«مهسا أميني».. عنوان جديد لأم المباريات
أراد لاعبو إيران وعلى رأسهم دائي أن يظهروا للعالم صورة مثالية عن بلدهم، كانوا على يقين بأن الرياضة لا يمكن أن تكون عنوانًا للكراهية.
قبل بداية مباريات المونديال، تذهب الكاميرا لنقل احتفالات الجماهير من كثب، ومن بين الجماهير تظهر عادةً وجوه بعض النجوم التاريخيين للمنتخبات المشاركة على أرض الملعب. إذا كنت تُمنّي النفس أنك ستشاهد اليوم وجه إيران الأشهر في كرة القدم «علي دائي»، فدعني أخبرك أن هذا لن يحدث أبدًا.
تبدأ القصة قبل 24 عامًا خلال فعاليات كأس العالم فرنسا 98، عندما تولت وجوه العالم بأكمله من محبي كرة القدم وكارهيها نحو «ستاد جيرلان» بمدينة ليون الفرنسية. حمل هذا الملعب فوق أرضيته حينئذٍ لاعبي منتخبَي إيران وأمريكا وهواءً محملًا بالتوتر يتنفسه الجميع مثلما لم يحدث من قبل في مباراة كرة قدم.
كانت العلاقاتُ بين البلدين متوترة سياسيًّا بلا شك، وقد توقع أكثر المتفائلين من متابعي الوضع السياسي مباراةً مليئة بالكراهية على أقل تقدير. وكانت الأخبار قبيل المباراة توحي بشيء من ذلك بالفعل. أوامر صريحة من طهران بألا يسير الفريق الإيراني نحو الأمريكيين بغرض المصافحة كما تقتضي قواعد الفيفا. أخبار تفيد بشراء سبعة آلاف تذكرة لتنظيم احتجاج ضد منتخب إيران، بل واجتياح الملعب إذا سمحت الظروف.
لكن على العكس تمامًا، مرت «أم المباريات» -كما أُطلِق عليها- في أفضل صورة ممكنة. أراد لاعبو إيران وعلى رأسهم دائي أن يظهروا للعالم صورة مثالية عن بلدهم، كانوا على يقين بأن الرياضة لا يمكن أن تكون عنوانًا للكراهية. لذا نزلوا أرض الملعب حاملين باقات من الورد الأبيض؛ رمز السلام في إيران، في رسالة واضحة للجميع. وفي الأخير انتهت المباراة بتحقيق إيران انتصارها الأول في كأس العالم.
أما الانتصار الأخير فكان منذ أيام قليلة ضد منتخب ويلز، وهو الانتصار الذي مهد لصعود تاريخي محتمل إلى الأدوار الإقصائية في حال الفوز أو التعادل اليوم ضد المنتخب الأمريكي، التاريخ يعيد نفسه إذن، مباراة نارية بين إيران وأمريكا في الانتظار، والعجيب أنها ما زالت بصبغة سياسية أيضًا.
إذا كنت ما زلت تسأل لماذا لن ترى اللاعب علي دائي في المدرجات على الرغم من دعوة الفيفا إليه، دعني أخبرك أن السببَ فتاةٌ بريئة تُدعى «مهسا أميني».
مهسا فتاةٌ كردية إيرانية، اعتقلتها شرطة الأخلاق لعدم التزامها الحجاب الإلزامي الذي فرضته الحكومة الإيرانية. توفيت مهسا بعد اعتقالها لتخرج الحكومة الإيرانية وتؤكد أنها وفاة طبيعية، في حين أنكر أهل الفتاة أنها كانت تعاني أي مشكلات صحية، في تلميح واضح أنها توفيت في إثر التعذيب بمركز الشرطة.
اندلعت الاحتجاجات في الشارع الإيراني تعاطفًا مع الفتاة الراحلة، وطال الأمر وسائل التواصل الاجتماعية، وهنا قرر علي دائي أن ينضم لصفوف الجماهير داعمًا لقضية مهسا، مطالبًا من الدولة عبر تطبيق إنستقرام حل المشكلات جذريًّا بدلًا من اللجوء إلى العنف.
صادرت الحكومة الإيرانية جواز سفر دائي فور عودته إلى البلاد بعد أيام من إعلان تضامنه مع القضية، وعلى الرغم من إعادة جواز السفر له فقد أعلن أنه لن يذهب لدعم المنتخب في قطر؛ رافضًا دعوة الفيفا الرسمية تقديرًا، للظروف التي تمر بها البلاد، وسط توقعات أنه مُنِع من الذهاب.
لكن المنتخب الإيراني كعادته لم يكن بعيدًا عن الأحداث أبدًا؛ ففي المباراة الأولى قرر أفراد الفريق عدم ترديد النشيد الوطني للبلاد في محاولة لجذب الأنظار لما يحدث في إيران. أفعال مثل هذه أثارت حفيظة سياسيي إيران إثارةً لافتة، لذا لم يكرر اللاعبون الأمر قبل المباراة الثانية. لكنَّ احتفالًا بين مدرب المنتخب «كارلوس كيروش» ومهاجمه «سردار آزمون» كان بمنزلة رسالة أخرى.
ظهر آزمون وكأنه يخنق كيروش فرحًا بعد هدف درامي أمام ويلز، في إشارة واضحة إلى متانة العلاقة بين الاثنين، والسبب السياسةُ أيضًا. فسردار كان شجاعًا بما يكفي لينشر عبر إنستقرام أنه يدعم الاحتجاجات، غير آبه إن لم ينضم إلى قائمة الفريق المحلقة إلى قطر، لأن هذا ثمن زهيد لا يساوي خصلة واحدة من شعر النساء الإيرانيات.
استُبِعد آزمون من القائمة في البداية من جراء تدخل قوى سياسية كما هو متوقع، إلا أن المدرب البرتغالي العنيد كيروش هدد بالاستقالة إذا لم يُسمح له باختيار من يريد أن يلعب دون تدخل سياسي ليظهر آزمون في كأس العالم. يعيد التاريخ نفسه اليوم، حيث تتوجه أنظار العالم لمتابعة المباراة الحماسية ذات الطابع السياسي خارج الملعب. سيغيب دائي حتمًا، لكن ستبقى الرسالة التي كان ممثلًا لها منذ سنوات: «كرة القدم تنحاز إلى الجماهير والإنسانية على الدوام».