في انتظار الباص

لا توجد أسباب كافية لي ولا لغيري من سائقي ومرتادي السيارات الفردية حتى نستخدم وسائل النقل العام، فما الذي سيقنعنا بركوب الباص؟

بين صور جدي القديمة أرى ورقة مطوية كُتب عليها «رخصة قيادة دراجة» صادرة عام 1951 عن دائرة المرور. أسأله: «هوائية؟» فيهز رأسه إيجابًا. «ما الذي جعلك تقود السيارة إذن؟»، يجيب: «مشاويري إلى الجهراء»، والجهراء على بعد اثنين وثلاثين كم شمال غرب مدينة الكويت.

في إحدى تلك المشاوير الطويلة، طلبت أمي، الطفلة حينذاك، من والديها مرافقتهما لكنهما رفضا. رفضت أمي القبول بهذا الرفض، فاختبأت في صندوق السيارة. اليوم وبعد قرابة الخمسين عامًا من ذلك المشوار، ترافق أمي والدها نحو الوجهة ذاتها بجانبه. الفروقات: هي من خلف المقود، ومدة زمنية لا تتجاوز النصف ساعة بعد أن كانت تأخذ ساعات من الزمن. وذلك بفضل السيارات التي تطورت طوال تلك العقود، والشوارع التي عُبّدت.

بين جيل جدي وجيلي، اعتادت أجيال على التنقل الفردي في الكويت. جدي الذي لا يستخدم سيارته اليوم إلا داخل منطقته، يذكر «الازدحام» كسبب لعدم قيادته السيارة لمشاوير أطول من خمس دقائق. وهو السبب ذاته الذي يذكره مرتادو وسائل النقل العام حول العالم

في الكويت، يزداد عدد السيارات سنويًا بمعدل 5%، مما يسبب تحديًا لسعة الشوارع. هذا بالإضافة إلى التلوث الهوائي الذي تساهم به تلك السيارات بسبب الغازات التي تطلقها عوادمها في بلد تنتشر فيه الأمراض التنفسية بشكل ملحوظ جدًا. مع ذلك، لا يبدو هذان السببان كافِيَيْن لي ولا لغيري من سائقي ومرتادي السيارات الفردية حتى نستخدم وسائل النقل العام.

ما الذي سيقنعنا بركوب الباص؟

طرحتُ هذا السؤال على مؤسس مبادرة «كويت كميوت» (Kuwait Commute) جاسم العوضي. مبادرة أسسها بهدف نشر ثقافة استعمال النقل العام أو الباصات -وسيلة النقل العام البري الوحيدة في الكويت. ويجيبني جاسم بالخطة التي تعمل من خلالها المبادرة: الحل يبدأ من الأعلى.

منذ عام 2018، يعمل جاسم من خلال عمله التطوعي مع الجهات الحكومية المعنية بالنقل العام في الكويت والشركات الخاصة ونواب مجلس الأمة. والهدف توفير بنية تحتية تؤسس لعمل الباصات بشكل مهني أكثر.

ويخبرني بأن عمل المبادرة مبني بشكل كبير على خطوط باصات كانت قد صُممت بشكل متقن في ستينيات القرن الماضي. لكن استحواذ هيئة استثمارية حكومية على شركة المواصلات الكويتية عام 1980 ركز الاهتمام الحكومي على الناحية الربحية وليس التنظيمية. إضافة إلى ذلك، فالحكومة تدعم الوقود ماديًا، أما وسائل النقل العام، فلا تدعمها.

من أين نبدأ؟

أوجه هذا السؤال لجاسم، فيحيلني لمدينة الكويت. «لأن مدينة الكويت لم تتغير جذريًا منذ بناء بنيتها التحتية قبل ستين عامًا»، لذا فإعادة إحياء خطوط الباصات فيها ستكون بداية جيدة تدفع باتجاه رفع نسبة المستفيدين من تلك الباصات التي تبلغ اليوم 2.2% بعد أن سقطت تدريجيًا من 16.5% خلال أربعين عامًا.

جاسم لا ينتظر محطة القطار الذي ينتظرها الكثير لتكون أول وسيلة نقل عام يستغلها المواطنون والمقيمون من ميسوري الحال. بل يرى الموضوع بواقعية أكبر «فعدد راكبي الباص في مدينة لندن ضعف راكبي المترو هناك».

فكرة إحياء خطوط الباصات القديمة في مدينة الكويت التي تدفع بها المبادرة طُبقت بصورة تجريبية ومصغرة. فقد دشنت شركة النقل العام في الكويت قبل أسبوعين مشروع «باص المباركية» الذي يقل راكبيه بين محطات متعددة في مدينة الكويت كل نصف ساعة بين العاشرة والنصف صباحًا حتى العاشرة والنصف ليلًا.

في عطلة نهاية الأسبوع، ركبت هذا الباص من وإلى ساحة مواقف السيارات، وخلال تلك المدة القصيرة بدت لي أهداف مبادرة «كويت كميوت» -التي كنت أراها قبلها بيومين أهدافًا حالمة- أكثر واقعية. 

يختم جاسم حديثه باقتباس من عمدة بوقوتا الكولومبية إنريكي بيناسولا، المدينة التي تملك إحدى أفضل أنظمة النقل العام: «ليست المدينة المتطورة تلك التي يمتلك فيها الفقير السيارة، بل تلك التي يستغل فيها الغني وسائل النقل العام

الروابط:

الإنسانالبيئةالمستقبل
بودكاست بُكرة
بودكاست بُكرة
منثمانيةثمانية

بُكرة، لكل الشباب الواعد، نطرح أسئلتنا الكبيرة والصغيرة والمتغيرة والعالقة، مع مختصّين وباحثين وعُلماء، ونفهم معهم كيف نعيش ونستعد ونعمل من أجل مُستقبل أفضل.