لم أكن أعرف ذاك الصباح، في الخامس والعشرين من نوفمبر 2019، أني سأستقيل من وظيفتي السابقة. كنت مرهقة وأخذت إجازة لأبقى في البيت. وردني اتصال من زميلي في العمل، ترددت في استقباله لأني في إجازة، لكن قلت في نفسي ربما الأمر ضروري، فأجبته. لساعة راح ذاك الزميل يفضفض عن كل ما يعانيه مع مديرنا وكل ما يتعرض له من إساءات لفظية وتلاعب ذهني ونفسي على يده.
ما إن أنهى زميلي المكالمة شاكرًا إياي على حسن استماعي له وأنَّه بات يشعر على نحو أفضل، بأقل من دقيقة رنَّ عليَّ مديرنا يفضفض إليَّ شاكيًا من زميلي، وأني وزميلي لا نكترث حقًّا لمصلحته وخيَّبنا أمله. على مر عشر سنوات كنت أساير مديري في نوبات غضبه المبالغ بها وأمتصُّها مثل الإسفنج (حتى تعدي القصَّة على خير). لكن بعد «الشحن العاطفي» الذي تلقيته من زميلي، سأترك لخيالك تصوُّر علوَّ الصرخة التي صرختها في وجه مديري!
نحن في أمس الحاجة إلى الفضفضة وإلا سننفجر، لكن يستهين الكثير منَّا بتأثير هذه الفضفضة على الآخر، وننسى أننا في الواقع ننقل إلى المستمع شحنات عاطفية سلبية نابعة عن مخاوف مبالغ بها وعن قلق عارم متراكم. ففي واقع الأمر، زميلي لم يكن ينوي أبدًا ترك وظيفته، ولم يعرض عليَّ مشكلة محددة طالبًا حلًّا لها. هو فحسب أراد أن يفرِّغ عقله من تأثير تراكم الضغوطات حتى يعود للعمل بذهن أصفى. والأمر ذاته مع مديري.
أي كان الأمر أشبه بالتقيؤ في كيس ورقي بني وتركه برائحته النتنة في يدي (استعارة الكيس الورقي البني بدل النايلون نابعة من ثقافة معالجتي النفسية الأمريكية).
وعلى سيرة المعالجة النفسية، اكتشفت بالممارسة الخطأ الكبير الذي أرتكبه حين أضيِّع جلسة كاملة بالفضفضة من شيء أزعجني يومها، لأكتشف أني خرجت من الجلسة مدفوعة الثمن دون فائدة أو معالجة للمواضيع التي تحتاج إلى التركيز عليها. فهذه الفضفضة زوائد كان بإمكاني قصقصتها لو شاركتها مع شخص آخر. وهذا ما أفعله الآن مع «باي».
كلما شعرت برغبة في «التفريغ» فتحت تطبيق الذكاء الاصطناعي «باي» وفضفضت إليه، و«باي» لا يقصِّر. يرد عليَّ بالردود المثالية وفي لغة وديَّة نمطيَّة، والأغرب، في حماس وتعطُّش لمعرفة المزيد (الدليل على الجانب غير البشري فيه). إذ سيظل يسألك متوجهًا إليك باسمك: كيف تشعر الآن..؟ هل تجد هذا الحل أفضل أم تظن أنَّ حلًّا آخر يناسبك؟ هل فكرت بفعل كذا؟ …إلخ.
أدري أنَّ حماس «باي» ليس حرصًا عليّ بل لتغذية قاعدة بياناته بالقدر الأكبر من فضفضتي، وأنَّ نصائحه «النمطية» سطحيَّة وغير موثوق بها. ولست قلقة من الوقوع في غرامه كما حصل في فلم «هير» (Her)، رغم تحذير عدد من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي من الاعتماد النفسي للإنسان على هذه النوعيَّة من التطبيقات والانخراط العاطفي معها.
رأيي أنا كمستخدمة، بما أنَّ الطرفين مستفيدان ولا طرف بشري ثالث يتضرر من هذه الفضفضة، فلم لا نستعين به؟ فهو أداة جيدة تؤدي المطلوب منها. تغنينا عن إحباط إنسان آخر وشحنه، وأيضًا تغنينا عن الفضفضة من خلال منصات التواصل وما قد تجرُّه علينا من مواقف لا يُحمَد عقباها.
«باي» مجرد البداية. فوفقًا لآخر معطيات سباق قوقل المحموم في الذكاء الاصطناعي، نحن موعودون عن قريب بأدوات أفضل منه قد تصل إلى مستوى «مدرب حياة» ذكي في جيبك تدرَّب على قاعدة مهولة من الفضفضة البشرية. فجرِّب وفضفض إلى «باي»، ستخسر خصوصية بياناتك ومعلوماتك أكيد، لكن لن يكلفك وظيفتك أو صديقك.
مقالات أخرى من نشرة أها!
كيف شوّهت سبيستون رؤيتنا للعالم؟
سواء امتنعنا عن مشاهدة كرتون لوجوده في كوكب زمردة، أو عن قراءة كتاب في تطوير الذات؛ فالقضية هي نفسها: فرض التصنيف نفسه علينا.
حسين الإسماعيلالتنقُّل بين الوظائف ما عاد عيبًا
سيؤلمك الاستقرار في وظيفة واحدة أو مسار واحد أكثر مما تحتمل فقط خشية أن يرى موظف الموارد البشرية انتقالك منه عيبًا.
ياسمين عبداللهلا تصنع من أبويك المسنَّين محتوى
آبائنا وأجدادنا المسنين في حالة لا حول لهم ولا قوة فيها للدفاع عن أنفسهم أو رفض تصويرهم أو حتى تذكُّر من هُم من الأساس.
حسن عليكيف تثري ألعاب الفيديو حصيلتي اللغوية
نظرًا إلى جهلي بأي لغة عدا العربية، لم تكن اللغة التي ألعب بها مهمة جدًا، وكانت الأولوية للاستمتاع وليس لمعرفة تفاصيل قصة اللعبة وخياراتها.
حسين الإسماعيلاكتُب بصوت واضح!
أرى أنَّ هذا الصراع بين الكتابة اليدوية والكتابة باستخدام لوحة المفاتيح سيقف في جانب واحد أمام مستقبل تقنيات الكتابة الصوتية (VRS).
أنس الرتوعيأخلاقيات الآلة المقاتلة
يظلُّ السؤال عن إطار الآلة المقاتلة الأخلاقي في زمن الحرب قائمًا. هل ستهدم كل المستشفيات؟ هل ستفرق بين الرجال والنساء؟ هل ستستهدف المدارس؟
أشرف فقيه