هل أولوية التوظيف في السوق السعودي للأكفأ أم للمواطن؟
تصحيح الوضع الاقتصادي للسوق سيقدم حزمة حلول لا تقتصر على توظيف العاطلين عن العمل فقط، بل يتجاوز ذلك إلى من لا يعمل ولا يبحث عن عمل.
ظاهرة العمالة الوافدة المؤقتة، أي التي ستعود إلى بلدها بعد انتهاء عقد العمل، ظاهرة قد تكون فريدة في دول الخليج بأعدادها الضخمة، ولا وجود لها في أي مكان آخر في العالم. وما كان لهذه الظاهرة الفريدة أن تحدث لولا ظاهرة أخرى تماثلها فرادة، وأعني بها اعتماد جزء كبير من الاقتصاد على فوائض سلعة لا تتطلب إلا أعدادًا بسيطة من القوى العاملة، وهذه السلعة هي النفط.
مع ندرة هذه الظاهرة عالميًا وتركزها الحصري في دول الخليج العربية، فقد بدت كأنها الوضع الطبيعي، ونشأ وهمٌ بأن هذا النموذج هو الطريقة المثلى والوحيدة لتمكين عجلة الاقتصاد من الدوران. فتجاوزت نظرتنا للعمالة الوافدة منخفضة التكلفة من حل مؤقت لسد النقص في بعض المهن، إلى كونها مكونًا أساسيًا يشمل جميع الأنشطة والأعمال. ومن مصدر لتقديم حاجات أساسية لتحسين الحياة مثل الصحة والتعليم، إلى اعتمادية كاملة ومصدر للرفاهية وتطوير عادات استهلاكية شرهة، تأصلت في العقود الماضية حتى ظن البعض -جهلًا- أنها من هويتنا.
العمالة الوافدة: حاجة أم عبء؟
لا يقتصر هذا الوهم على أوساط العامة أو غير المتخصصين، بل تعداهم إلى أوساط النخب. فقد اطلعت على ورقة مقدمة من أحد اقتصاديي الخليج البارزين ينحو فيها إلى تبرير الاعتمادية شبه الكاملة في دول الخليج العربية على العمالة الوافدة. بل يبرر استقدام دول الخليج العربية العمالة منخفضة التكلفة ودفع رواتبهم من عوائد النفط. ويستعين بالنموذج الاقتصادي لديفيد ريكاردو «الميزة النسبية»، الذي يشرح الواقع الاقتصادي للتجارة الدولية وميزات التبادل التجاري بين الدول. نعم إلى هذه الدرجة تبلغ فداحة الأمر!
لن أسترسل في شرح نظرية «الميزة النسبية»، فالمساحة غير كافية. لكني أستطيع تلخيص جوهرها بالقول إنها ما تكسبه الدول والشركات من التخصص في إنتاج سلع بكفاءة نسبية أعلى من منافسيها ثم تصديرها إلى أسواق أخرى، مقابل استيراد سلع أخرى من دول تنتجها بكفاءة نسبية أعلى.
وكما يتبيّن هنا، فهذه النظرية تتعلق بالسلع أو الخدمات. أما القوى العاملة فلا يمكن وصفها اقتصاديًّا لا بالسلعة ولا بالخدمة. ولا أدري كيف غفل الاقتصادي البارز عن افتراض النظرية عدم تنقُّل القوى العاملة بحريّة بين البلدان، وأنها -أي النظرية- تهدف إلى تقييم جانبيْ الإنتاج والاستهلاك.
لكن كما يقول ميلتون فريدمان في جملته الشهيرة «لا يوجد غداء مجاني»، فلا بدَّ من دفع الثمن مقابل أي شيء. وتلك الارتكاسات التي حدثت لاقتصادنا في العقود الماضية، والضعف والهزال الذي يعانيه حاليًا، ليست إلا ذلك الثمن. التريليونات التي حوّلت إلى الخارج في العقود الماضية، وتضخّم أرقام البطالة، هما الثمن المباشر والواضح للعيان، لكن ثمة أثمانًا أخرى لا يراها الغالبية ولا غير المتخصصين.
تلك الأثمان الفادحة تتمظهر في شكل انخفاض كفاءة الإنتاج وتحجيم القوة الشرائية والأعباء الإدارية والأمنية التي تثقل كاهل الاقتصاد والحكومة، ناهيك بالتعقيد التشريعي وتفكك النسيج العمراني والكثير من الظواهر السلبية التي لم تكن لتظهر لولا الأعداد الضخمة غير المقننة من العمالة الوافدة.
المشكلة في التركيبة الاقتصادية
عوامل الإنتاج في الاقتصاد ثلاثة، الأرض (الموارد الطبيعية) ورأس المال (الآلات والمعدات) واليد العاملة. ويظل الاقتصاد في حالة مستمرة لا تنتهي من محاولة التوازن الذاتي لاستخدام تلك العوامل بأكبر قدر من الكفاءة. وتتميز اليد العاملة عن عوامل الإنتاج الأخرى، ففي حين يشكل رأس المال والموارد الطبيعية مدخلات الإنتاج، فاليد العاملة هي مدخل للإنتاج ومصدر لاستهلاكه أيضًا.
فالدورة الإنتاجية/الاستهلاكية الاقتصادية تتجسد بشكل مبسط كما يلي: يبدأ الأمر بالدورة الإنتاجية، إذ تقايض المؤسسات السلع والخدمات مقابل عمل الأفراد، ويدفع الأفراد -في الدورة النقدية- ثمن «استهلاك» هذه السلع والخدمات من الأجور التي تدفعها المؤسسات مقابل عملهم. وهذا ما يحرك الاقتصاد، سواء أكان متقدمًا أم ناميًا.
الآن لنتخيل أن المؤسسات تنتج، ولكن دون مساهمة الأفراد. حين تعرض المؤسسات منتجاتها للبيع، لن تجد من يشتري لعدم قدرة الأفراد على الاستهلاك لأنهم لا يملكون ثمن ذلك الإنتاج، وحين يتوقف الاستهلاك يتوقف الإنتاج، والعجلة سوف تتوقف.
لماذا نركز على ربط الاستهلاك والإنتاج بالعمل والأجور؟ لأن المشكلة الفعلية مشكلة تركيبة اقتصادية وليست مشكلة بطالة فقط. في الواقع أرفض شخصيًا تداول الموضوع في سياق إيجاد حلول لظاهرة البطالة، ليس لأنه تشخيص ناقص فنيًا فقط، بل لأنه يأخذ الحديث في اتجاه معالجة ظاهرة اجتماعية، وليس في سياق اقتصادي نقيّم به المكاسب والتكاليف الناتجة عن تلك السياسات.
الوظيفة للمواطن أم للكفاءة؟
وأطرح مثالًا للسياق الخاطئ الذي نتناول به مشكلة العمالة الوافدة. هناك من يرى أن فرص العمل هي مقاعد منفصلة عن المؤثرات والعوامل الأخرى، فيبرر فتح باب الاستقدام بأنَّ الفرص تذهب للأعلى كفاءة، أو الأقل تكلفة مقابل الكفاءة، بدون اعتبارات للحدود الجغرافية أو المواطنة. فبحسب رأيهم فرص العمل هذه سوقٌ مفتوح مثل سوق السلع، وللشركات حرية اختيار الأجدر بنظرها.
ولكن هذا الطرح يجهل أو يتجاهل كيف يعمل الاقتصاد الطبيعي. إذ كيف تتوقع تلك الشركات أن تجد مشترين إذا فضلت استيراد عمالة منخفضة التكلفة لا تستطيع شراء منتجاتها؟ في الواقع، تفترض هذه الشركات أنَّ الطبقة المستهلكة في السعودية تحصل من الحكومة على دخل عالٍ يأتي من إيرادات النفط لشراء منتجاتهم.
إدارة المعرفة من العمالة الأجنبية إلى الخليجية
هذا الوضع لم يعد مستدامًا، في الواقع يمكننا القول إنه لم يكن كذلك يومًا. لكن الآن، ومع الخطط الجادة لفك اعتمادية اقتصادنا على مورد النفط وتحويله إلى اقتصاد منتج منافس مزدهر، كما نصت عليه الرؤية الطموحة في أحد محاورها الرئيسة الثلاثة، لم يعد هناك عذر للجهل بهذه الحقيقة.
اقتصادنا أكبر من عدد السكان
إحدى أهم حجج المشجعين لسياسة استقدام مفتوحة وعدم حصر سوق العمل للمواطنين أن الاقتصاد السعودي كبير وحجمه أكبر من عدد السكان وما توفره من قوى عاملة. وبناءً عليه يجب تعويض ذلك النقص من خلال الاستقدام من دول لديها فائض في القوى العاملة. ويستشهد هؤلاء بأن دولًا مثل كندا وأستراليا تواجه المشكلة نفسها، وتنتهج سياسة استقطاب عمالة مهاجرة لتعويض النقص لديها.
وهذه الحجة خاطئة ومبنية على عدة مغالطات. أولًا يوجد فرق جوهري في نوع «الهجرة» هنا، ففي دول مثل كندا وأستراليا تتحول الغالبية العظمى من العمالة المهاجرة إلى مواطنين. وفي كندا تصل نسبتهم إلى 85 %، وذلك من منطلق سياسة تعويض النقص في نمو السكان وتوسيع القاعدة الضريبية.
وبهذا لا يكون المهاجرون عمالة تأخذ فرصًا وظيفية، وتحوّل مدخراتها للخارج دون الصرف في الاقتصاد ثم تغادر بعد فترة. بل هم مقيمون مثل المواطنين يصرفون ويدفعون ضرائب مثل المواطنين إلى حين حصولهم على الجنسية. وتلك سياسة قد تناسب تركيبتها الديموغرافية، التي تعاني تقدمًا في متوسط العمر مع معدل إنجاب منخفض، والأمر مختلف جدًا عن الوضع في السعودية.
هل العمالة الوافدة ذات مهارة عالية؟
ثانيًا، يوجد اختلاف نوعي في العمالة المهاجرة. فنسبة 45% من العمالة المهاجرة إلى كندا تعد «ذات مهارة عالية»، وثلث الطلاب الأجانب الذين درسوا في جامعاتها خلال الأعوام العشرين الأخيرة حصلوا على عمل وانتقلوا للعيش بها. والنسبة تزيد على النصف لحاملي الدراسات العليا.
أي أننا نتحدث عن عمالة مهاجرة بمهارات متقدمة. ولا يمكننا قول هذا عن العمالة الوافدة لدينا إذ لا يتجاوز تعليم 65% منها المرحلة الثانوية، وحتى حملة التعليم العالي منهم يغلب عليهم القدوم من دول ذات نظام تعليمي متواضع.
تأتي 85% من العمالة الوافدة في السعودية من ثماني دول. وإذا ما اطلعنا على عدد الجامعات في تلك الدول التي تصنف ضمن أفضل 1000 جامعة، وجدنا أن السعودية وحدها لديها ضمن التصنيف عدد أكبر من جامعات الدول الثمانية مجتمعة.
هناك الاختلاف الكمي الكبير أيضًا. ففي حين تسيطر العمالة الوافدة على 75-80% من وظائف القطاع الخاص في السعودية، نجدها لا تتجاوز في أستراليا 7% من القوى العاملة. وفي كندا لا يشكل المهاجرون الذين لم يتخطَّ وجودهم في البلاد عشر سنوات سوى 8% من القوى العاملة.
وإذا كان هذا يصلح في بلدان أخرى، حتى إن كانت متقدمة اقتصاديًا، فإنه لا يعني صلاحها في بلدنا بالضرورة. وذلك عائد إلى اختلاف العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل بلد. ورغم هذا، فإن الاستشهاد بوجود العمالة المهاجرة في دول أخرى هو حجة على من يشجع إبقاء الاعتمادية على العمالة الوافدة وليست حجة له.
الحل في التوطين الكامل
إذا وصلت إلى هذا الجزء ولم يتضح الهدف من هذا المقال، فسوف أصرح به بدون تحفظ.
الحل الوحيد لإصلاح سوق العمل، ومن ثم إصلاح أحد أهم أجزاء الاقتصاد، يتمثل في الاستغناء عن العمالة الوافدة. ويشمل هذا الحل جميع الوظائف، سواء أكانت منخفضة أو مرتفعة الأجور. Click To Tweet
وسواء أكانت تصنف مرغوبة أم غير مرغوبة، وحصر الوظائف على المواطنين فقط.
وعلى الرغم من وجود استثناءات بسيطة تطبيقيًا لا تكسر القاعدة لأنها ضمن الهيكل الجديد، فإنه يوجد بعض التخصصات الدقيقة نحتاج بها عددًا معينًا لمرحلة معينة. ومن المفيد كذلك استقطاب خبرات في مجالات جديدة لرفع التنافسية والتنوع الثقافي. إلا أن هذا سيتم في ظل سياسة عمل جديدة كليًا لا تنتمي إلى هيكل سوق العمل وسياسته الحالية.
تصحيح الوضع الاقتصادي للسوق سيقدم حزمة حلول لا تقتصر على توظيف العاطلين عن العمل فقط، بل يتجاوز ذلك إلى من لا يعمل ولا يبحث عن عمل، ومن هو على رأس العمل. ويكون أيضًا بتشجيع من لا يبحث عن عمل، ولا يعد ضمن العاطلين بحسب الإحصائية، على انضمامه لسوق العمل ورفع نسبة المشاركة في معدلات الإشغال. إضافة إلى رفع دخل العاملين وفتح فرص تناسب مؤهلاتهم ورفع عدد ساعات عملهم وكفاءتها.
وإن كان يبدو هذا الحل جذريًا ومبالغًا به، ونموذجًا بديلًا مثاليًا وغير منطقي ويستحيل تطبيقه، فأطلب منك -عزيزي القارئ- متابعة قراءة سلسلة المقالات التي سوف تشخص حجم المشكلة بطريقة شاملة، وتظهر النموذج البديل بواقعية تلمسها بنفسك.
فالهدف بيان أنَّ توطين سوق العمل الكامل ليس حاجة اقتصادية وحلًا لمشكلة البطالة فقط. بل له عوائد إيجابية ضخمة على الجهاز الحكومي أيضًا في الجهات الخدمية والرقابية، وعلى قطاع الأعمال سواء أكان للشركات القائمة حاليًا، أم لرواد الأعمال المبتدئين، أم المقبلين قريبًا على بدء نشاطاتهم الاقتصادية.