حتى لا تظل الدولة زبون الجامعات الحكومية
سيكون لإلغاء الدعم المالي الموجه من الدولة إلى الجامعات مباشرة، أثرٌ كبير على المنافسة في تقديم تجربة أكاديمية أفضل للطلبة.
رغم تقديم الجامعات الحكومية خدماتها الأكاديمية للطلبة إلا أن الطالب في حقيقة الأمر لا يؤثر ماديًا على الجامعة بشكل مباشر. فالدولة هي الممول الرئيس، وعليه تسعى الجامعات الحكومية إلى تقديم «قيمة» للدولة مقابل المخصصات السنوية من الميزانية العامة بدلًا من السعي في تقديم تلك القيمة إلى الطلبة والقطاع الخاص. وتنقل هذه الديناميكية علاقة الطالب والقطاع الخاص من خانة «العملاء» إلى خانة «المستفيدين».
نموذج تمويل الجامعات الحكومية
العميل هو مشتري المنتج أو الخدمة، لكن ليس بالضرورة من يستهلكها. المستفيد هو مستهلك هذه الخدمة وليس بالضرورة الشاري. على سبيل المثال، عندما أشتري حليب أطفال من الصيدلية، فالصيدلية مقدِّمُ الخدمة وأنا العميل، والمستفيد ابني. لذلك من الطبيعي أن تستهدف الصيدليات الوالدين في تسويق منتجات حليب الأطفال، ولا تستهدف الأطفال.
ما يحصل اليوم في الجامعات الحكومية (مقدِّم الخدمة) أنها تسوِّق خدماتها على الدولة (العميل)، وتُعامِل الطلبة والقطاع الخاص كمستفيدين (المستهلك).
عندما تكون الدولة هي «الزبون» والطلبة والقطاع الخاص «المستفيد»، تضع الجامعات احتياجات الممول على قائمة أولوياتها. وتترجَم تلك القيمة على شكل مؤشرات أداء مثل: «نسبة الطلاب الملتحقين بالدرجة الجامعية الأولى الذين أكملوا البرنامج في الحد الأدنى من الوقت» و«مدى نمو عدد البرامج المعتمدة بالجامعة» و«مدى نمو عدد البرامج التي تعاقدت مع هيئات اعتماد محلية أو دولية». وتصبح تلك المؤشرات محدِّدات نجاح الخدمة.
لكن إذا افترضنا تعديل العلاقة بحيث يصبح الطالب أو القطاع الخاص «الزبون»، فمحدِّدات النجاح قد تختلف كليًّا. وتترجَم حينها إلى «عدد الخريجين الحاصلين على وظيفة خلال ثلاثة أشهر» و«عدد الشركات التي تستهدف طلبة الجامعة للتوظيف» و«نسبة رضا الطلبة والقطاع الخاص عن مخرجات الجامعة.»
برأيك، أيُّ تلك المحددات الأفضل؟
رؤية 2030 ونظام الجامعات الجديد
تعوِّل رؤية السعودية 2030 على القطاع الخاص. لذا تميَّز نظام الجامعات الجديد بأمور عديدة أهمها تمكين الجامعات من الأدوات المناسبة للعمل كمقدِّم خدمة والاستفادة من مواردها الحالية.
كما تميَّز النظام أيضًا بتطوير الحوكمة. ومن أهم مظاهر هذا التطوير: تمثيل القطاع الخاص في مجلس الأمناء في الجامعات، وتكوين مجلس شؤون الجامعة بحيث يشمل نائب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لقطاع العمل، ونائب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لقطاع الخدمة المدنية، ونائب وزير التخطيط والاقتصاد ونائب وزير المالية. تهدف هذه التجربة الهيكلية إلى التأثير على قرارات الجامعات، وقيادة مخرجات الجامعة إلى احتياجات سوق العمل الفعلية.
بدأ تنفيذ القرار في مرحلته الأولى على ثلاث جامعات، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح إلا أنَّ الدولة لا تزال الزبون. فالجامعات مستمرة في تحصيل مخصصات سنوية -وإن كانت أقل- في النظام الجديد. إذ يوضح النظام في مادته التاسعة والأربعين: «الإعانة التي تخصصها الدولة لها وفق القواعد المنظمة لبرنامج تمويل الجامعات.»
مواءمة مخرجات التعليم مع سوق العمل
مع بداية جائحة كورونا، تغيَّر سلوك العملاء وأثَّر ذلك على عدد كبير من الشركات. فالشركات التي خدمت السلوك الجديد للمستخدمين وجدت نتائج مالية إيجابية وفرص نمو غير مسبوقة. هذا التغير المفاجئ في سلوك العميل سبّب تغييرًا مفصليًّا في العلاقة بين العميل و«القيمة» التي كانت تقدمها بعض الشركات.
ونرى ذلك في ارتفاع عدد المستخدمين لتطبيق «زووم» لترتفع قيمتها السوقية، في حين أعلنت شركة «هيرتز» (Hertz) لتأجير السيارات عن إفلاسها.
ما يعني أنَّ كلما ارتبطت القيمة بالعميل كان تحقيق الفائدة وتبادل المصلحة أقرب. ويعمل المختصون على تقنيات تساعد في التحقق من مدى مواءمة القيمة مع العميل المستهدف كخطوة أساسية لإطلاق المنتج الجديد. وفي حال اضمحلال هذه العلاقة مع الوقت، نجد مبيعات المنتج تقل، فإما يعاد بناؤه أو تكون نهايته.
فماذا لو كان مصير استمرار جامعة من عدمه محتومًا بمدى رضا عميلها الحقيقي -الطلبة وشركات القطاع الخاص؟ وما مدى الجهود المصيرية التي ستبذلها تلك الجامعة لتحقيق المواءمة بين خدماتها واحتياجات السوق المتغيرة لجذب عملاء «طلبة» جدد؟
هكذا ستُطبَّق مبادئ «العرض والطلب»، وتؤثر بشكل إيجابي في تنمية الجامعات بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل.
عندما تتعامل الجامعات مع الطلبة والقطاع الخاص كعميل يوفر لها مصدر دخلها الأساسي، وتوقَف المخصصات المالية المباشرة من الدولة إلى الجامعات، سيصبح الطلبة والشركات أصحاب اليد العليا. Click To Tweet
وتتحول الجامعة إلى مقدم خدمة يسعى إلى رضا العملاء وتحقيق غاياتهم.
وبحكم الحاجة الملحة والرغبة في الاستمرارية ستبدأ الجامعات الحكومية بتحقيق «المواءمة مع السوق» (Product/market fit)، ويبدأ المسار الإجباري لتصحيح الفجوة بين احتياجات سوق العمل المتغيرة ومخرجات الجامعات. حينها سيتوقف الهدر على الكليات والتخصصات التي لا يحتاجها سوق العمل والتي تخرِّج لنا آلاف العاطلين عن العمل سنويًّا.
ويمكن استحداث هذا النموذج الجديد بناءً على التجربة الدنماركية.
التجربة الدنماركية في التمويل الجامعي
يتميز التعليم الجامعي في الدنمارك بأنه مجاني لأهل البلد وأيضًا مواطني الاتحاد الأوربي. ويعتمد النموذج الدنماركي نظام «القسائم الكاملة» (Full Voucher System). ويمكن استخدام تلك القسائم سواء في الجامعات الحكومية الدنماركية أو الأهلية.
يوفِّر النظام سبعين قسيمة مجانية، تمثل كل قسيمة شهرًا واحدًا من الدراسة المجانية للراغبين بإكمال دراستهم الجامعية. وتجعل حاملها مؤهلًا لتغطية الدولة تكلفة دراسته بالكامل.
ويمكن استخدام الرصيد المتاح في الكلية نفسها أو التخصص نفسه، مع إمكانية الانتقال لتخصص أو جامعة أخرى دون عوائق إدارية. وإذا تحققت بعض الشروط، يمكن زيادة رصيد القسائم. كذلك يمكن تحديد شروط معينة تتوقف بموجبها القسائم المجانية، مثل سوء الأداء الأكاديمي أو عدم الالتزام، ويتاح للطالب حينها حلول تمويلية أخرى لاستكمال دراسته.
يمكن تشبيه برنامج القسائم المجانية في الدنمارك بنموذج «البعثات الداخلية» الذي طبقته وزارة التعليم مع الجامعات الخاصة في السعودية. إلا أن النموذج الدنماركي يشمل الجامعات الحكومية أيضًا.
ويُطبَّق نظام القسائم التعليمية في دول مختلفة وبنسخ متعددة. في النسخة الهندية تُقدَّم تلك القسائم للطبقة الأقل دخلًا في المجتمع ضمن مسابقة يانصيب. بينما تستهدف النسخة الأميركية شريحة مجتمعية معينة يجري اختيارها بناءً على تقييم المتقدمين. كما توجد نسخ أخرى في كل من كندا وهولندا والسويد وبريطانيا وبنقلاديش وتشيلي وكولومبيا.
اختيار النموذج الأنسب للتعليم السعودي
سيكون لإلغاء الدعم المالي الموجه من الدولة إلى الجامعات مباشرة، وتحويله عبر نموذج البعثات الداخلية بحيث يشمل الجامعات الحكومية، أثرٌ كبير على المنافسة في تقديم تجربة أكاديمية أفضل للطلبة.
كذلك سيخدم معايير القبول ليتوازن فيه الجانب الأكاديمي مع جانب الشغف والرغبة الحقيقية وميول الطلبة المهمَل حاليًا. كما سيكون له الأثر الكبير في تسهيل عملية الانتقال من تخصص إلى آخر، وتفعيل دور المرشد الطلابي لمتابعة أداء الطلبة المتعثرين لبناء خطة خروج وتغيير تخصص في الوقت المناسب. كما سيسهل هذا النموذج على الطلبة الانتقال من جامعة إلى أخرى بناء على ظروف الطلبة واحتياجهم.
لماذا لا ينجح إصلاح التعليم في دول الخليج العربية؟
بالطبع يتطلب الأمر المزيد من الدراسات وإجراء المقارنات المعيارية بين النماذج في الدول الأخرى بهدف اختيار النموذج الأنسب أو بناء نموذج خاص يخدم طموحاتنا. فقد يكون الزبون في النموذج السعودي للقسائم التعليمية «شركة» لها عدد من المنح التي تقدمها بطريقتها وشروطها وفي التخصصات التي تحتاجها. أو قد يكون الزبون «طالب» مع توصية من مستشار مهني أو ولي الأمر أو كليهما لضمان الجمع بين الحكمة والحاجة والشغف.
المهم أن تقدِّم الجامعات القيمة الحقيقية للدولة في تطوير مخرجاتها بما يوائم سوق العمل ويدعم الاقتصاد.