السد العالي و تاريخ تغيّر مجرى النيل
الملك الذي غير مجرى نهر النيل ليجعل من القاهرة باريس أخرى، واستعراض لثلاث حقب تاريخية تغير فيها مجرى النيل وانعكاسات ذلك على الواقع الزراعي والاقتصادي.
كان لنهر النيل دائمًا بريق وغموض يسحر العالم، فهو النهر الذي قامت على ضفافه الحضارة الفرعونية إحدى أهم الحضارات في العالم، وانتشرت حوله الأساطير. فتحكِي الأسطورة الفرعونية أن:
النيل نهر من الدموع انهمرت من عيون الإلهة إيزيس حزنًا على زوجها أوزوريس الذي قتله أخيه ست وبعثر أشلاءه في أنحاء البلاد.
وظل منبع النهر سرًا من الأسرار التي حيرت العلماء والباحثين منذ القدم، حتى أن هيرودوت المؤرخ الإغريقي الشهير قَدِم إلى مصر ليبحث عن أسرار هذا النيل العظيم وكان رد الكهنة دائمًا:
إنّ النّيل فيض من البركات الإلهيّة يتنزّل من السماوات العُلا إلى عالم الأرض فيكون منه الرغد والسّقا وصلاح الأرض
ولم تقتصر قدسية النيل على الأساطير وظنون الكهنة، بل جاءت النصوص الهيروغليفية تُنذر من لا يحافظ على طهارته ونظافة مياهه “من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة”.
وعلى نقوش مقبرة حرخوف في مدينة أسوان جنوب مصر؛ ذكرت النصوص اعترافات المصري القديم في العالم الآخر التي يحتاجها للنجاة من العذاب “أنا لم ألوث ماء النهر، ولم أمنع الفيضان في موسمه، ولم أقم سدًا للماء الجاري”.
لقد عرف المصريون القدماء فضل نهر النيل، فعلى ضفافه قامت حضارتهم، بل لم تقتصر أهميته على ري الأراضي وخصوبتها فقط، وإنما كان النظام السياسي والعسكري والديني والوحدة الوطنية في مصر مرتبط بنهر النيل. ومن هنا فكر المصريون في الوسائل التي تؤمن استمرار تدفق هذا النهر العظيم حتى وإن وصلت هذه الوسائل إلى تغيير مجرى النيل نفسه.
فكيف بدأ تغيير مجرى نهر النيل؟ ومن صاحب الفكرة الأولى؟
الحكاية تبدأ من مصر الفرعونية
عندما وحّد الملك مينا شمال وجنوب مصر في دولة واحدة تمهيدًا لقيام الأسرة الفرعونية الأولى، فكّر في عاصمة لبلاده، فوقع الاختيار على مدينة ممفيس، مدينة البدرشين بمحافظة الجيزة حاليًا، إلا أن سريان النيل جهة الغرب في ذلك الوقت كان يعيق تأسيس المدينة.
ولذلك في عام 2900 قبل الميلاد، كانت البداية مع تغيير مجرى نهر النيل، عندما أقام الملك مينا سد قوشيه غرب البلاد لتغيير مجرى نهر النيل إلى الشرق، والاستفادة من مياه الفيضان والأمطار والسيول. ويُعد سد قوشيه أقدم السدود في العالم، وبَلَغَ ارتفاعه وقتها حوالي 15 مترًا.
وبعدما أقام الملك مينا السد وأسس عاصمته وحقق السلام في بلاده؛ انتقلت مصر إلى مرحلة مزدهرة في عهده، فأقام القصور والمعابد وأسس معتقدات الدولة الدينية، وأصبح عهده طوال الـ 62 عامًا فترة رفاهية في حياة المصريين، فتوفّرت احتياجاتهم الأولية مما سمح لهم بوقت إضافي لممارسة الهوايات مثل النحت والرياضة وزراعة الحدائق الخاصة.
بعد 4000 سنة.. تغيير مجرى النيل لإقامة عاصمة جديدة
“من يشرب من ماء النيل مرة يعود إليه المرة تلو المرة” المثل الشعبي الأشهر على لسان أهل مصر وزوارها كان له قصة جميلة تبدأ بتغيير مجرى نهر النيل.
ففي منتصف القرن التاسع عشر شهدت العاصمة الفرنسية باريس انقلابًا معماريًا بقيادة المهندس هاوسمان، وكان إسماعيل باشا (خامس حكام مصر من أسرة محمد علي) حينها في رحلة حول أروبا زار فيها مدينة باريس وشَهَد هذه النهضة المعمارية.
وأثناء رحلته أنعم عليه الباب العالي بلقب خديوي مصر، فعاد إلى مصر عام 1863 ميلاديًا ليتولى حكمها؛ عاد منبهرًا بنهضة فرنسا المعمارية، بداخله حلم تأسيس عاصمة جديدة لدولته تنافس باريس في جمالها.
وكانت مدينة القاهرة في ذلك الوقت تمتد من منطقة القلعة في الشرق حتى مدافن الأزبكية وميدان العتبة في الغرب، وكانت حالتها متدهورة تنتشر فيها البرك والمستنقعات والمقابر حتى أن كتاب الغرب قالوا عنها “من يشرب من ماء النيل مرة يعود فورًا لبلاده ليُعَالَج من إصابته بالملاريا والحمى المعوية”.
إلا أن الخديوي إسماعيل لم يتوان في تحقيق حلمه، فبعدما تولّى حكم مصر ذهب لحضور المعرض العالمي في باريس وطلب من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المُخطط العمراني الذي صمم مدينة باريس بتخطيط مدينة القاهرة.
وبالفعل رجع الخديوي إسماعيل مع هاوسمان محملًا بآمال عريضة في الهدم والبناء ليحوّل مدينة القاهرة إلى باريس الشرق. وأصبحت المقولة الأشهر للخديوي إسماعيل “من يشرب من ماء النيل مرة يعود إليه المرة تلو المرة” هي السائدة على لسان كل من يزور مصر وعاصمتها.
واستمر مشروع بناء القاهرة الخديوية خمسة أعوام، ولِتحويل القاهرة إلى تحفة معمارية كان لا بد من تغيير مجرى نهر النيل وردم البرك والمستنقعات.
كيف تم نقل مجرى نهر النيل في عهد الخديوي إسماعيل؟
كان الهدف من تغيير مجرى النيل إتاحة مساحات واسعة من الأراضي لإنشاء المناطق الجديدة لتزيين وتنمية مدينة القاهرة، كحديقة الحيوان التي سميت وقتها بـ“جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا” وحديقة الأورمان وجامعة القاهرة وأحياء الدقي وبين السرايات والعجوزة والمهندسين. كل هذه المناطق الحيوية في محافظة الجيزة حاليًا كان يجري بها نهر النيل قديمًا.
وبالفعل بدأ تحويل مجرى النيل في نهاية عام 1863، وهو نفس العام الذي بدأ معه تصميم مدينة القاهرة الجديدة، تم التحويل ببناء حاجز خرساني عند مدخل كوبري عباس بالجيزة.
ساعد ذلك الحاجز في تغيير اتجاه تيار مياه الفيضان إلى الشرق ناحية مدينة القاهرة، ليتم بعدها بناء جسر ترابي بمحاذاة الحاجز الخرساني ليعمل كسد لِمدخل المجرى القديم، ثم تم بناء حاجز خرساني آخر عند مدخل فندق شبرد الحالي بزاوية مناسبة ليعيد توجيه النيل مرة أخرى لمجراه الأصلي عند منطقة إمبابة وبولاق الدكرور.
ومن قبيل الصدفة السعيدة ارتفع منسوب مياه الفيضان ذلك العام وقوة اندفاعه، مما ساعد على نحت التيار للشاطئ الشرقي للنهر واتساع النيل، وإنجاز عملية التحويل في عام واحد فقط.
وبعد تغيير مجرى نهر النيل تكدست أراضٍ كثيرة غزيرة الطمي بين شارعي مراد وشارل ديجول بالجِيزة وكورنيش النيل الأعظم، استفادت منها الدولة في الاستثمار العقاري وإقامة المشروعات الضخمة التي شملت حدائق الأورمان وحديقة الحيوان وجامعة القاهرة وغيرها.
ولم تكن هذه المرة الوحيدة في مصر الملكية لتغيير مجرى نهر النيل، فبعدما نُفي الخديوي إسماعيل من مصر، حَكَمَ بعده بـ60 عامًا نجله الملك فؤاد الأول، وغيّر في عهده مجرى النيل مرة أخرى لإقامة قناطر نجع حمادي في صعيد مصر لتنظيم حركة الري.
ووضع حجر الأساس لهذا المشروع في العاشر من فبراير عام 1928، وأتمّ بناءه في 19 ديسمبر عام 1930.
التغيير الذي أبكى أهل النوبة
لا زرع، لا حطب للخبيز، لا شيء مطلقاً سوى عواء الذئاب الجائعة والعقارب، ونحن أيضا كنا جوعى، مرضى فقراء
بهذه الكلمات كتب الروائي النوبي إدريس علي في سيرته الذاتية يصف حاله وحال أهالي النوبة بعد تهجيرهم من قراهم في محافظة أسوان جنوب مصر بعد تغيير مجرى نهر النيل وبناء السد العالي.
فبعد انتهاء عصر الملكية وقيام الجمهورية المصرية وتَولِّي جمال عبد الناصر حُكم مصر، كان السد العالي من أهم المشروعات التي أراد إنشاءها للاستفادة من مياه فيضان النيل في توليد الكهرباء وبداية ثورة مصر الصناعية.
ولبناء السد كان لا بد من تحويل مجرى نهر النيل عن طريق تفجير الجبل الشرقي لموقع السد العالي. مهمة صعبة بدأت ببناء سد رملي بشكل مؤقت أمام بحيرة ناصر، وسد رملي آخر خلف السد لفصل مياه النيل عن موقع العمل، العمل الذي بدأ في التاسع من شهر يناير عام 1960 واستمر أربع سنوات حتى 15 مايو عام 1964.
وفي يوم افتتاح السد العالي قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع نيكيتا خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي سابقًا، والذي ساهم في تمويل بناء السد العالي، بتفجير السد الرملي في احتفالية ضخمة بعد الضغط على زر التفجير لتحويل مجرى النيل إلى قناة صناعية تقع أمام السد العالي بلغ طولها 1950 مترًا.
ومن هذه اللحظة توالت الأغاني الوطنية والأشعار وفرح المصريون كثيرًا لتحقيق حلم بناء السد العالي.
إلا أن تخزين المياه في بحيرة ناصر، المرحلة التي أعقبت بناء السد، أثّر سلبيًا على غمر أراضي النوبة وغرقها وتهجير الأهالي من قراهم إلى منطقة بلانة بأسوان، الأمر الذي تسبب في صدمة عصبية ونفسية لكثير من أهالي القرى المُهجّرة ووفاة كثير من الأطفال حديثي الولادة.
بعيدًا عن أرض الكنانة
هذه المرة ليس بمصر وإنما بعيدًا بآلاف الكيلومترات في الجنوب، حيث قامت دولة إثيوبيا جنوب السودان في عام 2013 بتغيير مجرى نهر النيل الأزرق أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل تجهيزًا لبناء سد النهضة على ضفافه لتوليد الكهرباء وبناء اقتصاد البلاد.
السد الذي حتى الآن لا زال موضع خلاف بين دول إثيوبيا ومصر والسودان، حيث تتشارك مصر في نهر النيل مع 10 دول أخرى من دول أفريقيا وهم بوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ودولة أوغندا والسودان وإثيوبيا ودولة جنوب السودان.
وعلى الرغم من أن التغييرات التي حدثت من قبل في مجرى نهر النيل كان لها على الأغلب آثار إيجابية على حياة المصريين الاجتماعية واقتصادهم الزراعي أو المظهر الجمالي لمدنهم، إلا أن التغيير هذه المرة متوقع له أن يحدث آثارًا سلبية كبيرة على جفاف الكثير من الأراضي واحتياج مصر من الغذاء والمحاصيل الزراعية، حيث ستقل حصة مصر من مياه نهر النيل بمعدل 10 مليارات من حصتها الحالية التي تُقدّر بحوالي 55.5 مليار متر مكعب.
ومن هنا يتحتم على مصر إذا لم تتوصل الدولتان إلى قرار مشترك عدم الاعتماد الكلي على مياه نهر النيل لأول مرة في تاريخها والبحث عن طرق وبدائل لاستغلال موارد مياه أخرى وسد احتياجاتها.