الفن على صخور بحر الإسكندرية
رحلة فنية داخل مدينة الإسكندرية المطلة على البحر المتوسط والتي كانت مصدرًا لإلهام العديد من الشعراء والكُتاب والمغنين والفنانين.
دومًا ما تكون مدينة الإسكندرية المطلة على البحر المتوسط مصدرًا لإلهام العديد من الشعراء والكُتاب والمغنين والفنانين.
كانت الإسكندرية في وقت ما في النصف الأول من القرن الماضي مدينةً كوزموبوليتانية تضم بين سكانها العديد من الجنسيات وتصدر فيها جرائد وإذاعات محلية، وعاش فيها الشاعر الشهير قسطنطين كفافيس وكتب فيها لورانس داريل رباعيته الشهيرة. لقد كانت ولا تزال مصدر تأثير متجدد لا ينضب أبدًا، غنت لها فيروز وغنى لها المطرب علي الحجار وهو ليس إسكندري الأصل بل من إمبابة وهو حي يقع في قلب العاصمة العجوز القاهرة، ولكن علي كان ولا يزال إسكندري الهوى. وكتب لها أحمد فؤاد نجم أيضًا العديد من الأغاني التي إن سمعتها لعرفت أن للمدينة هوى خاص، مثل أسطورة عروس البحر التي تنده البحارة فيتيهون بغرامها ويضيعون بلا رجعة، ومهما حاق بالمدينة من أفاعيل الزمان يظل لها وهجها الخاص.
كما ظهر العملاق سيد درويش أحد أهم رواد الموسيقا العربية في الإسكندرية ولم يبارحها إلا قليلًا من أجل بعض الأسفار، ولكن شهرته بلغت الآفاق ولم تتجاوز مدينته إلى القاهرة فحسب، بل إلى الوطن العربي والعالم كله وإلى كل المتحدثين والناطقين بالعربية بل وسمّيعة الموسيقا في العالم أجمع. ليس ذلك فحسب بل ألهمت الإسكندرية أيضًا السيناريست أسامة أنور عكاشة فكتب للشاشة العديد من المسلسلات التي تدور أحداثها في المدينة الساحلية، كما كانت مسرحًا لرباعية محمد جلال الروائية بعنوان “رباعية الإسكندرية” وأخرجت روائيين مثل إبراهيم عبدالمجيد.
الفن على حدود الثغر
ثمة أسماء كثيرة من أصل إسكندري لمعت على صعيد الغناء، ولكن هناك أسماء لم تتجاوز شهرتها حدود الثغر (أحد الألقاب التي تُطلَق على المدينة). فقد كانت إذاعة الإسكندرية الحكومية منذ نشأتها حاضنةً للعديد من الفنانين والمطربين الإسكندريين الذين لمعوا داخل حدود مدينتهم ولكن لم تفتح لهم القاهرة أذرعها، فظلوا في نطاق المدينة وذهبوا في طي النسيان. ولهم حواديت كثيرة فيها الطرافة والألم والكفاح والموهبة التي لم تأخذ حظها وتكسرت عند حدود المدينة كما تتكسر الأمواج على صخور بحر إسكندرية.
للمدينة الساحلية الزاخرة بالتاريخ الباذخ والأحداث الجسام والمخيلات المنفتحة على مصراعيها لهجتها المميزة التي تلمحها بين ثنايا كلمات سكانها الأصليين وغنائهم، فالإسكندريون يسمون الجبن الرومي بالجبن التركي ويطلقون على السجق لقب السدق وهو أحد الأكلات المميزة للإسكندري الأصيل، حيث يُقدم غارقًا في خلطة مميزة حريفة تلهب الفم كما تذوب فيه. كما أن سكان المدينة يشتهرون باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن المفرد أسوة باليونايين أو “القريك” الذين كانوا يشكلون جالية كبيرة بقي منها بضعة آلاف اليوم بعد أن فرقت السياسة وأحوالها بينهم وبين مدينتهم الأم، وظهر ذلك عندما غنت السيدة هدى سلطان “من بحري وبنحبوه ع القمة بنستنوه”.
يزخر دفتر الأحوال الإسكندري بحواديت مواهب غنائية بديعة كانت مثل الأسماك التي تسبح بثقة في مياهها ولكنها تتلوى وتتألم عند الخروج من المياه، لم تستطع تلك المواهب الخروج من البحر والتعايش مع العاصمة بمتطلباتها القاسية وخوض غمار المنافسة الشرسة.
جلال حرب
خرج جلال حرب من بيت إسكندري مثقف أصيل فقد كان أخوه يكتب الشعر والقصة، فنشأ جلال مثل أخيه يطرق كل أبواب الإبداع والفن. وهكذا كان المجتمع الإسكندري في نهاية الأربعينيات بعد أن هدأ هدير مدافع الحرب العالمية الثانية التي كانت تزلزل مدافعها المدينة.
انتقل جلال إلى القاهرة وغنى في حفل أمام عبدالوهاب فأعجب به كثيرًا خاصة أن هناك تشابه ملحوظ بين صوته وصوت الموسيقار عبدالوهاب الذي كان في أوج شهرته في ذلك الوقت. وأنتج له عبد الوهاب فلمًا في الأربعينيات تحت عنوان “الحب الأول”، وحدث خلاف بين جلال حرب وعبدالوهاب بسبب إصرار حرب على أن يلحن أغانيه في الفلم بينما كان عبدالوهاب يشترط أن تكون الألحان كلها من وضعه هو. ثم أتبع هذا الخلاف خلافٌ آخر بين نقابة الموسيقيين برئاسة أم كلثوم وجلال حرب المتخرج من كلية الحقوق، حيث كان يريد أن يحمل عضوية نقابة الموسيقيين ونقابة المحامين وهو ما كانت ترفضه النقابة.
ويبدو أن الفنان الوسيم طويل القامة المهندم الذي توسم فيه عبدالوهاب أنه سيكون خليفته كان معتدًا بنفسه وعنده كبرياء المثقف العنيد فكان دومًا يرفض المواءمات، وفيما يبدو أن العناد كان طبعًا إسكندريًا أصيلًا فلم تطل مسيرته الفنية في القاهرة وعاد فجأة في منتصف الستينيات إلى مسقط رأسه بعد مشاركات متباينة في عدة أفلام، وكان يصرح لأصدقائه دائمًا أن راحة البال أهم كثيرًا من صراعات المنافسة الفنية.
حرب يعود لأحياء الإسكندرية
لم يعتزل حرب الفن بعودته إلى الإسكندرية وتوقفه عن المشاركة في الأفلام السينمائية، ولكنه حول البوصلة صوب أبناء مدينته وأبدع ألحانًا لمعظم المغنيين الإسكندريين حتى أنه لحن العديد من الصور الغنائية شديدة السكندرية تغنى فيها المطربون بأحياء الإسكندرية.
ومع أن بداية حرب كانت في اللون العاطفي الكلاسيكي تحت مظلة عبدالوهاب، إلا أنه لحن للعديد من المطربين الشعبيين الإسكندريين وكأنه لم يرتح للعيش والإبداع في القاهرة تحت إمرة موسيقار الأجيال. وانطلق فنه من عقاله غير مقيد بأي شروط متعلقة بقواعد المنافسة، فكان إنتاجه غزيرًا لفنانين إسكندريين مهمين ومبدعين مثل بدرية السيد (بدارة) المطربة الشعبية الأهم التي أنجبتها الإسكندرية وإبراهيم عبدالشفيع أطال الله عمره حافظ تراث الإسكندرية وإكرام أو الحاجة إكرام التي كانت تلقب ببلبلة الإسكندرية.
ورغم أن حرب لم يُوفق كثيرًا مع عبدالوهاب الذي كان يصف صوت حرب بالخجول فرفض عقوده الاحتكارية، إلا أن عبدالوهاب ظل مطربه المفضل الذي كان يغني أغانيه في حفلاته الخاصة دائمًا، بل وكان المجتمع الإسكندري يلمحه دائمًا يمارس الرياضة حتى فترة التسعينيات في النادي الإسكندري الشهير سبورتنق ويحكي عن ذكرياته التي يعتز بها كثيرًا مع عبدالوهاب رغم عدم اتفاقه معه. وربما ندم حرب على تمرده على ألحان واحتكار عبدالوهاب ولكنه بلع ندمه وعاد إلى مسقط رأسه لتنطفئ جذوة شهرته.
عزت عوض الله
لعل قصة المغني الإسكندري عزت عوض الله أو مرقص باسيلي عامل التليفونات وصاحب الأغنية الشهيرة “يا زايد في الحلاوة” هي القصة الأكثر تراجيدية بين قصص الفنانين الإسكندريين.
عزت عوض الله أو مرقص فنان أيقوني يتذكره دائمًا قودام الإسكندرية (سكانها الأصليين والقدامى كما يقول التعبير الكلاسيكي) وتظل قصة الرجل ومأساته قصة ناقصة يعتريها قدر من الغموض وتحتاج لمن يكملها يومًا ما، مثل قصة يتذكرها القدامى عن سيدة ابتلعتها أرض الشارع في الإسكندرية بينما كانت تمشي مع زوجها ولم يُعثر لها على أثر حتى اليوم. كان عزت عوض الله عامل تليفونات أو تليفونيست بلغة أهل المهنة، ولم يكن مغنيًا ذا صوت مميز فحسب، بل كان أيضًا ملحنًا من طراز فريد لحّن أغنية “يا زايد في الحلاوة” التي حققت نجاحًا كاسحًا في مدينته وكانت الإذاعة تذيعها بشكل شبه يومي عند صدورها.
توالت أغاني عزت التي حشد لها معظم مبدعي الإسكندرية، حتى أنه غنى لشوارع الإسكندرية مثل أغنيته “الحلو ساكن بوالينو في محرم بك” وبوالينو شارعٌ بحي إسكندري عتيق هو محرم بك ويرجح أنه اسم ايطالي Paulino. وغنى عزت أيضًا “باين من لهجته اسكندراني” و”دول بنات اسكندرية مشيهم عالبحر غية”.
عزت يطير للقاهرة
كان لابد للطير الإسكندراني أن ينتقل للمحطة التالية وهي القاهرة التي يتربع على عرشها كبار مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وعبدالوهاب وفريد الأطرش، أي أن عليه أن يسبح في مياه مليئة بأسماك القرش. وتردد عزت كثيرًا قبل أن يقتنع بنصيحة الصحفي الفني الكبير جليل البنداري ويسافر إلى القاهرة ليسجل أغانيه هناك في الإذاعة أو يبحث عن أي فرصة في مسارح القاهرة. وذهب عزت ولكنه عاد في نفس اليوم خاوي الوفاض لم يستطع أن يتحمل جهامة القاهرة وقساوتها. وقضى عزت أيامه بين إذاعة إسكندرية وجلسته عند بائع أحذية محب للفن، ويقول مؤرخو المدينة أنه كان ناقمًا وساخطًا دومًا على عبدالحليم حافظ الذي كان يرى أنه استأثر بالمشهد الغنائي وحده بسبب قربه من دوائر السلطة، وسحق كل المنافسين ومنع عنهم الماء والهواء.
وفي عام 1975 أُسدل الستار على حياة عامل التليفونات الموهوب الساخط على الحياة عندما عثر الناس على جثة رجل تعرض لطعنات وحشية وأُلقي في حي محرم بك الذي غنى له، وحتى اللحظة لم تعرف الشرطة من قتل عزت عوض الله. وتناثرت الحكايات عن ديون أغرق فيها نفسه أو خلافات حادة مع البعض أو حادث سرقة عادي، ولكن المحصلة أن موهبة الرجل الفنية الهادرة قد أوقفتها طعنات غادرة أودت بحياته وطواه النسيان، ولكن يشاء العلي القدير أن تشتهر أغنيته “يا زايد في الحلاوة” على يد المطرب فايد محمد فايد ويجول بها البلاد كأنها من صنع يديه، ثم يتلقفها أيضًا المطرب الشعبي الأشهر أحمد عدوية ويغنيها بدوره.
اليوم يُعاد اكتشاف عوض الله ويمنحه الزمن قدره الذي يستحقه، فكما يمحو الزمن الجمال فإنه يعيده أحيانًا إلى السطح مرة أخرى بعد الانزواء، والذي يزور اليوم ريبرتوار عوض الله الغنائي يجده قد كان شديد البراعة في التغزل الخفيف بمفاتن ودلع الإسكندريات.
فادي إسكندر
مغن وملحن إسكندري من أصل شامي من مواليد 1940. كان من أسرة ميسورة الحال تركت له ما يعينه على تقلبات الدهر، فكان يتعامل مع الفن والغناء بروح الهاوي حتى أنه لم يكن يشغل باله كثيرًا بالشهرة. وكانت أسرته ترتبط بصلة ما بالفنان الكبير فريد الأطرش الذي رأى في فادي مشروع مغنٍ وفنان واعد وشجعه في نهاية الستينيات على الذهاب إلى لبنان التي غنى في الكثير من أماكن السهر فيها، وعندما بدأت طبول الحرب الأهلية تدق كان على فادي أن يعود لإسكندريته ويبدأ من جديد. وكان قد ورث وقتها مبلغًا ضخمًا جعله يقيم مجلسًا شبه دائم في فيلا بحي رشدي الإسكندري الأنيق الذي يشبه موسيقا وغناء فادي، وكان الكثيرون من سمّيعة وفناني ومثقفي وشباب الإسكندرية ضيوفًا شبه دائمين على صالون فادي في نهاية السبعينيات ومفتتح الثمانينيات.
بدأ فادي المنفتح وقتها على الصرعات الموسيقية الجديدة والفرق الموسيقية التي بدأت تظهر في مصر يرفض طلبات زبائن صالونه بغناء الكلاسيكيات أو إعادة غناء مكتشفه وراعيه فريد الأطرش وكان يصر على أن يغني جديده. وتناثرت وقتها العديد من الأقاويل، وسرت كالنار في المجتمعات الإسكندرية أن فادي ليس مطربًا بالمعنى الكلاسيكي وأن الناس تستمع وتصفق له بسبب موائده العامرة، وتناسى هؤلاء أن الرجل ربما لم يكن مطربًا جهوري الصوت ولكن له مشروعًا غنائيًّا ضاع بسبب كسل الرجل وعزوفه عن الظهور الإعلامي رغم أنه أصدر ألبومين غنائيين غنى ولحن فيهما لبيرم التونسي، بل وتعاون مع موسيقا مجدد مظلوم وكامل الشريف الذي كان يعمل في تلحين الإعلانات التلفزيونية في الثمانينيات وأحدث ثورة موسيقية لم تُنسب إليه وإنما نُسبت إلى آخرين.
أخيرًا وقبل وفاته بمدة قصيرة ظهر فادي على استحياء في فلم “حاوي” لإبراهيم بطوط وكان الظهور خاطفًا مثل تجربة فادي الغنائية التي لمعت كالوميض ولم يقاتل صاحبها من أجلها، بل كان ضيفًا خفيفًا أنيقًا غنى لنفسه قبل أن يغني لأحد وغلبت عليه بوهيميته فجعلت موهبته تندفن تحت رمال النسيان المتحركة.
ومن أجمل ما غنى فادي من كلمات بيرم التونسي عن الإسكندرانية
“ما إحنا يا إسكندرانية، طالعين جميعًا شُضَليَّة طبيعة في الطين والميَّة، متركبة تحت سماها
الإسكندراني إذا صافح، يغلط ساعات ويروح ناطح ورثها عن جده الفاتح، فَحْل الملوك اللي حماها”
زينب عوض الله
زينب عوض الله مدرسة الموسيقا الكفيفة التي حرمتها الأقدار من نعمة البصر، ولكنها كانت تتمتع بصوت ناعم ينساب دون صعوبات ويذكّر المستمع مع بعض الاختلاف بصوت نجاة الصغيرة. ويصف موسيقيو الإسكندرية من العصر الذهبي الحاجة زينب بأنها رغم بساطة مظهرها وتواضعها إلا إنها كانت متعِبة ومرهِقة للفرق الموسيقية، فقد كانت مدرسة الموسيقا الضريرة تبحث عن الإجادة و الكمال في أغانيها.
سافرت إلى الكويت لتدرس الموسيقا وعادت وعملت مع أوركسترات كثيرة في مصر للمكفوفين ولكن ظل إنتاجها الفني العذب إنتاجًا شديد السكندرية ليس في مفرداته الشعرية أو اللحنية، وإنما في انتشاره وتسلل صوتها الرقيق وإحساسها المرهف إلى أذن المستمع بنعومة خصوصًا في أغنية “البرواز الذهب”. ولم تحاول أن تطرق أبواب القاهرة كثيرًا أو ربما لم تهتم، فكان همها الأكبر هو أن تغزل أغانيها كأنها خياطة بارعة دون اعتبارات تجارية في تفانٍ وإخلاص للفن ذاته، وظلت حتى أعياها المرض تدرس الموسيقا في مدرسة النور بالإسكندرية. لقد نفثت الحاجة زينب التي رحلت عن عالمنا مؤخرًا الكثير من روحها الفنية في أبنائها الذين يحاولون أن يعيدوا إحياء ذكرى فنانة لم تأخذ حقها المستحق من الشهرة.
هناك العديد من الفنانين الإسكندريين الذين يستحقون زيارة أخرى من السميعة ومحبي الطرب الحقيقي في زمن الصخب والصراخ، وقد يضيق المجال بذكرهم هنا مثل الفنانة إكرام والفنان إبراهيم عبدالشفيع وبدرية السيد التي حققت قدرًا كبيرًا من الشهرة وغزت القاهرة في الثمانينيات بصوتها القوي المميز حتى أن البعض أطلق عليها لقب أم كلثوم الغناء الشعبي.
إن التنقيب في أوراق التاريخ الإسكندراني لا تكفيه مقالة واحدة أو تدوينة هنا أو هناك، فتلك المدينة تظل قادرة على الإلهام مهما تغيرت المشارب والأهواء والوجوه.