الصدفة والأقدار في عالم السياسة
هل الصدفة لها مكان فعلًا في عالم السياسة أم هي أحداث يتم ترتيبها كي تظهر كذلك؟ في هذا المقال يأخذنا الكاتب مازن العتيبي في رحلة نحو عالم الصدف في السياسة.
لا أحد يعرف ما هي الأفكار التي خطرت على بال لي هارفي أوزوالد (Lee Harvey Oswald) في اللحظات الأخيرة التي سبقت اغتياله للرئيس الأميركي حينها جون إف كينيدي (John F. Kennedy). ربما كان يفكر بأنّه سينتصر أخيرًا للشيوعية، ربما كان يفكر بأنّ هذا الفعل سيوفر له الحياة الكريمة التي يتمناها في الاتحاد السوفييتي، ربما كان يفكر بأنّ فعله هذا سيضمن وقوع حرب فيتنام.
ربما كان يفكر بأنّ وكالة الاستخبارات الأميركية ستحميه كما وعدته، ربما كان يفكر أنه إذا أخطأ التصويب فزملائه سيكملون المهمة. ربما كان يفكر في الشهرة، ولا شيء غيرها. إلا أننا نستطيع الجزم بثقة تامة، بأنّ آخر شيء خطر بباله هو أنه برصاصاته الثلاث تلك قد خلق عالمًا جديدًا. عالم نظريات المؤامرة.
إلى هذا اليوم، يعتبر اغتيال الرئيس جون كينيدي حدثًا مثيرًا للجدل، فبالرغم من أن هيئة التحقيق أقرت بجرم أوزوالد كقاتل وحيد دون تورط أشخاص أو منظمات أخرى، إلا أن عددًا كبيرًا من الأشخاص لا يزالون يشككون في مصداقية هذا الحكم.
التشكيك بالنسخ الرسمية من الأحداث لم يكن وليد تلك اللحظة. فالتاريخ المعاصر مليء بالإشاعات التي تكذب الأحداث المتفق عليها. إشاعات مثل أن الحكومة الأميركية كانت تعرف عن هجوم بيرل هاربور (غارة جويّة مباغتة نفذتها البحرية الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأمريكي).
لكن قررت السماح به حتى تجد عذرًا يبرر دخولها الحرب العالمية الثانية، أو أن هناك مخطوطة يهودية فيها تفصيل دقيق للطريقة التي ينوون بها السيطرة على العالم. إلا أن هذه النظريات، بالرغم من شيوعها بين عامة الناس، لم تؤخذ أبدًا بجدية، و لهذا لم يتجرأ معتنقوها على الإفصاح بها رسميًّا.
رصاصات أوزوالد
ثم جاء أوزوالد برصاصاته الثلاث، قاتلًا جون كينيدي، ناقلًا هذه النظريات من الظلام إلى النور، من همسات الحانات الثملة إلى صالات السينما ومتاجر الكتب. لم يعد الإيمان بهذه النظريات مقتصرًا على الأغبياء والنكرات، فطاقم “المنظرين” يضم أشخاصًا مثل الممثل العالمي كيفن كوستنر، والمخرج والكاتب العالمي أوليفر ستون الذي بدوره أخرج فيلمًا عن إحدى هذه النظريات.
كما أن هناك موظفين من الحكومة الأميركية نفسها يؤمنون بوجود حقيقة أعمق خلف الحدث، مثل وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والسيناتور السابق ريتشارد لويس، و هو الذي كان عضوًا في هيئة تحقيق اغتيال كينيدي وأصبح مكذباً بها.
آخر احصائية أجريت حول القضيّة في 2013 تظهر أن 61% من الشعب الأميركي يؤمن بتورط أشخاص أو جهات أخرى بجانب أوزوالد في اغتيال الرئيس. هذه الإحصائية أجريت بعد اغتياله بنصف قرن، وهي الأكثر ثقةً بالتقرير الرسمي من بين بقية الإحصائيات، حيث كان معدل المشككين عادة يقع حول 75%. أي أن ثلاثة أرباع الشعب الأميركي يرون تورط حكومتهم في قتل رئيسها، أو على الأقل تورطهم في إخفاء الحقيقة عن العامة.
لماذا؟
يقول جوردون ألبورت (Gordon Willard Allport) في كتابه علم نفس الإشاعة، أننا نصدق هذه النظريات لإرضاء عاملين، العامل العاطفيّ والعامل العقليّ. العامل العاطفي هو أننا نعتاد تصديق الأشياء التي تعزز مشاعرنا الحاليّة تجاه الأشياء. فأولئك الذين يصدقون أن الحكومة الأميركية نفذت الاغتيال أو سمحت بتنفيذه هم أشخاص كانوا ضد الحكومة قبل الاغتيال أصلًا، و ما كان مقتل الرئيس كينيدي إلا فرصة لتعزيز موقفهم.
أمّا العامل العقلي فهو رغبتنا في البحث عن معنى، حتى لو لم يكن منطقيًا. في ظل المعمعة التي تلت الاغتيال، و انتظار السلطات الأميركية عودة نتائج التحقيق، كانت نظريات المؤامرة هذه أقرب شيء ممكن من الحقيقة، لذا اعتنقها عددٌ لا يستهان به من الناس.
الغريب هنا، أن هذا الإيمان لا ينعكس فعليًا على تصرفاتهم. بالرغم من أنّ ثلاثة أرباع الأميركيين يؤمنون بوجود مؤامرة، أو بفشل هيئة التحقيق كأقل احتمال، إلا أنّه لا توجد أي محاولة جدية لتعديل الوضع. حيث يؤمن عدد كبير منهم بفساد وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، لكن لا أحد يغضب أو يثور أو يطالب بكشف الحقيقة.
إذا ما آمنت بوجود قاتل متلاعب في منزلك، ما الذي يمنعك من القبض على هذا القاتل وإيقافه عند حده؟
الصدفة والقدر
في عام 1914، وفي مدينة ساراييفو في الساعة العاشرة والنصف صباحًا، وفي مطعم مورييتز شيلر الذي يضجّ بأصوات الزبائن. المدينة كلها في حالة غريبة من النشاط، قبل دقائق فشلت محاولة اغتيال ولي العهد المجري النمساوي، الأرشدوق فرانز فيردناند (Archduke Franz Ferdinand). لم يخطر على بال أي من الزبائن، أن عضوًا من أعضاء الجماعة التي حاولت اغتيال الأرشدوق، يجلس بينهم الآن.
كان غافريلو برينسيب (Gavrilo Princip)، يجلس على طاولته بحزن، محاولة قتل ولي العهد قد فشلت. وبالنسبة لبقية أفراد جماعته فقد قبض عليهم أو ذهبوا أدراج الرياح. الأرشدوق في طريقه إلى القطار الآن، وكل التخطيط قد ذهب سدى، ولن تتاح لهم فرصة استرداد شرف صربيا مرة أخرى.
يرفع غافريلو يده للنادل متسائلًا عن سبب تأخرت شطيرته. يطلب منهم الاستعجال في تحضيرها، هذه الشطيرة هي الشيء الجيد الوحيد في يومه، ولم يكن ليرضى بأن تفسَد كبقيّة يومه.
لم يكن غافريلو يعلم بأنّه خلال ربع ساعة سينتهي من شطيرته و يخرج من المطعم مثقلًا بأحزانه، ليجد الأرشدوق و زوجته أمام الباب، جالسين في سيارتهما المكشوفة، يوبخان سائقهما لأنه أضاع طريق المستشفى. سيستل غافريلو مسدسه، و يطلق طلقتين، قاتلًا بها الأرشدوق و زوجته، معلنًا بداية الحرب العالمية الأولى، خالقًا العالم الحديث الذي نعرفه الآن.
الصدفة تكتب التاريخ
سقوط الخلافة العثمانية، تأسيس المملكة العربيّة السعودية، استعمار الشرق الأوسط، احتلال فلسطين، ولادة الإخوان، الحرب العالمية الثانية، الحرب الباردة، الغزو السوفييتي لأفغانستان، ولادة القاعدة، حرب الخليج، هجمات الحادي عشر من سبتمبر، الغزو الأميركي لأفغانستان، غزو العراق، الربيع العربي، داعش. كل هذا بدأ لأن سائقًا تشيكيًا ضاع في شوارع ساراييفو، و لأنّ ثائرًا صربيًا شعر بالجوع بعد فشل مخططاته.
الذي كتب في الأعلى بالطبع كذب. لا يوجد أي شيء يثبت أن غافريلو كان يأكل شطيرة قبل اغتيال الأرشدوق، ناهيك عن كونه هناك بالصدفة. القصة الحقيقية هو أنه كان ينتظر خارج المطعم لأن الجرائد نشرت مسار موكب الأرشدوق، وكان المطعم يطل على طريق العودة. هذا لم يمنع الكثير من الأشخاص من تصديق هذه النسخة من الأحداث، بل و نشرها بحماسة أيضًا.
فنّد الباحث والمؤرخ مايك داش (Mike Dash) هذه القصة، مشيرًا إلى أنها بدأت تدرّس في حصص التاريخ بالمدارس، و خدعت مؤرخين وباحثين، بالرغم من أنّ أقدم ذِكر تأريخّي لشطيرة غافريلو جاء في برنامج تلفزيوني عام 2003.
الغريب هنا، هو التشابه بين اغتيال الأرشدوق واغتيال جون كينيدي. رأس الدولة المحبوب، يزور منطقة مليئة بمعارضيه، يجوب شوارعها مع زوجته، يلوحان للجماهير من سيارتهما المكشوفة، لينتهي المطاف برأس الدولة مقتولًا بالرصاص، تاركًا خلفه أزمة سياسية ستودي بحياة الكثير.
لا دليل
الفرق الرئيس بين الحادثتين، هو أنه لا دليل على وجود مؤامرة في اغتيال كينيدي، بينما اعترف المجرمون أنفسهم بتآمرهم على اغتيال الأرشدوق. غافريلو كان جزءًا من جماعة سياسية تآمرت لقتل الأرشدوق، كما أن الحكومتين الصربية والروسية كانتا متورطتين في التخطيط للاغتيال.
السؤال إذن، لماذا تجاهل البعض المؤامرة الحقيقية، و بدأوا بنشر القصة المكذوبة بالرغم من أنها في تعارض تام مع نظرية ألبورت؟
بالطبع، جزء من جاذبية قصة شطيرة غافريلو هي الصدفة الغريبة فيها. حدث بهذا الحجم سببه قرْقرة معدة ثائر. هذه الصدفة تثير الاهتمام، وتحفز على رواية القصة. إلا أنّ التاريخ مليء بمثل هذه الصدف و الغرائب. روبرت لينكون (Robert Lincoln) على سبيل المثال، لم يكن فقط شاهدًا على اغتيال أبيه الرئيس أبراهام لينكون (Abraham Lincoln)، بل كان شاهدًا على اغتيال الرئيس جيمس جارفيلد (James Garfield)، والرئيس ويليام ميكينلي (William McKinley) أيضًا. بعد الاغتيال الرئاسي الثالث رفض روبرت الظهور بجانب أي رئيس مستقبلي، خوفًا من أن يكون هو سبب الاغتيالات السابقة.
قصة ويلمير مكلاين هي مثالٌ آخر، البقال الذي بدأت الحرب الأميركية الأهلية أمام منزله، لينتقل بسببها إلى منزل آخر هربًا من الحرب، دون أن يدري أن هذه الحرب المفصلية ستنتهي أمام منزله الثاني بعد أربع سنين.
كل هذه المصادفات والقصص لم تنل حقها من الشهرة التي نالتها صدفة غافريلو، ما السبب؟
الحقيقة التي غفل عنها ألبورت، هي أن هناك عاملًا ثالثًا يؤثر في تعامل الناس مع الحقائق و تصديقهم لها أو عدمه، وهو نفسه العامل الذي يدفعهم للتشكيك بحكوماتهم دون التمرد عليها. هذا العامل هو عامل الراحة.
عامل الراحة
يطوع البشر عواطفهم، وحتى معلوماتهم، ليبرئوا أنفسهم ويزيلوا أي ثقل عن كاهلهم. تحوير اغتيال الأرشدوق من أزمة سياسية معقدة، إلى الصدفة التي غيرت العالم، يريحك من التعامل مع الأحداث التي أدت لهدر أرواح 17 مليون نسمة. الإيمان بأن الحكومة الأميركية أو الموساد مسؤولان عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر أسهل كثيرًا من الإيمان بأن مجموعة هاوية من الشباب تسببت بكل هذا الدمار.
و بشكل غريب، الإيمان بوجود مؤامرة ضخمة يريحك من عبء التصرف لإصلاحها. لمن تشتكي إذا ما كانت حكومتك هي التي قتلت رئيسك؟ لا حاجة للمحاولة ما دام القاضي خصمك. أقصى ما تستطيع فعله هو نشر معرفتك على الإنترنت، و شتم المتآمرين في كل فرصة.
في المرة القادمة التي تواجه فيها نظرية مؤامرة، والإنترنت يعج بهكذا نظريات بعد كل حدث مهم. اسأل نفسك، ما الذي يجذبني لهذه القصة؟ أهي تعفيني شخصيًا من اللوم؟ أتدفعني إلى السكون؟ إلى فعل اللاشيء؟ أتبارك لي نظام حياتي الحالي، هذا الذي يلوم الآخرين حولي على كل شيء؟
إذا كانت الإجابة نعم، فتذكر أنّ ليس كل مريح جيد.