ما الذي قرأه مالكوم إكس وغيّر مستقبل العنصرية في أميركا

دخل مالكولم إكس السجن شابًّا شبه أُميّ وبائع مخدرات، وفتحت مكتبة السجن عالمًا جديدًا سيصنع منه أكثر الخطباء تأثيرًا في حركة الحقوق المدنية.

يقول مالكوم إكس:

في كل مرة سمعتُ فيها الخطى تقترب، كنت أقفز إلى السرير وأتظاهر بالنوم. وبمجرد مرور الحارس، كنت أرجع إلى بقعة الضوء على الأرض لأقرأ لمدة ثمان وخمسين دقيقة أخرى، حتى يقترب الحارس من جديد

قد تكون الحرية أكثرُ ما يفتقده السجين، إلّا أن المرة الأولى التي شعر فيها مالكوم إكس بالحرية التامة كانت أثناء حبسه في السجن. كان انقطاعه عن التعليم في سنٍ مبكر السببَ في صعوبة فهمه للكتب التي استعارها من مكتبة السجن.

كما باءت محاولاته العشرون بالفشل عند محاولة كتابة رسالة من صفحة واحدة موجّهة إلى قائد أمة الإسلام حينها، إليجا محمد.

مالكوم إكس في السجن
لقطة جنائيّة تعريفية لمالكولم ليتل وهو في السجن (لاحقًا، مالكولم إكس) ، وعمره 25 عامًا

مالكوم إكس سمسار الدعارة وبائع المخدّرات المتجوّل في شوارع هارلم، الذي قاده القدر عام 1946 إلى دخول السجن ثم خروجه منه بعد سبعِ سنوات كأفصح متحدّث وأكثر القادة السود في أميركا قوة وتأثيرًا، حتى أنه شغل منصب المتحدّث الرسمي في أمة الإسلام لفترة قبل أن يترك الجماعة.

نترجم هنا مقالة مجتزأة عنوانها “تَعلّم القراءة” من كتاب سيرته الذاتية الذي كتبه أليكس هيلي بعد مقابلات عديدة معه. يحكي مالكوم في هذه المقالة قصته مع الكلمات وانفتاح “عالم جديد” أمامه.

حاجة مالكوم إكس لكتابة الرسائل

«حاجتي لكتابة الرسائل كانت ما دفعني للسعي وراء تعليم نفسي. شعرت بإحباط متزايد لعدم تمكّني من التعبير عمّا أردت قوله في الرسائل، خاصة تلك الموجّهة إلى السيد إليجا محمد.

في الشارع، كنت أفصَح محتالٍ في الأرجاء، وكنت أُهَيمن على انتباه الجميع عندما أتحدّث. ولكن الآن، أثناء محاولتي الكتابة بلغة إنقليزية بسيطة، لم تنقصني الفصاحة فحسب، بل حتى الفعالية.

كيف سأبدو عند الكتابة بلغة عاميّة بنفس الطريقة التي كنت أتحدث بها، مثل “انظر، يا دادي، اسمح لي أن أسحب معطفك عن القطة (اسمح لي أن أحذّرك من شخص ما)، إليجا محمد.” 

يظن كثيرون ممن يسمعونني اليوم أخطب في مكان ما، أو في التلفاز، أو أولئك الذين يقرؤون شيئًا قلته، أنني أكملت الدراسة بعد الصف الثامن. ويرجع هذا الانطباع بالكامل إلى دراستي في السجن.»

البداية

بدأت القصة فعليًا في سجن تشارلزتاون، عندما شعرت بالحسد تجاه حصيلة «بيمبي» المعرفيّة. كان عادةً ما يتولى قيادة أي محادثة يُشارك فيها، وقد حاولتُ محاكاته، لكن كانت معظم الجمل في كل كتاب أفتحه تتضمن كلمات لعلّها من اللغة الصينية.

كنت أتجاهل هذه الكلمات، لينتهي بي المطاف بمعرفة ضئيلة بما ذُكر في الكتاب. ثم ذهبتُ إلى سجن نورفولك كولوني وكنت مستمرًا بالقراءة التي أتجاهل فيها الكلمات الصعبة. كنت سأُحجِم عن الاستمرار بعد مضيّ بعض الوقت، إلا أنني تلقيت حينها تحفيزًا للمواصلة. 

رأيتُ أن أفضل ما يمكنني فعله اقتناء قاموس دراسي لتعلّم بعض الكلمات. كنت محظوظًا أيضًا لإدراكي أهمية محاولة تحسين خطي. كان خطي سيئًا، ولم أستطع حتى الكتابة في خط مستقيم. لقد دفعتني الفكرتان معًا إلى طلب قاموس مع بعض الدفاتر وأقلام الرصاص من مدرسة سجن نورفولك كولوني.

أمضيتُ يومين في تصفّح القاموس. لم أدرك وجود هذا العدد الكبير من الكلمات! لم أعرف ما الكلمات التي أحتاج معرفتها.

أخيرًا، بدأت بالنّسخ بخط يدي البطيء والمجهد والمبعثر، نسختُ في دفتري كل ما هو مطبوع في الصفحة الأولى، حتى علامات الترقيم. أعتقد أن الأمر استغرق مني يومًا. ثم، بصوت عالٍ، قرأتُ مرة أخرى، لنفسي، كل ما كتبته على الدفتر. مرارًا وتكرارًا، وبصوتٍ عالٍ، لنفسي، قرأت خط يدي. 

القاموس

استيقظتُ في صباح اليوم التالي بهذه الكلمات حاضرةً في ذهني، فخورًا للغاية عند إدراكي أنني لم أكتب هذا القدر من الكلمات في جلسة واحدة فحسب، بل كتبتُ كلمات لم أعلم بوجودها في العالم.

علاوة على ذلك، مع القليل من الجهد، استطعت أن أتذكّر أيضًا ما تعنيه هذه الكلمات. راجعت الكلمات التي لم أتذكر معانيها.

شيءٌ مضحك؛ خطرت الآن في ذهني كلمة «خنزير الأرض» (aardvark) من الصفحة الأولى في القاموس. كانت ثمة صورة له في القاموس وهو يحفر، طويل الذيل وكبير الأذنين. يُعَد من الثدييات الإفريقية، ويسكن في جحور يحفرها ويعيش على النمل الأبيض ويصيدها بالتقاطها بلسانه كما يلتقط آكل النملِ النملَ.

خنزير الأرض

تابعت، من شدة افتتاني، نسخَ صفحة القاموس التالية. وشعرت بنفس الشعور عندما درستها. مع كل صفحة قادمة، تعلّمت عن أشخاصٍ وأماكنَ وأحداثٍ من التاريخ.

في الواقع، يبدو القاموس كموسوعة مصغّرة. أخيرًا، شَغَلَ قسم الحرف«A» دفترًا كاملًا، ثم انتقلتُ إلى قسم الحرف «B». وهكذا، انتهى بي المطاف إلى نسخ القاموس بأكمله.

زادت سرعة خط يدي مع كثرة الممارسة. ولو حسَبت الكلمات التي كتبتها في الدفتر وفي الرسائل التي كتبتها أثناء إقامتي في السجن، أعتقد أن مجموع الكلمات التي كتبتها كان مليون كلمة.

بطبيعة الحال، مع توسّع مداركي في عدد الكلمات التي أفهمها، أصبحتُ ولأول مرة قادرًا على أن أفتح كتابًا وأفهم ما فيه. يستطيع أي قارئٍ نَهِم تخيّلَ العالم الجديد الذي فُتح أمامي.

دعني أخبرك شيئًا: منذ ذلك الحين وحتى مغادرتي هذا السجن، كنت أقرأ في كل لحظة أكون فيها متفرّغًا، سواء في المكتبة أو على سريري. لم يستطع أحدٌ حينها انتزاعي من عالم الكتب ولو بالقوّة العظمى.

كنتُ هائمًا بين تعاليم السيد محمد، ومراسلاتي، وزوّاري – عادة إيلا وريجينالد-، وقراءتي للكتب. مرّت أشهر دون أن أشعر أنني محبوس في السجن. في الواقع، حتى ذلك الحين، لم يسبق لي في حياتي الشعور بهذه الحرية التامة.

مالكوم إكس وهو يقرأ
مالكوم إكس وهو يقرأ

مكتبة السجن

كانت مكتبة سجن نورفولك كولوني في مبنى مدرسة السجن. وكانت تقام هناك دروس متنوعة من محاضرين وافدين من جامعات مثل هارفارد وبوسطن وغيرهما.

كما جرت المناظرات الأُسبوعية بين السجناء في مبنى المدرسة. ستشعر بالدهشة من حماس السجناء والجمهور لمناقشة مواضيعٍ مثل «هل يصح إرضاع الأطفال الحليب الصناعي؟»

تتوفر على رفوف مكتبة السجن كُتبًا في مواضيع عامة، أغلبها من المجموعة الخاصة الكبيرة التي أوصى باركهورست بالتبرّع بها للسجن، ما زال بعضها في صناديق في الجزء الخلفي من المكتبة – آلاف الكتب القديمة.

بدا بعضها قديمًا بأغلفةٍ باهتة مثل مخطوطات قديمة. كان باركهورست مهتمًا بشكل كبير بالتاريخ والدين. كان لديه المال والاهتمام الكافي للحصول على كثير من الكتب التي لم تكن متداولة عند العامة. ستكون أي مكتبة جامعية محظوظةً بالحصول على هذه المجموعة.

كما هو متخيّل، يركّز السجن على إعادة التأهيل، فقد كان يُثنى على السجين إذا أبدى اهتمامًا كبيرًا بالكتب. كان هناك عدد كبير من النزلاء المولعين بالقراءة، لاسيما المُناظِرين المشاهير، وقد قال عنهم الكثيرون إنهم موسوعات متحرّكة ويُعدّون من نجوم السجن.

العزلة الليلية

لن تطلب أي جامعة من طالب أن يلتهم الأدب كما فعلتُ عندما فُتح لي هذا العالم الجديد، عالمٌ أقدر فيه على القراءة والفهم. قرأت في غرفتي أكثر من المكتبة واستعرت أكثر من الحد المسموح به. فضّلت القراءة بمعزل تام في غرفتي.
        
عندما تقدّمت إلى مستوى القراءة الجادة، كنت أغضب كل ليلة عند الساعة العاشرة مساءً من إعلان “إطفاء الأنوار”. بَدَت وكأنها دائمًا تداهمني وأنا مستغرق بقراءة أمر مثير.
       
لحسن الحظ، كان عند ممر زنزانتي من الخارج مصباح يُلقي بريقًا خافتًا على غرفتي. كان الضوء كافيًا للقراءة بمجرد أن تتعود عيناي عليه. لذلك، كنت أجلس على الأرض لأواصل القراءة على الضوء الخافت بعد أن يُعلن عن إطفاء الأنوار.

كان الحراس الليليّون يمرّون على كل الزنزانات على رأس الساعة. في كل مرة سمعتُ فيها الخطى تقترب، كنت أقفز إلى السرير وأتظاهر بالنوم.

وبمجرد مرور الحارس، كنت أرجع إلى بقعة الضوء على الأرض لأقرأ لمدة ثمانية وخمسين دقيقة أخرى- حتى يقترب الحارس من جديد. استمررت على ذلك حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا. كانت ثلاث أو أربع ساعات من النوم في الليلة كافية لي.

كنت أنام أقل من ذلك أثناء سنوات تسكعي في الشوارع.

مالكوم إكس وتاريخ الرجل الأبيض

ركّزت تعاليم السيد محمد على «بييض» التاريخ؛ عندما كَتَب الرجال البيض التاريخ، طمسوا ببساطة تاريخ الرجل الأسود.

لن أنسى أبدًا صدمتي عندما بدأت القراءة عن أهوال الاستعباد. لقد أثّرت عليّ بشكل كبير لدرجة أنه أصبح فيما بعد أحد المواضيع المفضلة التي أخطبُ فيها عندما أصبحتُ قائدًا دينيًا بجوار السيد إليجا محمد. من المستحيل تصديق أكثر الجرائم وحشيّة في العالم، والخطايا والدماء التي تُلطخ يدا الرجل الأبيض.

قرأتُ أوصافًا للأعمال الوحشية، ورأيتُ رسومًا توضيحيّة لربط النساء السود وجلدهنّ بالسياط، وللأمهات السود اللاتي يشاهدن أطفالهن يُسحبون أمامهنّ ولا يمكنهنّ رؤيتهم للأبد، وعن هجوم الكلاب على العبيد، وعن صيادي العبيد الهاربين، وعن رجال الشر البيض بسياطهم وهِراواتهم وسلاسلهم وبنادقهم.

أظهر لي كِتاب تلو الآخر كيف جلب الرجل الأبيض كل أنواع المعاناة والاستغلال لشعوب العالم السوداء والبنية والحمراء والصفراء.

لقد عرفتُ كيف بدأ الرجل الأبيض المسمّى «بالتاجر المسيحي» في قطع البحار لإشباع شهوته من الإمبراطوريات الآسيوية والإفريقية، ولنهْبه وبطشه منذ القرن السادس عشر.

لقد قرأت ورأيت كيف يستحيل على الرجل الأبيض أن يختلط مع الشعوب غير البيضاء التي تحمل الصليب وتعاليم المسيح بنيةٍ وروحٍ حقيقية؛ بكل خنوع، وتواضع مثل المسيح.

لقد تأملتُ كثيرًا في الآفاق الجديدة التي فَتَحَتها لي القراءة. عرفتُ هناك في السجن أن القراءة قد غيّرت حياتي للأبد.

مالكوم إكس يخطب
غيرت القرّاءة حياة مالكوم إكس، حتّى تأثر فيها

أرى اليوم أن القدرة على القراءة أيقظت بداخلي الرغبة القوية في إبقاء عقلي حيًا. لم أسعَ للحصول على أي درجة علمية بالطريقة التي تمنح الكليات طلابَها رمزًا لمرتبة اجتماعية.

جعلني تعلّمي الذاتي، وكل كتاب إضافي أقرأه أُصبح أكثر حساسيةً تجاه الصمَمَ والخرس والعمى الذي كان يعاني منه العرق الأسود في أميركا.

منذ وقت ليس ببعيد، اتصل بي كاتب إنقليزي من لندن لطرح الأسئلة. وكان أحدها: «من أي جامعة تخرّجت؟» أخبرته: «الكتب»

لن تراني مطلقًا لا أستغل كل خمس عشرة دقيقة من وقت فراغي في دراسة شيءٍ أشعر أنه قد يُساهم في مساعدة الرجل الأسود.

مالكوم إكس

السجنالقراءةالكتبالثقافةالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية