وأصبحت لدى الحكومات فيما بعد رؤية للتطبيب المشترك؛ أي رعاية صحية للجميع مجّانًا. تعد روسيا من أوائل الدول التي تبنت وضع أسس نظامية للرعاية الصحية العامة وتبعتها معظم دول أوربا الغربية. واتخذت الولايات المتحدة طريقًا مختلفًا حين اعتمدت على نظام تأمين للموظف، لكنه شكل ترسيخًا جديدًا لمفهوم الرعاية الصحية.
طرح الاتحاد السوفيتي في العام 1924 رؤيته المستقبلية، وفي أحد محاورها الأساسية تحدثت عن الصحة «دراسة الظروف المهنية والاجتماعية التي أدت إلى زيادة الإصابة بالأمراض، وعدم الاهتمام فقط بكيفية العلاج منه بل التفكير في طرق للوقاية منها». وسرعان ما تبنت دول عديدة تلك الرؤية الجديدة حول مفهوم الصحة، فلم تعد الصحة كما كانت عليه في السابق مجرد اختبارات تجريبية وأحيائيّة، فقد تم الاهتمام بالجانب الاجتماعي أيضًا، بإمكاننا القول إنّ مفهوم الصحة العامة والمتداول بيننا هذه الأيام قد بدأ من هنا.
أسست غالبية الدول بعد وباء «الإنفلونزا الإسبانية» وزارات للصحة بسبب الحاجة الملحة للتنسيق فيما بين تلك الدول على أحداث تتعلق بالصحة العامة، خصوصًا بعد معرفتهم المسبقة بإمكانية انتقال الأمراض المعدية دون النظر إلى حدود البلاد المختلفة. وشهدت فيينا افتتاح المكتب الدولي لمكافحة الأوبئة الذي مهد لتأسيس «منظمة الصحة العالمية».
أصبح شعار منظمة الصحة العالمية ليومنا هذا «توفير الرعاية الصحية لكل شخص دون النظر إلى عرقه أو دينه أو توجهاته السياسية وحالته الاجتماعية أو المالية». ولم تصل هذه النظرية إلى ما وصلت عليه الآن لولا حدوث وباء الإنفلونزا. إذن فالكوارث رغم سوداويتها، تحمل أيضًا جانبًا إيجابيًا لا يمكن التغافل عنه.