عاصفة الغبار: نذيرٌ من الشمال
ليست العواصف الترابيّة بالظاهرة المناخيّة الغريبة على العراق ومنطقة شمال شبه الجزيرة العربيّة، فلماذا تحوّلت اليوم إلى ظاهرة تحمل «النذير»؟
تقع غرفتي في الواجهة الشمالية من البيت، وغرفة شقيقتي في الواجهة الجنوبيّة. مدُّ العاصفة الترابيّة وصلني أولًا، ذراتٌ تسرَّبت من الشق الصغير -الناتج عن عدم إطباق نافذتي تمامًا- على لحافي ووسادتي، ولون الغبار البرتقاليّ ابتلعني. ثوانٍ قليلة وبدأ كلب العائلة، الموجود وحده في غرفة شقيقتي الجنوبية، ينبح مذعورًا.
نباحه الهستيري المصاحب لضرب الباب وخدشه كما أفلام الرعب ليس غريبًا علينا، هو النباح ذاته، الضرب والخدش ذاته، مع كل عاصفة مطريّة.
منذ بداية أبريل 2022، والعواصف الترابيّة تضرب العراق، جارنا في الشَّمال. عاصفة الثالث والعشرين من مايو كانت التاسعة في العراق، والعاصفة الترابية الثانية التي تبسط جبروتها البرتقاليّ -في أقل من أسبوع- على الكويت والرياض. في العراق، اكتظت المستشفيات بآلاف المرضى ممن يعانون أصلًا من أمراض الحساسيّة والربو، أغلقت المدارس والمطارات والمؤسسات الحكومية في سبع من محافظاتها الثمانية عشر، بعضها أعلنت حالة الطوارئ.
ليست العواصف الترابيّة بالظاهرة المناخيّة الغريبة على العراق ومنطقة شمال شبه الجزيرة العربيّة. بل هي ظاهرة طبيعية موسميّة تبدأ من نهايات الرَّبيع وحتى بدايات الصيف، تحملها ريح «الشمال» كما تُسمَّى في العراق -أو رياح «السّموم» كما تُسمّى في الكويت والسعودية. تلك الرياح الموسميّة العاتية تمرُّ في طريقها على أراضٍ كثيفة بالرمال فتحملها عبر آلاف الكيلومترات.
الرياح المحمّلة بالغبار كان يُستبشر بها في الكويت: فهي تكسر حرارة شمس الصيف وتلقّح النخل وتبشّر بموسم ممطر في الشتاء. فما الذي تغيّر حتى استحالت ريح «الشمال» نذيرًا؟ Click To Tweet
نذير الجفاف بين ارتفاع الحرارة وشحّ الأنهار
منطقة شمال العراق، بين نهريْ دجلة والفرات، تحمل اليوم الكثافة الرمليَّة الأعلى في منطقة الشرق الأوسط. منذ مايو عام 2021، تعاني مناطق شمال العراق من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة. وتعاني انخفاض منسوب المياه بشكلٍ خطير؛ شح هطول الأمطار، وانخفاض منسوب مياه الأنهار من منابعها. فأنهار العراق يصلها اليوم عشر الماء الذي كان يصلها من إيران، بينما انخفض منسوب المياه الواصل من تركيا بنحو الثلثين.
متى يستسلم المحيط؟
سبعة ملايين عراقيّ على الأقل تأثرت معيشتهم مباشرةً بالجفاف. في المناطق العراقيّة الزراعيّة التي تعاني الجفاف، 37% من مزارعي القمح و30% من مزارعي الشعير فقدوا 90% من المحصول المتوقَّع. عائلة من بين كل عائلتين في مناطق الجفاف بحاجة إلى دعم غذائي، عائلة من بين كل خمس عوائل عاجزة عن إطعام كل أفرادها.
العراق اليوم ضمن الدول الخمس الأكثر تأثُّرًا في العالم بالتغيّر المناخي. وحذرت وزارة البيئة العراقية من اجتياح العواصف الترابيّة للعراق في العقدين القادمين بمعدَّل 272 يومًا في السنة، وفي عام 2050 بمعدّل 300. فإن عصفت عاصفتان ترابيتان علينا في الكويت من بين تسع ضربت العراق، نكون سذّجًا إن ظننا أنّنا بمنأى عن هذا الارتفاع.
اللاعدالة المناخيّة في تويتر العاصفة البرتقالية
في السادس عشر من مايو، لدى تصفحي اليوميّ لتويتر، رأيت صورة عاصفة ترابية في حساب ناشطٍ عراقيّ، علي المقدام. صورةٌ برتقالية لأربع فتيات عراقيّات صغيرات في بغداد، ولك أن تخمّن من ملابسهن أنهن خارجات من المدرسة، ويتجهن سيرًا إلى بيوتهنّ في قلب العاصفة. والتعليق: قف هنا للحظة وفكّر بالمستقبل!
في يوم الثالث والعشرين من مايو، يعجُّ «التايم لاين» في تويتر الكويت بصور العاصفة الترابيّة. وفي أغلبها، تجد العمالة الوافدة عالقة في الشوارع وسط المدّ البرتقالي.
في اليوم التالي للغبار، سلَّطت الباحثة الكويتية أبرار الشمّري الضوء، في سلسلة تغريدات، على افتقار نظام المواصلات العامّة إلى العدالة تجاه طبقة الوافدين ممن يعتمدون عليها حصريًّا في تنقلاتهم. فمقصورات الانتظار المكشوفة غير مهيأة للعواصف الترابيّة، وهي أصلًا ليست مهيأة لحرارة الصيف وأمطار الشتاء.
تتكرَّس هذه «اللاعدالة المناخيّة» مع تنبيهٍ من أحد تطبيقات التوصيل على شاشات جوّالاتنا فور قدوم العاصفة، يحثُّنا على البقاء بأمان في بيوتنا بينما يتولى سائقو التطبيق توصيل الأغراض إلى عتبة الباب.
فلماذا نكترث إذن للعدالة المناخيّة ما دمنا متحصّنين في بيوتنا وغرف نومنا ونملك سياراتنا وتخدمنا تطبيقات التوصيل، حيث نحن آمنون بعيدون عن طريق الأذى. عدا أنَّنا في الواقع، لسنا آمنين.
ذرات الغبار الصغرى بعد قصف الحروب الكبرى
ثلاث حروب كبرى وثلاثة عشر عامًا من الحصار وحربٌ أهلية وحربٌ على الإرهاب خلَّفت أثرها على تربة العراق وأنهكتها، على الأخص في وسطه وجنوبه. في 1991 وفي 2003، أضعف القصف الأميركي المكثّف التربة وحوّلها إلى غبار ناعم، وباستخدامه الأسلحة المزودة باليورانيوم المخضب لوّثها إشعاعيًّا.
البصرة، أقرب المدن العراقيّة إلى الكويت، هي أيضًا أكثر المدن العراقيّة تعرّضًا للقصف في الحرب الإيرانية وحرب الخليج الثانية والغزو الأميركي. تربتها تحمل النسبة الأكبر من الملوّثات الإشعاعية. وذرات تلك التربة تحملها ريح «الشمال» في طريقها وتنسلُّ عبر الجدران والأجساد دونما تمييز.
لكل مشكلة حل. والحلّ المقترح بيئيًّا في الكويت لصد مخاطر العواصف الترابية بشكل مستدام تشجير الكويت وتخضيرها، فتحميها كما الأسوار الشجريَّة، لا سيما في الحدود الشمالية من الكويت. لكن مهما تحوّطنا وعلت الأسوار، هل يعجز الأذى الذي يصيب جارنا عن إيجاد طريقه في النهاية إلينا؟
قبل سنوات، حين اختبرنا لأول مرة النوبة الهستيرية التي تصيب كلبنا، قرأت أثناء بحثي عن أسبابها في قوقل أنَّ الحيوانات، على الأخص الكلاب، تدرك بفطرتها مدى الأذى والخطورة التي تحملها العاصفة إلى أهل البيت. وأنَّ ما يزيد من حدّة نوبتها، وذعرها، رؤية اللامبالاة التي نستقبل بها العاصفة.