خطابات التحفيز تمنح اليائسين جنة زائفة
المطلوب منا جميعًا أن نسعى ونحاول ونتأقلم مع الحياة وتحدياتها وتسوياتها؛ لأن هذه طبيعة الإنسان والحياة التي يعيشها.
لا تتجاوز يومك غالبًا إلا وتقف على منشور في منصة من المنصات «يحفِّزك» صاحبه إلى السعي وراء أحلامك، من تغريدة إلى مقطع مجتزأ في «تك توك» إلى محاضرة في «يوتيوب» إلى «محاضرات تيد» (Ted Talks) وأشباهها. وغالبًا ستشعر بأنَّك مقصّر في سعيك وأنَّ حلمك بين يديك لكنك أنت المتقاعس عن فعل ما يفعله المحفزون.
«خطابات التحفيز» (Motivational Speech) صناعة أمريكية رأسمالية بالدرجة الأولى. وتدر كثيرًا من الأموال قُدرت في 2020 بأكثر من عشرة مليارات دولار، ويُتوقع أن تصل إلى أربعة عشر مليارًا في 2025، سواء من خلال المحاضرات واللقاءات العامة ونحوها من أنشطة أم الكتب الأكثر مبيعًا أم الاستشارات الخاصة أم ما يعرف بـ«التدريب على الحياة» (Life Coaching). وهذه الخطابات تُترجَم وتُنسَخ ولها رواد كثيرون في العالم العربي.
ومن أهم عناصر قوة خطابات التحفيز الفئة التي تستهدفها؛ فلن يبحث عن خطابات التحفيز شخص مستقر عاطفيًا ونفسيًا، ولن يستمع إليها شخص يرى حياته تسير كما يجب. قوة خطابات التحفيز في أن جمهورها يعيش في أزمات وتحولات حياتية كبيرة، ويبحث عن بصيص أمل لمواصلة العيش؛ وهذا ما يجعل فيديوهات خطابات التحفيز طويلة ومنوعة لتستمع إليها عدة ساعات فتهدأ روحك القلقة والمنكسرة.
هنا تأتي سمة أساسية من سمات خطابات التحفيز، وهي التركيز في ما هو بديهي؛ فالبشر منذ آلاف السنين يعرفون أن «من جدَّ وجد ومن زرع حصد»، لكن عندما يقولها شخص بلغة حديثة: «أنت تستطيع» و«إذا حلمت بجد وسعيت إلى تحقيق أحلامك فستتحقق» يصبح لها سحر مختلف لا تحتويه حكمة القدماء.
أما السمة الثانية فهي اللغة المبسطة؛ فبدلًا من الأحاديث الفلسفية الثقيلة حول «معنى الحياة» أو «غاية الوجود» يصبح الحديث عن أحلام ومواهب مدفونة تتوهج.
ومن أشد مضامين خطابات التحفيز كارثيةً، التي يمكن لها أن تجعل الإنسان أكثر هشاشة، هي الوعد بحتمية النتائج. فعندما تحلم وتسعى بجد تحقق أحلامك في النهاية! وهذا الوعد بالنتائج يتناقض مع طبيعة الحياة التي لا تعطي البشر ما يريدون وما يسعون إليه دائمًا؛ فالحياة مليئة بالعقبات التي لا نتجاوزها بل نتعايش معها.
فمن يحاول ويسير فسيصل إلى مكان ما، هذه سنة الوجود، ولكنه لن يصل بالضرورة إلى وجهته؛ فطريقنا في هذه الحياة متعرج ومليء بالعقبات. وربما كانت استعارة «الطريق» في هذا السياق مضللة؛ فنحن لا نسير في طُرق تؤدي إلى وجهاتنا، بل نسعى تجاه ما نريد، وقد نصل أو لا نصل، والسعي هنا يختلف عن استعارة «الطريق» التي تعد بنتائج حتمية.
أما أخطر عناصر خطابات التحفيز فهو افتراض السير «وحيدًا» لتحقيق أحلامك، وأن أي نقد أو توجيه أو نصيحة لا تتواءم مع أحلامك ومخططاتك فهي تأتيك من شخص عليك التخلص منه فورًا! وهذا الخطاب الحاسم يفترض أنْ نواجه صعوبات الحياة فرادى، وهذا غير صحيح؛ فنحن نعيش وفق أسر، ولدينا أحبة وأصدقاء، في مجتمع وثقافة، وهذا كله مؤثر في تعاطينا مع صعوبات الحياة.
لذا تجد بعض المتأثرين بخطابات التحفيز يقطعون صِلاتهم بمن حولهم، وكأن هذه الخطابات لا تنجح إلا بعد عزل الإنسان عن محيطه. وهنا نخسر أهم حسنات دوائرنا الضيقة التي نحيا فيها: أنهم يذكروننا من نحن عندما نفقد وجهتنا، ويخبروننا بأخطائنا عندما نرتكبها، ويساعدوننا على النجاة عندما تداهمنا نكبات الأيام.
وما أتحدث عنه هنا يختلف عن تسليم حياتنا للآخرين، فإذا حاول أحدهم فرض أمر عليك فتجاهله. لكن الانتقادات التي تصلنا من الآخرين تفيدنا سواء اتبعناها أم لا، وهنا فرق بين التجاهل والقطيعة.
ومن العناصر التي تتمحور حولها خطابات التحفيز فكرة «الموهبة الخفية»؛ ففي داخل كل إنسان موهبة وشغف يستطيع استثماره لتحقيق النجاح أو المال، وهذه الفكرة تناقضها تجاربنا وحياتنا وكل ما نراه حولنا.
فكثير من البشر يعملون في وظائف يكرهونها، أو دخلوها مصادفة، أو قرروا دراسة التخصصات المرتبطة بها في عمر مبكر وبرؤية ضبابية، وإذا قرروا ترك هذه الوظائف التي لا تنسجم مع مواهبهم الداخلية الحقيقية أو المتوهمة فسينتهي المطاف بجلِّهم عاطلين ومعدمين.
خطورة هذه الخطابات أنها دفعة كبيرة لليائسين في البدايات، ثم تغرس في دواخلهم الإيمان بحتمية تحقيق الأحلام، وتبالغ في أهمية اعتماد الإنسان على نفسه وتدفعه إلى العزلة، لينتهي المطاف به محطمًا وبائسًا أشد مما كان أول الأمر.
فالحياة قاسية، وكثير منا يولدون بلا مواهب، وبعضنا لن يحقق أحلامه أبدًا، وبعضنا لن يعرف وجهته أصلًا، ولكن المطلوب منا جميعًا أن نسعى ونحاول ونتأقلم مع الحياة وتحدياتها وتسوياتها؛ لأن هذه طبيعة الإنسان والحياة التي يعيشها. فالحياة مكابدة، «لقد خلقنا الإنسان في كبد».
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.