740 بارك أفينيو
في منطقة منهاتن في مدينة نيويورك الأميركية، يعتبر الحي 740 بارك أفينيو أغلى حي في نيويورك. هذا الشارع لا يتميز بأنه مقصد لرجال الأعمال فقط، هو أيضًا ذو دلالة على وجود قوة سياسية تتحكم في الولايات المتحدة الأميركية.
في منطقة منهاتن في مدينة نيويورك الأميركية، يعد الحي 740 بارك أفينيو أغلى حي في نيويورك. لا يتميز هذا الشارع بأنه مقصد لرجال الأعمال فقط، بل هو أيضًا ذو دلالة على وجود قوة سياسية تتحكم في الولايات المتحدة الأميركية.
لا ينشغل أغنياء 740 بارك أفينيو بشراء السيارات الفارهة والطائرات الخاصة والعقارات الباهظة منذ ثلاثين سنة، فهم يبسطون نفوذهم على شتى المجالات مستفيدين من النظام الذي أتاح لهم هذا الشيء. لكن إذا توجهت شمالًا لمدة عشر دقائق سينتهي شارع بارك أفينو عند نهر هارلم، ويوجد في الضفة الأخرى لهذا النهر نسخة مختلفة عن بارك أفينيو، هنا جنوب برونكس موطن لأفقر مواطني أميركا، يقيم فيها حوالي 700 ألف نسمة، يجني 40% منهم أقل من 40 دولارًا في الشهر. ويوجد منهم من وقع في الديون بسبب أحد القروض المقدَّمة له من البنوك التي يملكها سكان الجهة الأخرى من النهر. لكن وكما هو مزعوم في أميركا، بلد الفرص المتساوية، بإمكانك أن تبدأ من الصفر فتصبح أحد محققي «الحلم الأميركي» وتنتقل للعيش بجانب الأثرياء في بارك أفينيو، لكن هل فعلًا ما زالت كذلك؟ نحتاج إلى العودة بالزمن قليلًا حتى ندرك التغيرات التي حصلت على المشهد الاقتصادي الأميركي وكيف أثرت على طبقات المجتمع المختلفة.
صورة مصغرة للحلم الأميركي
لنتخيل أنك دُعيت للعبة مونوبولي ووجدت أن العقار قُسِّم والأموال وُزِّعت، فتقف حائرًا لا تعلم هل تلعب اللعبة أم لا. يقنعك الآخرون باللعب معهم، بل يجعلونك تصدق أن فرصكم في النجاح متساوية. هذا ما يحصل لك في الواقع، فالأثرياء لهم معارف في كل مكان مما يتيح لهم اقتناص الفرص قبل الآخرين الذين لا يمتلكون تلك المزايا.
انتشرت لعبة مونوبولي في فترة الركود العظيم وتعد رمزًا للرأسمالية وصورة مصغرة للحلم الأميركي. يبدأ الجميع بنفس كمية المال ولهم نفس الفرص عند نقطة الانطلاق، لكن حتى تربح عليك أن تجد طريقًا يمزج بين الحظ والمهارة. درس بول بيف (Paul Piff) عالم نفسي من جامعة بيركلي في كاليفورنيا سيكولوجية الثراء والعواقب المترتبة عن عدم المساواة في المجتمع الأميركي. وأجرى بيف تجربة باستخدام لعبة مونوبولي عبر إعطاء بعض اللاعبين أفضلية على الآخرين. يبدأ بلاعبين لا يعرف بعضهم البعض، وتُرمَى عملة لتحديد مَن تكون؟ هل ستكون الشخص الغني أم الفقير؟ كما يحدث في الحياة، تأتي لهذه الدنيا في عائلةٍ ما ذات طبقة معينة ترسم لك ملامح مستقبلك دون أن تبذل شيئًا.
إن كان نصيبك أن تصبح شخصًا غنيًا فستحصل على ضعف المال، أي في كل دورة ستحصل على 400 دولار بدلًا من 200. أما لو كنت فقيرًا فسيكون لديك نصف المال ولا يحق لك أخذ 200 دولار بعد كل دورة، بل 100 دولار فقط، ويحق لك رمي مكعب الزهر مرة واحدة فقط. فتصبح خطواتك أبطأ من منافسك الذي بإمكانه رمي المكعب مرتين. مع مرور الوقت، سيعتقد الأشخاص الأغنياء أنهم استحقوا الفوز رغم حصولهم على مميزات تعطيهم الأفضيلة. وتوصل العالم بعد هذه التجربة إلى أن الأغنياء، حتى وإن ولدوا بمميزات تجعلهم أفضل من الآخرين، إلا أن ثمة اعتقاد بداخلهم أنهم يستحقونها تمامًا.
زاد معدل الفروقات بين الأغنياء والآخرين
لطالما عُرفت أميركا بأنها الأرض الخصبة للطبقة الوسطى. هناك قليل من الأغنياء وقليل من الفقراء، بينما تنتمي الغالبية تنتمي إلى الطبقة الوسطى. لكن هذا الشيء تغير في الثلاثين سنة الماضية، فقد زاد معدل الفروقات بين الأغنياء والآخرين وأصبحت هذه الفروقات تظهر كالأخدود العظيم لكبر الاختلاف بينهما.
يوضح الرسم البياني الفروقات في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى السبعينيات ومقارنتها بالألفية، نجد أن الأرباح مشاركة بين الجميع مع استحواذ الأغلبية العظمى، المعروفة في ذلك الوقت بالطبقة الوسطى، على النصيب الأكبر منها. اختلفت هذه المشاركة في عصرنا الحاضر، حيث أصبح النصيب الأكبر من الفطيرة يذهب لواحد بالمائة من الشعب وهم الأثرياء. في عام 2004، كان مجموع ثروات أربعمائة شخص من هؤلاء الأثرياء يعادل مجموع ثروة سكان جنوب أميركا، أي ما يعادل 150 مليون شخص.
«اللوبي»
ماذا يفعلون بهذه الأموال؟ يعيش واحد بالمائة من تلك الواحد بالمائة في 740 بارك أفنيو، وهو عبارة عن 31 وحدة سكنية فقط. يوضّح جايكوب هاكر (Jacob Hacker)، العالم السياسي في جامعة يال ومؤلف كتاب «الفائز يستولي على السياسة» (Winner Take All Politics)، كيفية صعود هؤلاء الأثرياء. ووصل لاستنتاج بأن صعودهم لم يكن نتيجة العمل الشاق فقط، بل استعمال المال لتغيير الأنظمة حسب مصالحهم، وذلك عبر دعم سياسيين بأموالهم. فواشنطن العاصمة مليئة بالنواب الذين يقضون وقتًا طويلًا على الهاتف من أجل الحصول على أموال الدعم، وفي المقابل يمررون قرارات تخدم أصحاب هذه الأموال، وهذا ما يعرف بمصطلح «اللوبي».
كان ستيف شوارتزمان (Stephen Allen Schwarzman) أحد أهم رجال الأعمال في بداياته مديرًا لصالح شركة ليمان بروذرز قبل أن يؤسس مجموعته ذا بلاك ستون (The Black Stone). وعندما نريد أن نتحدث عن ضغط اللوبيات لصالح الأثرياء من أجل خفض معدل الضرائب، يجب أن يكون شوارتزمان موجودًا. تحصّل جورج بوش على دعم من شوارتزمان، وهو أحد قاطني 740 بارك أفينيو، لدعم الجمهوريين عام 2007، وتم اللقاء في شقته. لم يذهب ميت رومني (Mitt Rommney) قبل ترشحه للرئاسة لواشنطن لينال الدعم، بل زار شقة شوارتزمان في 740 بارك أفينيو لينال دعمه. والدليل على نفوذ هؤلاء الأشخاص القليلين على الحكومة الأميركية هو قانون الضرائب المسمى بـ(Carried Interest provision) الذي يسمح لأصحاب الثروات العالية والشخصية كشوارتزمان بدفع خمسة عشر بالمائة من ثرواتهم ضرائب. لتبسيط الأمر أكثر، يدفع الثري ضرائب أقل من أصحاب المحلات العائلية الصغيرة.
منذ العام 2006 إلى الآن،
وكل ممثل عن الحزب الديموقراطي والرئيس المنتخب من هذا الحزب (أوباما) يريدون إلغاء هذه الفقرة من نظام الضرائب. وعندما سيطر الديموقراطيون على الكونقرس، لم يتمكنوا من إصدار قرار بهذا الشأن والسبب هو السيناتور تشارلز شومر(Charles Schumer). يعد شومر من أقوى أعضاء مجلس الشيوخ في تاريخ الولايات المتحدة، وأصبح معروفًا لدى قادة الحزب الديموقراطي لكونه جامع تبرعات مميز. في ذلك الوقت، كان شومر رئيس النواب الديموقراطيين في مجلس الشيوخ. في يونيو 2007 في الوقت الذي كان يُنتظَر من شومر إلغاء القرار الخاص بالضرائب والمسمى بـCarried Interest provision، تحصل شومر على دعم من شركة ذا بلاك ستون قيمته مليون دولار. وبعد هذا التاريخ، لم يُطرَح نقاش في مجلس الشيوخ عن هذا القرار وكأنه اختفى من الوجود. وكأن هذا دليل صريح على تحكم الأموال بالسياسة الأميركية.
لننتقل إلى شخص آخر من قاطني الحي 740 بارك أفينيو، وهو رجل الأعمال ديفيد كوتش (David Koch) المشهور بدعمه للحزب الجمهوري. يعد هو وشقيقه تشارلز من أكثر المؤثرين بأموالهم على مجلس الشيوخ في تاريخ أميركا. نالت حركة حزب الشاي (Tea Party) التابعة للحزب الجمهوري دعمهم. وعندما تستمع لخطب الإخوة كوتش، تجد أن الحديث منصب دائمًا على السوق الحرة وأن على أميركا أن تعود إلى سابق عهدها في هذا المجال، وهم يقصدون بذلك إلغاء قوانين الحفاظ على البيئة -خصوصًا أن لهم نصيبًا في هذه التجارة (البترول والغاز)- ليتمكنوا من خلق وظائف جديدة. مَن يسمع هذا الخطاب سيعتقد أن المراد به الفائدة للناس ولكن هل هو فعلًا كذلك؟ هل الحرية التي يقصدونها هنا أن تكون للجميع أم الحرية للأثرياء فقط التي تعفيهم من الضرائب وقضايا التلوث وتخليصهم من أي مسؤولية تجاه المجتمع؟ هي حتمًا حرية يُرَاد بها التخلص من المسؤولية تجاه أي قضايا من شأنها أن تشوه سمعتهم.
الثروات تتضخم بقفزات مهولة
في العام 1965، كان المدير التنفيذي في أميركا يحصل على راتب أعلى من 20 موظفًا مجتمعين. في وقتنا الحاضر وتحديدًا في العام 2011، أصبح المدير يتقاضى أجرًا أعلى من 231 موظف. ماذا يحصل؟! هل يحصلون على هذه المبالغ لأنهم فعلًا يستحقونها؟ أحد قاطني 740 بارك أفينيو هو أحد هؤلاء، وصُنِّف في العام 2007 على أنه المدير الأعلى أجرًا في العالم وهذا الشخص هو جون ثين (John Thain).
تتضخم الثروات بقفزات مهولة، وأناس الطبقة الوسطى بدؤوا بالوقوف عاجزين عن مجاراة تلك القفزات واستيعابها. كلهم أمل بأن لا يستيقظوا يومًا ليجدوا أنه لم يتبقَّ لهم شيء من تلك الثروات.