حقيقةٌ معروفة عند المجتمع التقني أنَّ منصات التواصل الاجتماعي، ومن ضمنها تك توك، تصمِّم خوارزمياتها لتعرض المحتوى الذي يجعلك تستشيط غضبًا؛ إذ يدفع هذا السلوك إلى قضائك وقتًا أطول على المنصة وإلى زيادة التفاعل فيها، مما يؤدي إلى زيادة أرباحها.
مثلًا، خذ هذه العبارة المستفزة التي مرَّت عليَّ اليوم «خسرتُ أربعةً ونصف الكيلو خلال عطلة نهاية الأسبوع فقط!» ولأنني «تنرفزتُ» كثيرًا لمشاهدة هذا الفيديو وبعض الفيديوهات الأخرى التي احتوت تعميمات لا مُسوِّغ لها، علميًا أو منطقيًّا على الأقل، وجدتني أتساءل: ما الأسباب التي تجعل هذه التعميمات مقنعة ومنتشرة على المنصة انتشار النار في الهشيم؟
ولأجيب عنه قررت قضاء نصف ساعة في مشاهدة فيديوهات تك توك، وفي الوقت نفسه أسجل ملاحظاتي على المجادلات المذكورة فيها. (بالطبع نصف الساعة صارت ساعة ونصفًا من حيث لا أشعر – ولا غرابة.)
عمومًا، تركيزي كان على الفيديوهات التي تقدِّم نصائح صحية في التغذية والتمرين أو نصائح عاطفية لإدارة العلاقات أو نصائح نفسية، وغيرها. فهذا النوع من الفيديوهات، إن ثبتت قوة المجادلة فيه، يكون تأثيره أعمق في حياة الشخص العاطفية أو المهنية أو السياسية أو النفسية أو الصحية أو جميعها.
لكن ما الذي يجعل هذا الفيديو مُقنِعًا على رغم احتوائه مغالطات منطقية أو علمية أو نقص المعلومات اللازمة فيه؟
توصلتُ إلى اثني عشر سببًا: استخدام الكوميديا في الفيديو، استخدام مصطلحات معقدة أو علمية، «كاريزما» ممتازة في الإلقاء، تصوير وإنتاج بجودتين عاليتين، شخصنة الخطاب (يعني أن يخاطِب الشخصُ المشاهِد)، الاستشهاد بإحصائيات وأرقام أو دراسات أو آيات قرآنية، استخدام أسلوب عاطفي في الحديث، الظهور بمظهر جميل، التحدث بسرعة كبيرة، التسهيل وعدم التعقيد في الطرح، أن يكون الحساب موثّقًا من المنصة، وفَهم «خوارزميات» التطبيق وتصميم الفيديوهات بما يتفق معها.
معظم الفيديوهات التي ظهرت لي وظَّفت على الأقل أسلوبًا واحدًا من هذه الأسباب. ولن أفصِّل في أيٍّ منها، فكل واحدة من هذه الوسائل جديرة بالبحث باستفاضة. كما أنها مبنية على ملاحظاتي الشخصية للفيديوهات التي كانت تظهر في «الفيد» (feed) الخاص بي. ولن أقع في خطأ بعضها نفسه لأُعمم من جهتي هذه الأسباب على جميع فيديوهات تك توك من دون دراسة علمية. بل إنني متأكد بأنَّ هناك أسبابًا أكثر غفلتُ عنها. ولكن بحكم خبرتي ودراستي في عالم الأعمال والتسويق أعرف تمامًا أن هذه الأساليب ناجعة بنسبة كبيرة جدًا.
أذكر هنا أمثلة من التعميمات الخاطئة أو الناقصة الصحة (بنظري) التي رأيتها على تك توك، وواثق أنَّها مرَّت عليك:
«لا شيء في الحياة يستحق الاهتمام؛ لأنك ستموت في النهاية ولن يذكرك أحد»، «إذا لم يقفل الشخص أزرار قميصه العلوية، فلديه مشكلة في الثقة بالنفس»، «أضمن لك أن تخسر أربعة كيلوقرامات خلال أسبوع واحد فقط»، «لا تحتاج للشهادة الجامعية لأنك تستطيع تعلُّم أي شيء عبر الإنترنت»، «مصاحبة من برجه العقرب صعبة ومعقدة جدًا»، «الأرض مسطحة لأن القرآن أشار إليها في قوله تعالى: وإلى الأرض كيف سُطِحَتْ».
يبدو لي أنه لا محيص من أن ننتبه في كل مرة نشاهد فيها محتوى يستخدم إحدى هذه الأساليب في الطرح؛ لأنها قد تبدو مقنعة حتى لو لم تكن منطقية أو دقيقة علميًا. إذ تكمن خطورتها في عملها على مستوى اللاوعي، فتتسرب إلينا هذه الأفكار دون أن نشعر.
فهذه النوعية من مقاطع الفيديو مصممة بحيث تتلقى المقطع بشكل سريع ومن ثَم تنتقل إلى الفيديو الذي يليه دون أن تتبيّن أو تفكر بعمق فيما طُرح أو أن تتأكد من المصادر المذكورة فيه. ولأنَّ «كثر الدق يفك اللّحام»، فكثرة التعرض لهذه المقاطع بوتيرة مستمرة ومكثَّفة يعرّضنا إلى الاغترار بانحيازات ومغالطات منطقية من حيث لا نشعر، خصوصًا مع غياب التدقيق والنقد لمقاطع كهذه.
لتجد نفسك يومًا من أشدِّ المؤمنين بأنَّ الأرض مسطحة، وبأنك فعلًا ستخسر أربع كيلوقرام ونصف في نهاية أسبوع واحدة!
مقالات أخرى من نشرة أها!
كيف فجَّرت نظارة أبل صندوق الابتكار
قارِن بين أبل وبين شركة سامسونج. أبل ألغت الشاشات والأجهزة كلها بمنتجها الجديد، وسامسونج لا تزال تحاول أن تصنع هاتفًا بشاشة قابلة للطيّ!
أنس الرتوعيلا تسلبوني مشترياتي الرقميَّة
وفَّرت المنصات مثل آيتونز وكندل وبلاي ستيشن سهولة شراء المنتجات الرقمية عبر خدماتها. لكن ما يغيب عنَّا أنَّ الشراء منها شراءٌ وهميّ.
ثمود بن محفوظهل الاكتظاظ السياحي سبب العنصرية ضد السياح؟
علينا التوقف عن تقليد بعضنا بعضًا والبدء باكتشاف وجهات جديدة والابتعاد عن الوجهات التي تتعامل معنا بعنصرية.
أنس الرتوعيعلِّمني لغة في ثلاثين يومًا
تعدنا تطبيقات تعليم اللغات بتعلُّم لغة ثانية في فترة قصيرة، بسهولة وسعرٍ رخيص. لكن ثمة عنصر أساسي تفتقد إليه تلك التطبيقات.
رويحة عبدالرباِلعب لأجل عالم أفضل
تقنيات الواقع المعزَّز ستضاعف قدرة الإنسان على التعلُّم أربع مرات مع الاحتفاظ بالتركيز. هذه نسبة أعلى مما تتيحه الحواسيب والهواتف الذكية.
أشرف فقيهفخ التربية الإنستقرامية
بينما أفادتني الحسابات التوعوية بمعلومات ثرية ومُثبَتة علميًّا، تبيّن أن أغلب حسابات المؤثرين لم تُفدني بشيء سوى الشعور بالتقصير.
رويحة عبدالرب