المقهى: طاولة الحوار والمجتمع المدني
يُنظر إلى زيادة عدد المقاهي في السعودية كرغبة شبابية في البحث عن حضور اقتصادي، لكن توجد أيضًا أسباب ثقافية وضرورات اجتماعية لا تقل أهمية.
يُنظر إلى التكثُّر الزائد عن الحد لعدد المقاهي في السعودية كمظهر من مظاهر ورطة الشباب في البحث عن حضور اقتصادي. إذ يُعتقد على نطاق واسع بأن فكرة تأسيس مقهى لإدارته كمصدر دخل مادي لا تمثِّل أي تصور ابتكاري لتنويع مصادر الدخل أو الاستغناء عن الوظيفة.
وقد يبدو هذا الاعتقاد صحيحًا نسبيًا من الجانب الاقتصادي، وإن كان الجزم بهذا الاستنتاج يعود إلى خبراء الأرقام والجدوى الاقتصادية.
بالمقابل لا يفسر البعدُ الاقتصادي ظاهرةَ الازدياد المطرد للمقاهي. فهناك أسباب ثقافية وضرورات اجتماعية لا تقل أهمية عنه. إذ يمثل وجود المقاهي بهذه الكثافة والتنوع حالة من حالات أنسنة الفضاء الاجتماعي، إلى جانب كونه رمزية ثقافية واسعة وعميقة الدلالات. بمعنى أن المقهى ليس جزءًا من اقتصاد المدينة وحسب، بل نتاجُ ثقافتها أيضًا.
الفضاء الثالث ما بين البيت والعمل
المقهى ليس محلًا لتناول المشروبات والأطعمة بقدر ما هو منصة لتوليد الأفكار وتبادلها، إلى حدٍّ عدَّه يورقن هابرماس المحرك الأهم للفضاء العام. وعلى هذا فهو ليس فضاءً للثرثرة المجانية وتصريف الفائض العاطفي، بل طاولة للِّقاءات الحميمية وطرح الرؤى حول مختلف الشؤون الحياتية والاجتماعية.
تُعبِّر عن ذلك صور المقاهي الحديثة في السعودية بتنوع طرازاتها واختلاف مستوياتها الطبقية. ما يعني بالضرورة أن المقهى لا يمكن اختزاله كمنصة حوار للمشتغلين بالثقافة، بل كدائرة واسعة الاحتمالات لكل الكائنات الاجتماعية. أي طاولة سوسيولوجية ممتدة في الزمان والمكان.
وهذا ما يفسر جماليات تأثيث المقاهي سواء على مستوى حداثة التصاميم أو الولع بالديكورات ذات الطابع التراثي، أو الاشتغال السينوقرافي ومسرحتها بمعالجات بصرية. وتمتد الجماليات كذلك إلى التنويع الجاذب في قائمة المشروبات والمأكولات.
فلم يعد المقهى مجرد محطة للتزود بالكافيين على عجل، وإلا لأصبح تناول الجرعة اليومية على صورة «تيك أواي» الأسلوبَ الأمثل والأكثر رواجًا في عصر السرعة. بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة الحديثة ومحلًا للمكوث والاسترواح.
ومن هذا المنطلق استحق المقهى لقب «الفضاء الثالث». إذ يعدُّه ري أولدنبرق المكان الاختياري المحايد والأليف الذي يمنح مرتادي المقاهي راحة البيت وحميميته ودفئه. ويكفينا كدلالة عدد الساعات التي بات الفرد السعودي يقضيها في المقهى ما بين فضائيْ البيت والعمل.
أسهم هذا التحول في تصعيد الاهتمام بالمقاهي وجعلها فضاءات مريحة تسمح للفرد بالبقاء فيها لساعات يقضيها إما في القراءة أو الكتابة أو المنادمة أو حتى الدراسة. تمامًا مثلما كانت تُسمَّى المقاهي الأوربية بـ«الجامعات الرخيصة» نظرًا إلى ما يُتداوَل فيها من أفكار ومعارف.
وإذا كانت المدرسة والجامع والجامعة والسوق والشارع فضاءات لتبادل القيم الجمعية، فإن المقهى علامة من علامات الفردانية التي يشعر فيها الفرد بأنه خارج رادار التلقين والوصايا.
ديمقراطية المقهى
هكذا ينبغي النظر إلى المقهى، كمعادل لطاولة الحوار والمجتمع المدني كما نظّر لها ستيفن توبك. ويبدو هذا المنحى على درجة من الوضوح في المقاهي الحديثة، خصوصًا بعد التحول البنيوي العميق في السعودية الجديدة مع الحضور اللافت للمرأة. وحيث لا يقتصر حضورها الكبير في هذه الفضاءات كمرتادة للمقهى وحسب، بل كعاملة أيضًا.
ما العوائق أمام مشاركة المرأة في سوق العمل الخليجي
فقد تحرر مفهوم النادل من صيغة «القهوجي» إلى وساعة صانع البهجة وحرفيته المتمثل في لقب «الباريستا»، بكل ما يختزنه اللقب من حمولات الاختصاص والحداثة والمعرفة. أمرٌ يعزز فكرة كون المقاهي علامة من علامات التمدّن، حيث يحتفل مرتادوها بفردانيتهم وحريتهم. كما يبتهجون بإنتاج القيم والمعاني الجديدة حول طاولة معاندة للوصايا والتعليمات المدرسية.
ففي حيزه يتصرف الأشخاص على سجيتهم، وانسجامهم التام مع حرية فضاء المقهى ومرونته.
والمقهى، بتصور تشارلز ديكنز، المكان الذي تحدث فيه الأشياء الجيدة. هو الفضاء الذي يمتلك كل فرد فيه صوته ورأيه وموقفه. بمعنى أنه فضاءٌ ديمقراطي الروح ويمكن أن يتحول إلى عادة عضوية.
فاقتراح صديقٍ عليك الالتقاء في المقهى يحمل في جوهره رغبة أكيدة للحوار والمسامرة وتعزيز الصداقة. وكأنه يستدرجك إلى المكان الأمثل للقاء والتَّماس المباشر مع الحياة. فهو المكانُ الأرحب لإشباع رغبة الفرد في التفاعل الاجتماعي، والمضاد الحيوي لبرود العلاقات الافتراضية في مواقع التواصل.
وبكونه معبد الحياة الحديثة، فهو أيضًا الفضاء الذي تتفتت فيه الطبقية. أو كما يعدّه عالم الاجتماع الكندي جون مانزو: الركيزة التي بُنِيَ عليها علم الاجتماع.
الوجود الجاذب للكائن المقهائي
يعمل المقهى بطبيعته كـ«فضاء اجتماعي جاذب» (Sociopetal). إذ يستند على رؤية درامية ويختزن قيم الحداثة والعولمة والعصرية، كما يولِّد صورًا شعرية. وكلما تصعَّدت جمالياته ارتفع منسوب جاذبيته من الناحية النفسية.
وذلك تحديدًا ما يؤهل المقاهي في السعودية إلى التكثُّر والتنوع، إذ يشعر الفرد المعتاد على ارتياد المقاهي بالتمدُّن والتحضُّر. فكل ما يحفُّ به علاماتٌ ثقافية راقية تتمثل في الموسيقى وأناقة مرتادي المقاهي وفنون تقديم الطعام والشراب، وغيرها من العلامات الفنية المتمثلة بالديكورات والملامس الجمالية.
وفي هذا الوجود الجاذب، يتصعَّد المقهى إلى مستوى اللحظة الحُلمية التي تدفع الكائن المقهائي إلى نسيان همومه والتخفف من مسؤولياته، بل إلى القفز المؤقت من طبقته. الأمر الذي يبعث فيه الإحساس بالتعافي من المنغصات والترفع عن نواقض الفرح بالحياة.
المدن من دون المقاهي موحشة، بل هي فضاءات باردة وغير مؤنسنة. لذلك لا يمكن تصور مُدن اليوم خالية من المقاهي أو حتى قليلة المقاهي. لأنها إذا ما خلت من المقاهي تتحول إلى فضاءات طاردة. Click To Tweet
فالمقهى مختصر المدينة مكانيًّا وجزءٌ من إيقاع حركتها الاجتماعية.
وبقدر ما هو فضاءٌ وظيفي هو فضاءٌ إبداعي، لأنه كبنية فاعلة يلبي حاجات نفسية واجتماعية وثقافية.
هذا هو منطق علم نفس المكان. وهذا بالتحديد ما يرقى بالمقهى ليكون جزءًا من بنية اجتماعية، مؤكدًا بالضرورة على كون الثقافة جزءًا من الحركة الاقتصادية. ففي الوقت الذي يبدو فيه المقهى من الوجهة المظهرية مجرد ركن للفرد المعزول عن العالم، يُعدُّ المكان الحامل لمنظومة من الدلالات الاجتماعية.
تلك بعضٌ من شفرات نص المقهى المزدحم بالإشارات الصريحة والخفية. فهو بمثابة البيت الذي تتوزع فيه قيم التواصل والاجتماعية والأُلفة.