ماذا نفعل أمام المحتوى المثليّ في نتفلكس وديزني؟

نتفلكس تدعم المثلية، وتستفيد -تسويقيًا على الأقل- من إقحام المُشاهد عنوة في عالم المثلية الجنسية، ودمج مثليي الجنس في يومياتنا.

طالعنا خبر بداية شهر سبتمبر عن قرار منصة «ديزني بلس» في المنطقة العربية حجب محتواها الموَّجه للأطفال الذي يتضمن شخصيات مثلية الجنس، مع الإبقاء عليها في المحتوى الموجّه للبالغين. وبرَّرت ديزني قرارها بأنَّ التصنيف العمري يسمح بالإبقاء على المحتوى المثليّ موجّهًا للبالغين دون قلق من تأثيره.

مثل كثير من المشتركين العرب في منصات البث الترفيهي أجدني أتساءل: في ظل سياسة الإجبار التي تمارسها نتفلكس وديزني على المشاهد بإقحام المزيد من الشخصيات مثلية الجنس في إصداراتها، والترويج إلى محتوى يدور بالكامل حول مثليي الجنس؛ هل يملك المواطن العربي فعلًا حرية اختيار ما يشاهده؟

المثلية الجنسية عابرة من منصات الكبار إلى الأطفال

تضع نتفلكس نفسها اليوم موضع الاتهام بالترويج الإجباري لقبول المثلية الجنسية من خلال زيادة شخصيات مثليي الجنس في أعمالها. وكانت أبرز تلك المحاولات تقديمها الشخصية المثلية بصراحة للمجتمع العربي من خلال فلم «أصحاب ولا أعز»، المقتبس عن الفلم الإيطالي «بيرفكت سترينجرز» (Perfect Strangers). 

انقسمت الآراء بين مؤيد لحرية الإبداع ومعترف بوجود تلك القضايا في المجتمع، وبين معارض لتناول تلك القضايا في الدراما السينمائية بهذا القدر من الجرأة غير اللازمة. ورغم الانقسام، يظل الواقع أنَّ تناول الفلم للشخصية مثلية الجنس كما جاءت في النسخة الإيطالية بدون مراعاة لاختلاف الثقافات، يجعل الفلم وكأنه محاولة مبدئية لتمرير المثلية الجنسية في الأعمال الدرامية. وأنَّ المنصة تعمل على سياسة أشمل نحو التمهيد الناعم لقبول المثلية في المجتمعات الصغيرة كمجتمعات الأصدقاء، وصولًا للاعتراف بها تدريجيًا دون غضاضة في المجتمع ككل.

لا تتوقف سياسة التمهيد الناعم عند المحتوى الموجّه للبالغين في نتفلكس، بل تعدّاه ليصل عالم الصغار. ففي مسلسل «جوراسك وورلد: كامب كرتاكس» (Jurassic World: Camp Cretaceous) الموجّه للأطفال على نتفلكس، ظهرت قبلة بين امرأتين.

على إثر هذا المشهد، وجَّهت السعودية وبقية دول الخليج العربية انتقادات لنتفلكس، ووصفت المحتوى بالمسيء والمخالف للتقاليد الإسلامية واللوائح الإعلامية. وطالبت مصر رسميًّا من خلال متحدث بوزارة الإعلام بأن تلتزم نتفلكس وخدمات البث الأخرى بالقيم المجتمعية لمصر ذات الأغلبية المسلمة، والتي يرفض مواطنوها بنسبة 95% المثلية الجنسية. 

هذا التزايد في تقديم المثلية للأطفال بوضوح كان مستفزًّا حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حد مطالبة بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي المنصات الترفيهية، وعلى رأسها ديزني، بوضع لافتات تحذيرية على المحتوى «المزعج» الذي يتناول المثلية الجنسية في الأعمال الموجهة للأطفال. وهي إشارة واضحة أنَّ ديزني ونتفلكس وغيرها قد تجاوزت حدود الإبداع لتصبح مصدر قلقٍ حقيقي للآباء.

على أي حائط صلب تتكئ نتفلكس؟

نتفلكس تدعم المثلية، وتستفيد -تسويقيًا على الأقل- من إقحام المُشاهد عنوة في عالم المثلية الجنسية، ودمج مثليي الجنس في يومياتنا. وتستند نتفلكس في دعمها للمثلية على الاتجاه السياسي العام في الولايات المتحدة الأمريكية الذي بدأ في عهد أوباما. 

ففي 2015، وفي بيان خاص من البيت الأبيض، دعم أوباما قانون السماح بالزواج للمثليين. وكرَّر أوباما دعمه في تغريدة على حسابه الخاص، وذيّلها بالوسم «الحب ينتصر» (LoveWins). وفي تغريدة أخرى من حساب البيت الأبيض الرسمي، انعكست ألوان علم قوس قزح على البيت الأبيض.

هذا الدعم استمر في عهد ترامب، حدَّ أنْ وصفه البعض بالرئيس الأكثر تأييدًا للمثلية في أمريكا. والدعم مستمر في عهد الرئيس الحالي بايدن، وظهر سياسيًّا في انتقاده العلني للجمهوريين على استصدار قانون «الحقوق الأبوية في التعليم» (Parental Rights in Education).

نتيجة هذا الموقف السياسي الداعم، تزايد تمثيل المثلية الجنسية على الشاشات بشكل مطرد. ففي عام 2019، كانت نسبة الشخصيات مثلية الجنس تقترب من 10.2% بعد أن كانت لا تتجاوز 8.8%. ومطلع العام الجاري، ارتفعت نسبة تمثيل مثليي الجنس على الشاشات إلى 12%، أي بزيادة 2.2% عن العام السابق.

لكن رغم الدعم السياسي، هناك في الأوساط السياسية الأمريكية من يضيق بهذا التأييد والتشجيع الزائد عن الحد للمثلية واستخدامها كرهان سياسي. فقد تمكّن بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في ولاية فلوريدا من اعتماد قانون «الحقوق الأبوية في التعليم»، والمعروف أكثر باسم قانون «لا تقل مثلي الجنس» (Don’t Say Gay)، ليدخل حيز التنفيذ رسميًا في الولاية. 

وبموجب هذا القانون الجديد، لا يُسمَح لمعلمي المدارس الحكومية «بتشجيع مناقشة التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية في مستويات صفوف المرحلة الابتدائية.»

هل يستطيع العالم العربي كسر حصار المحتوى المثليّ؟

تتأرجح التشريعات العربية بين الشدة والتسامح مع المثليّة الجنسية. لكن حتى في لبنان، والتي تُعد أكثر الدول العربية تسامحًا مع المثلية الجنسية، منعت وزارة الداخلية فيها تجمعات للمثليين عدة مرات، كان آخرها في يوليو الماضي. كما منعت أغلب الدول العربية عرض أفلام للمراهقين والأطفال تضمنت شخصيات مثلية، منها «لايتيير» وأفلام مارفل «إتيرنالز» (Eternals) و«ملتي فيرس أوف مادنس» (Multiverse of Madness). 

لكن ماذا عن التشريعات المتعلقة بإدارة محتوى منصات البث الترفيهي؟ هل للدول حق التحكم فيه؟ 

ربما لم يعد متاحًا استخدام مقص الرقابة، لكن:

للدول العربية القدرة على مراقبة محتوى منصات البث الترفيهي وغربلته وتنقيته عمومًا. إذ ليست المثلية وحدها ما يُهدد هوية المشاهد العربي، فهناك العنف والمشاهد الإباحية وتمرير الأفكار المغلوطة التي من شأنها زعزعة المعتقدات وتشويه القيم. Click To Tweet

وبعد كمٍّ من التصريحات والمواقف الواضحة، هددت أجهزة الإعلام الرسمية في الدول العربيّة باتخاذ مواقف قانونية. أهم تلك التصريحات ما جاء في بيان مجلس التعاون الخليجي ومطالبته نتفلكس بإزالة محتوى الأطفال المتعارض مع المبادئ الإسلامية والمجتمعية، وفي حال عدم التزام المنصة ستتخذ الدول الإجراءات القانونية اللازمة. وأيضًا تصريح المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر حول إلزام منصات البث الترفيهي بالعمل وفقًا لأعراف المجتمع المصري وقيمه. ويتحقَّق هذا الضغط بإجبار المنصات على استصدار تراخيص للعمل، وتقديم المحتوى وفقًا لقواعد تنظيمية تحددها الدولة.

كما يمكن للدول العربية محاصرة المحتوى المثليّ بالضغط على مواقع التجارة الإلكترونية المروّجة له، كما فعلت الإمارات بإجبارها أمازون على فرض قيود على نتائج بحث السلع المرتبطة بالمثلية الجنسية على موقعها في دولة الإمارات. وفي الكويت، دعت وزارة التجارة والصناعة الكويتية إلى ضرورة الإبلاغ عن كل ما يتعلق بالترويج للمثلية الجنسية من خلال الأنشطة التجارية.

الغضب ضد نتفلكس عالمي وليس فقط عربيًّا

لا يقتصر الأمر على بقعتنا الجغرافية وحدها، فالعالم خارج حدودنا العربية منتبهٌ لسياسة الأمر الواقع التي تمارسها نتفلكس على مشتركيها. الهند بدأت حربًا قانونية على محتوى نتفلكس العنيف والبذيء، والذي تراه خطرًا على الهوية الهندية. وأساسًا تفرض الهند رقابة على محتوى الإنترنت، وتحذف وتقص كل ما لا تراه مناسبًا في المحتوى المُوجّه من منصات البث الترفيهي المحلية.

واليوم تواجه نتفلكس تحركًا قضائيًا بدأه بعض السياسيين في الهند بعد عرض مسلسل «ساكرِد قيمز» (Sacred Games)، والتي تبدو فيها فرصة نتفلكس ضعيفة؛ نظرًا لسيطرة منصات المحتوى المحلي على المشهد هناك. كما تواجه نتفلكس مطالبات الأجهزة المجتمعية المعنية بحقوق الطفولة في الهند بوقف عرض أحد مسلسلاتها «بومباي بيقمز» (Bombay Begums) لتناوله تعاطي الأطفال للمخدرات.

أما روسيا التي أطلقت تحقيقًا رسميًا ضد نتفلكس، قبل أن توقف نتفلكس بثها عبر الأراضي الروسية على خلفية الحرب مع أوكرانيا، فقد كانت تفكر جديًا في إعادة النظر حول استمرار المنصة. وصرَّحت تركيا بأنها لن تتهاون مع البث الذي يتعارض مع القيم الوطنية والروحية للمجتمع التركي. وجاء التصريح على خلفية شائعات عن إضافة شخصية مثلية الجنس في الجزء الثاني من المسلسل التركي «حب 101» والذي تنتجه نتفلكس. 

بالفعل نفَّذت تركيا تهديدها. وامتنعت عن منح التصريح لتصوير مسلسل تركي آخر تنتجه نتفلكس لاحتوائه على شخصية مثلية الجنس، مما دفع نتفلكس لإلغاء التصوير وإيقاف عرض المسلسل.

كيف تحارب المجتمعات المحافظة المثلية؟

كنت سأفتتح الحديث عن المثلية بالحديث عن المسلسل الإسباني «لاكاسا دي بابيل» (La Casa De Papel)، والذي لم أتابع سوى ردات الفعل الغاضبة حول موسمه

7 سبتمبر، 2020

موقف مماثل تعرضت له نتفلكس في البرازيل، عندما استفزَّ أحد أفلامها الهزلية التي صورت المسيح على أنه مثليّ الجنس مشاعر المشاهدين، مما أجَّج الغضب لدى الكثير من البرازيليين المتدينين. أكثر من مليوني مواطن برازيلي وقَّع على عريضة تطالب بإزالة الفلم، كما تعرَّض مقر الشركة في البرازيل للهجوم الشعبي بقنابل المولوتوف. صدر حكمٌ مؤقت بحجب الفلم، لكن أُلغيَ الحكم لاحقًا بدافع حرية التعبير، إلا أن الموقف الشعبي أظهر نفسه بقوة.

كل هذا يُبرز بصورة جليّة أنَّ رفض تزايد الشخصيات المثلية في أعمال نتفلكس ومنصات البث الترفيهي لا يقتصر على المسلمين وحدهم، فغيرنا من المجتمعات ترى أنَّ نتفلكس قد تجاوزت كل الحدود، وأصبحت تهدد القيم والثوابت والرموز الدينية فيها. 

المستهلك بيده ورقة الضغط

بينما تدَّعي نتفلكس أنها لا تسمح بفرض الرقابة على المحتوى المقدَّم على المنصة، فإن الشركة بالفعل تلتزم بقوانين الرقابة الحكومية حول العالم. ففي عام 2021، امتثلت نتفلكس لسبعة طلبات إزالة للمحتوى من الفلبين وروسيا وتركيا وسنقافورة وفيتنام، وقد ثبّتت نتفلكس هذا الموقف في تقريرها: البيئة والمجتمع والحوكمة عن عام 2021.

ومثلما يمكن تحجيم المحتوى المثليّ الخاص بالمنصات حكوميًا، يمكن تحجيمه شعبيًا إن أخذنا في الاعتبار اتجاه كثير من مستخدمي تلك المنصات لإلغاء اشتراكاتهم لعدة أسباب. فبعدما وصل عدد مشتركي نتفلكس إلى 222 مليون مشترك في عام 2021، توقف عن التصاعد في الربع الأول من عام 2022، وتناقص منه تقريبًا 200 ألف مشترك. ثم أعلنت نتفلكس خسارتها 970 ألف مشترك في تقريرها عن الربع الثاني من نفس العام. 

وصحيح أنَّ نتفلكس شهدت ارتفاعًا في عدد المشتركين في الربع الثالث مع إضافتها 2.4 مليون مشترك (أغلبهم من إقليم آسيا والمحيط الهادئ)، لكن يظل نصف عدد المشتركين الذين أضافتهم في الربع الثالث من العام 2021 والذي بلغ 4.4 مليون مشترك.

هذا التناقص في أعداد المشتركين يمكن أن يصبح ورقة ضغط يمارسها المستهلك وتضعها المنصات في الحسبان، وتمارسها الدول عند التفاوض مع تلك المنصات.

وعي المستهلك بحقوقه مُبشّر، وتحركات وتصريحات الحكومات والقيادات السياسية التي تحاول حماية مجتمعاتها والحفاظ على هويتها وقيمها تبدو كبارقة أمل لمشتركي المنصات. فقطاعٌ كبير من المشاهدين حول العالم قد ضاق ذرعًا بهذا الكم من المحتوى المثليّ الإجباريّ.

الرقابةالمجتمعنتفلكسالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية