حرّية الوقاحة!
والحق أني لست مؤمنًا بحرية تعبير مطلقة على هذا الكوكب، ولكل أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات خطوط حمراء تختلف وتقل وتزيد.
أقدم اعتذاري الشديد لكل أصدقائي وأعدائي حتى أولئك الذين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء عن كل كلمة قلتها لهم وأنا أحدثهم عن «حرية التعبير» في الغرب بعامة وفي أوربا على وجه التحديد. وأعترف أنه قد غرر بي وأني كنت طائشًا أرعن إلى درجة جعلتني أصدّق وجود مثل هذه الترهات وأحاول أن أقنع بها غيري. لكن الذي يجعل الأمر أقل سوءًا هو أنه لا أحد يصدقني في العادة، ولذلك لا أضرار مترتبة على هذه القناعات الغبية التي كنتُ أحاول ترويجها بين الناس.
والحق أني لست مؤمنًا بحرية تعبير مطلقة على هذا الكوكب، ولكل أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات خطوط حمراء تختلف وتقل وتزيد من أمة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر. ولكن الذي فاجأني هو أن الغرب استبدل بحرية التعبير التي صدّع بها روؤس العالم ردحًا من الزمن، فأحل محلها «حرية الوقاحة». والفكرة لا تتعلق بآراء قديمة قالها الأجداد وخالفها الأحفاد، ولكنّ حرية الوقاحة في فرض قناعات على الآخرين والعمل بعكسها في الوقت نفسه. في الحرب الأوكرانية على سبيل المثال اختلقوا حريات مشوهة جديدة؛ فتدخلت السياسة في الرياضة والفن وكل ما يخص الحياة، حتى خيل للبشرية أن التنفس ليس مسموحًا به لمن لا يؤيد الأوكرانيين في هذه الحرب. وحين قرر الناس -وأنا واحد منهم- أن يؤمن بما آمنوا به وأن نحشر السياسة في الرياضة وكل شؤون الحياة حين نعبر عن آرائنا في المجازر وجرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الصهيوني في كامل الأرض الفلسطينية وفي غزة على وجه التحديد، عندها أخبرونا أن السياسة التي يحق لها أن تحشر أنفها في الرياضة هي التي تخصهم.
وفي فرنسا -وهي التي تقدم نفسها على أنها أرض النور ورائدة الحريات في العالم الحديث- يُهدد لاعب كرة القدم كريم بنزيما بسحب جنسيته ومحاكمته لأنه أبدى تعاطفًا مع الضحايا في فلسطين، ولم يعترضوا عليه لأنه رياضي يجب أن يهتم بتسجيل الأهداف ويدع السياسة للسياسيين، بل لأنه تعاطف مع الجانب الذي لا يروق لهم، فلو كان تعاطفه مع الجانب الصهيوني المعتدي الأثيم لكان حديثه من الأحاديث التي لا تستقيم الرياضة دونها. في ألمانيا يوقف نادي بايرن ميونخ لاعبه المغربي نصير مزراوي لأنه أبدى تعاطفًا مع الضحايا، ولم يفهم أن حرية التعبير الغربية تعني حرية تأييد القاتل وليس التعاطف مع المقتول. والحقيقة أني أعذر ألمانيا على وجه التحديد؛ فلعل تأييدها غير المشروط نابع إما من عقدة الذنب تجاه ما فعلوه سابقًا باليهود، أو خوفًا من نهاية إسرائيل وعودة اليهود إلى ديارهم التي هُجِّروا منها وشُحِنوا في السفن إلى فلسطين.
وكل الصحافة الغربية التي كانت تحاضر في وقت قريب عن حرية التعبير أيام الرسوم المسئية للرسول عليه الصلاة والسلام ثارت فجأة على رسام كاريكاتير أظهر المجرم نتيناهو على حقيقته، وفُصِل من الصحيفة التي عمل فيها أربعة عقود.
أما معظم وسائل التواصل الاجتماعي التي قدَّمها العالم الغربي على أنها الملاذ الأخير لحريات التعبير فتسابقت إلى منع وحجب كل منشور يتعاطف مع الفلسطينيين، وأغلقت أو قيّدت الوصول إلى كثير من الحسابات.
تحيز الإعلام الغربي للسردية الصهيونية بدا مقززًا؛ لأنه يقبل بأي رواية تصب في هذا الاتجاه مهما بدت متهافتة وغير قابلة للتصديق، ومحاولة فرض سردية محددة على الأحداث التي نشاهدها بأعيننا ونلمس أثرها تجعلنا نفكر في كثير من الأحداث والأخبار التي كتبها المنتصرون في الماضي. بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب الواضح المكشوف والوقح:
لا أعلم حقيقةً ما الظروف التي كُتب فيها تاريخ الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، ولا ما القصص التي تم تأليفها في تلك الفترة وأصبحت في أيامنا حقائق لا تقبل الجدال وأضحى نقاشها من المحرمات التي يتحاشاها كل متحدث عن التاريخ. Click To Tweet
بخاصة أن الذي تُزيَّف الأحداث التي نراها بأعيننا لمصلحته هو المستفيد من التاريخ الذي كُتب عن تلك الحقبة.
حتى النظم السياسية الديمقراطية التي تُقدَّم على أنها الطريقة الوحيدة الصالحة للحياة تعتمد على كذبة أخرى لا تقل وقاحة عن كذبة حرية التعبير هي كذبة «التمثيل الشعبي»؛ فالشعوب في أوربا وفي كل العالم تكره الظلم وتساند المظلوم وتكره الشذوذ، لكن هذه الأكثرية لا صوت لها في مطابخ صنع القرار ولا في وسائل الإعلام الموجهة لخدمة أغراض الطبقة الرأسمالية الحاكمة.
ما آمله في آتي الأيام، بعد أن كفرتُ بحرية التفكير، أن تمتد عدوى الكُفر هذا إلى كثير من الذين ما زالوا لا يرون النور إلا في الأفق الغربي؛ لأن إيمانهم بذلك النور المزعوم في المقام أولًا إيمان بوهم، وثانيًا لأن الغرب والشرق وكل أمم الأرض لا تحترم إلا من يحترم نفسه وثقافته ومعتقداته وإن ناصبوه العداء، وإن كنت تظن يومًا أن قومًا قتلوا الأنبياء والرسل ونقضوا عهودهم ومواثيقهم مع الله خالق الخلق وبارئهم سيلتزمون بمواثيقهم معك فأنت في الحقيقة تحاول جاهدًا أن تخدع نفسك لا أكثر ولا أقل.
وإن كنت تعتقد بأن الكيان الذي ليس له حدود حتى الآن وحدود دولته المعلنة بشكل وقح وسافر هي «حسب التساهيل» سيكون واضحًا معك، أيًا كان معتقدك ودينك وتوجهك الفكري أو السياسي، فأنت تحتاج إلى كيّة في منتصف الرأس حتى تُغلق المسامات التي تتسرب منها تلك الأفكار إلى عقلك.
ولعلها فرصة سانحة لأن أبدأ مشروعي الصغير في هذا المجال الحيوي المهم، وسأقدم تخفيضات جيدة لمن يريد أن أكوي جمجمته وأعيد له ضبط إعدادات المصنع.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!