المخطط الإسرائيلي للسيطرة على النيل

هدفت إسرائيل منذ قيام كيانها للسيطرة على مصادر المياه العربية والانتفاع بها، وأزمة سد النهضة خطتها للسيطرة اليوم على نهر النيل.

مذ وضعت إسرائيل قدميها في المنطقة العربية رسمت خارطة واضحة الملامح للسيطرة على مياه العرب. ونجحت بقوة السلاح في تحقيق جزء كبير من أهدافها، أهمها السيطرة على بحيرة طبريا المصدر الرئيس لمياه الأردن. 

فرغم اختلاف انتماءات حكام إسرائيل الحزبية منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فالتوجهات السياسية واحدة والمبادئ متماثلة. ويأتي على رأس هذه المبادئ الصهيونية السيطرة على المياه العربية بجانب الأرض. لذلك تواصل إسرائيل محاولات السيطرة على الخارطة المائية للشرق الأوسط مهما كلفها ذلك من أموال وجنود.

لكن لم تضع في الحسبان التغيرات المناخية والعوامل الطبيعية كقلة سقوط الأمطار والجفاف. فمع تراجع منسوب بحيرة طبريا عدة مرات في السنوات الأخيرة وتجفيف البحر الميت وارتفاع تكلفة مشاريع تحلية المياه وقعت إسرائيل في مأزق كبير. 

لهذا اتجهت أنظارها إلى مياه النيل وبدأت تحيك المؤامرات حتى تشعل الصراع بين دول حوض النيل. وبذلك تجد مصدرًا جديدًا للمياه كانت تسعى للحصول عليه منذ عشرات السنين.

مصادر المياه في إسرائيل

تقع بحيرة طبريا بين منطقة الجليل في فلسطين وهضبة الجولان السوريّة، على الجزء الشمالي من مسار نهر الأردن. وتمثل البحيرة ربع كميات المياه العذبة في دولة الاحتلال. وتتجمع مياهها من خلال الأمطار التي ينقلها نهر الأردن العلوي. 

كما يجري في الأراضي الواقعة تحت سيطرة الاحتلال أربعة أنهار. تشترك في ثلاثٍ منها مع دول أخرى: نهر الأردن ورافده اليرموك في سوريا والعوجا. في حين تسيطر بالكامل على نهر المقطّع.

في البداية ظنت إسرائيل أن هذه المصادر كفيلة بتوفير المياه لها بصورة مستدامة، لكن أثبت الواقع عكس ذلك. فوفقًا لإحصائيات (World Meter)، انخفض نصيب الفرد الواحد في إسرائيل من المياه إلى 214 متر مكعب سنويًّا بعد بلوغه عام 1962 نحو 800 متر مكعب، ما يفوق نصيب فردين فلسطينيّيْن.

وأكد الناطق باسم سلطة المياه الإسرائيلي أوري شحور «أزمةَ الماء في إسرائيل». إذ أشار في تصريحاته إلى أن مناطق الشمال تواجه أسوأ حالات الجفاف في القرن الأخير. فقد بلغ العجز في مخزون المياه 2.5 مليار متر مكعب، ما يعادل مليون مسبح أولمبي. ويتجدد مخزون المياه عادة عبر الأنهر وكذلك قنوات المياه تحت الأرض في بحيرة طبريا إلى جانب مصادر أخرى.

وتابع شحور: «يجب أن يهطل في الشمال 85% على الأقل من معدل الأمطار، وإلا قد تواجه البلاد جفاف الأنهر الكبرى وشحًّا في مصادر المياه، بما يشمل نهر بانياس في مرتفعات الجولان (السورية المحتلة). ولم يسبق حدوث جفافٍ كهذا منذ بدء تسجيل المناخ في المنطقة قبل أكثر من مائة عام.»

كما صرَّح مدير قسم بحيرة طبريا بإسرائيل، دورون ماركيل، قائلًا: «نحن الآن في حال دائم من التغيير المناخي، فهذه ليست فترة موسم جاف يليه موسم ماطر. وإن استمر المناخ على هذه الحالة، لن يبقى أمامنا خيار سواء استيراد المياه من الخارج.»

وتُعد هذه التصريحات لقيادات إسرائيلية رفيعة المستوى إشارة واضحة إلى إيلاء مهمة البحث عن مصدر جديد للمياه الأولوية لدى القيادة السياسية.

مياه الأردن واتفاقية وادي عربة

قبل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية تمتَّع الأردن بوفرة في المياه يحصل عليها من بحيرة طبريا. لكن بعد السيطرة الصهيونية على البحيرة تحول الأردن إلى إحدى أفقر دول العالم مائيًّا. ويحصل الأردن على نحو 40% من موارده المائية من المياه المشتركة، منها مع إسرائيل في نهري الأردن واليرموك.

كما يشهد الأردن ضائقة مائية سنويًا، خصوصًا في فصل الصيف حيث يتضاعف الطلب على المياه. ويبلغ معدل استهلاك الأردن السنوي للمياه 108 مليون متر مكعب في حين يصل العجز نحو 15 مليون متر مكعب. ووفق تصريحات المتحدث باسم وزارة الري والمياه الأردنية، عمر سلامة، تشتري الأردن سنويًّا ما بين 10 و15 مليون متر مكعب من المياه. كما أن موجات اللجوء المتكررة إلى الأردن من سوريا والعراق شكلت ضغطًا على البنى التحتية ومن بينها المياه.

ولسنوات طويلة دخلت الأردن في صراعات متعددة مع إسرائيل على مياه طبريا. وبعد توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994 تحول الصراع إلى نهب علني لمياه الأردن. وبموجب الاتفاقية تزود إسرائيل الأردن بما يصل إلى 55 مليون متر مكعب سنويًّا من مياه بحيرة طبريا، تُنقَل عبر قناة الملك عبدالله إلى عمان مقابل سنت واحد لكل متر مكعب.

وفي عام 2010، اتفق البلدان على إضافة 10 ملايين متر مكعب مقابل 40 سنتًا لكل متر مكعب، السعر ذاته المقرر أيضًا للإمدادات الإضافية التي وافقت عليها إسرائيل.

كيف أضعفت إسرائيل مخزون الأردن المائي

كشف الباحث السياسي الأردني صالح المعايطة سلسلة من الممارسات الإسرائيلية بحق المياه الأردنية. فقد حاولت إضعاف روافد نهر الأردن وتلويثه، كما أنشأت ناقلًا لتحويل مياه اليرموك (رافد نهر الأردن) إلى بحيرة طبريا. في النهاية أضعفت تلك الممارسات نهر الأردن وما عاد دائم الجريان.

أشار أيضًا إلى سرقة إسرائيل المياه الجوفية في جنوب الأردن فضلاً عن بنائها ستة سدود شمال نهر اليرموك. كما تعمَّدت إسرائيل المماطلة بتنفيذ مشروع «ناقل البحرين» رغم إجماع خبراء المياه على مزايا المشروع المتعددة. إذ يقوم على ربط البحريْن الأحمر والميت بواسطة قناة لرفع منسوب البحر الميت.

كما يتضمن المشروع توفير ما يقارب 85 مليون متر مكعب من المياه للأردن سنويًّا، وتزويد البحر الميت بـ200 مليون متر مكعب.

وكان مقرَّرًا شمل الأراضي الفلسطينية في هذا المشروع الضخم بنصيب يصل إلى 30 مليون متر مكعب. إلا أن المشروع لم يكتب له التنفيذ حتى اللحظة الراهنة.

خطة السيطرة على النيل

تكشف كل هذه العوامل مدى حاجة إسرائيل للمياه، ما جعلها تتجه بأنظارها إلى نهر النيل. ونية إسرائيل في الحصول على مياه نهر النيل ليست وليدة اللحظة الراهنة بل لها جذور تاريخية عميقة. وقوبلت محاولاتها الكثيرة بصمود عربي وحكام فطنوا لما تهدف إليه إسرائيل من السيطرة على النيل وتحويل مياهه إلى تل أبيب. وآخر تلك المحاولات كانت في سبعينيات القرن الماضي عند توقيع معاهدة كامب ديفيد.

إلا أن مساعي إسرائيل للسيطرة على مياه النيل كما فعلت في بحيرة طبريا لم تتوقف عند حقبة سبعينيات القرن الماضي. هي فقط انتظرت اللحظة الراهنة للتدخل وتصعيب الموقف على مصر ودول المصب.

فبعد فترة هدوء شهدتها أزمات حوض النيل، عادت الصراعات تشتعل من جديد بعد ثورة 25 يناير 2011 المصرية. إذ استغلت العديد من القوى الخارجية حلَّ السلطة في مصر، وفُتِح ملف سد النهضة حاملًا كابوس الجوع والعطش لملايين السكان في دولتي المصب مصر والسودان.

لجأت دول المصب إلى حل المفاوضات باعتباره الحل الأمثل لأزمات المياه في إفريقيا، لكن اختلف الوضع هذه المرة. فقد بدأت إثيوبيا في بناء السد بقوة، رغم أنها بلد فقير بالكاد يوفر لقمة عيش لسكانه. لكن الأموال الإسرائيلية كانت كفيلة ببناء عشرة سدود.

السد العالي و تاريخ تغيّر مجرى النيل

الملك الذي غير مجرى نهر النيل ليجعل من القاهرة باريس أخرى، واستعراض لثلاث حقب تاريخية تغير فيها مجرى النيل وانعكاسات ذلك على الواقع الزراعي والاقتصادي والمعيشي.

10 يناير، 2020

اتبعت إثيوبيا أسلوب المماطلة الصهيوني ذاته في المفاوضات حتى يتسنى لها بناء السد وملئه بالكامل. وفي حين اعتقد كلٌّ من مصر والسودان توصّل الأطراف لحل الأزمة، تفاجآ بإعلان إثيوبيا بدء ملء السد.

زيارة نتنياهو إلى إثيوبيا

بدأت التدخلات العلنية لإسرائيل في مياه النيل بهذه الزيارة إلى أديس أبابا عام 2016، التي وصفها بـ«التاريخية». خطب نتنياهو آنذاك أمام البرلمان الإثيوبي قائلاً: «أفتخر اليوم بالإعلان عن عودة إسرائيل إلى إفريقيا بكل قوة.»

اتجهت أنظار نتنياهو خلال تلك الزيارة نحو مصادر المياه في إثيوبيا والسيطرة عليها بشكل كامل. فارتكز محور المباحثات على المياه والزراعة والسياحة والإعلام والتطوير التكنولوجي.

وعقد نتنياهو لقاءات مع رجال أعمال وممثلين عن شركات إثيوبية وإسرائيلية. وفي أحد تلك اللقاءات خاطب الجمع مكررًا: «استثمروا في إثيوبيا، استثمروا في إثيوبيا.»

وشدّد مرة أخرى على المياه قائلاً: «عملنا خلال السنة الأخيرة على توثيق العلاقات أكثر وضاعفنا التعاون الاقتصادي. وتنصب كل آمالي في تعميق العلاقات المتعلقة بالمياه على وجه الخصوص، وهذا مجال يدركه رئيس الوزراء الإثيوبي جيدًا. فهو مهندس مائي، ويفهم جيدًا ما يمكن تحقيقه في إثيوبيا.»

تطوير العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية

زار رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين إسرائيل حيث يعيش نحو 130 ألف يهودي من أصول إثيوبية. وبدت إثيوبيا متعطشة حينذاك إلى الاستعانة بتل أبيب لتنفيذ مشاريع تنموية على أرضها من جهة، وتلقِّي الدعم والإسناد السياسي من جهة أخرى.

ولم يغفل رئيس الوزراء الإسرائيلي اصطحاب وزير الزراعة أروي أريئيل معه إلى هذا اللقاء، إذ التقى أريئيل يومها بنظيره الإثيوبي. ووقَّع البلدان على اتفاقيات عدة تتعلق بالزراعة والتنمية بينهما.

كما اصطحب رئيس الوزراء الإثيوبي كلًّا من وزراء الخارجية والدفاع والمياه والطاقة والكهرباء ونائب وزير العلوم والتكنولوجيا. وتعكس التشكيلة رغبة إثيوبيا في تطوير العلاقات مع إسرائيل في مختلف المجالات وعلى رأسها قطاع المياه.

تواصلت الزيارات المتبادلة بين إسرائيل وإثيوبيا. وفي مطلع 2019 زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مدينة تل أبيب وأكد تعزيز التعاون بين البلدين.

وكشف تقرير نشرته «لؤومنوت العبرية» دعم إسرائيل إثيوبيا في بنائها سد النهضة. كما تضمَّن اعترافًا صريحًا بدور إسرائيل في تصدير تكنولوجيا المعلومات والطاقة إليها. فقد بلغ حجم الاستثمارات الإسرائيلية في إثيوبيا 58 مليون دولار في 187 مشروعًا. وتخطط للاستثمار مستقبلًا بـ 500 مليون دولار في مجال الطاقة الشمسية والرياح. 

وخلال العام 2017، قفزت صادرات إسرائيل الزراعية لإثيوبيا بنسبة 902% والصادرات الصناعية بنسبة 162% مقارنةً بعام 2016. ومع حلول عام 2018 وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليون دولار. 

وفي يوليو 2019 كشف موقع «تيك ديبكا» الاستخباري الإسرائيلي عن سعي تل أبيب إلى تحصين سد النهضة الإثيوبي. وفي حال فشلت المفاوضات، لن تتوانى عن مساعدة أديس أبابا في حماية سدها ضد الهجمات المحتملة.

ففي عام 2019، ووفقًا للموقع، نصبت طواقم من ثلاثة مصانع متخصصة في الصناعات العسكرية والدفاعية والجوية في إسرائيل منظومات دفاعية جوية متطورة من طراز «سبايدر-إم أر» (Spyder-MR) حول سد النهضة الإثيوبي. واستغرق تنفيذ المهمة نحو شهرين ونصف من العمل المتواصل. وتُعد منظومة «سبايدر-إم آر» الدفاعية الجوية المنظومة الوحيدة في العالم القادرة على إطلاق صاروخين من طرازين مختلفين معًا

موقف السودان ومصر

اعترفت السودان بشكل واضح بتدخل إسرائيل في مياه النيل، وذلك في تصريح وكيل أول وزارة الموارد المائية والكهرباء السوداني السابق، المهندس حيدر يوسف. إذ أكَّد في تصريحات صحفية وقوف تل أبيب وراء فكرة سد النهضة. وأشار إلى منح القانون الدولي إسرائيل حقًا في الحصول على مياه نهر النيل حال أنشأت كيانًا اقتصاديًا مع دول المنبع، وهذا ما تسعى إليه. 

كما أشار إلى امتلاك إسرائيل طاقمًا كاملاً في وزارة الموارد المائية والكهرباء في أديس أبابا، فضلًا عن تدريبها خمسمائة مهندس ري إثيوبي في تل أبيب. كما وقَّعت وزارة الكهرباء الإثيوبية اتفاقية مع شركة «تل أبيب» لإدارة كهرباء إثيوبيا.

أمَّا في الجانب المصري، فقد أكَّد وزير الري المصري السابق محمد نصر الدين علاَّم تلاعب إسرائيل بشكل خفي في أزمة سد النهضة بمساندتها لإثيوبيا، وذلك بهدف التضييق على الحقوق المصرية في نهر النيل. وأشار في حواره مع برنامج «مساء القاهرة» إلى استخدام العدو الاستراتيجي جميع أدوات سياسة العصا والجزرة في أزمة سد النهضة. 

فنهر النيل أهم شيء لدى المصريين، وإذا أردت تضييق الخناق عليهم «إقفل الحنفية». وهذا ما تسعى إليه إسرائيل بسلاح المياه.

التعاون بين القاهرة وتل أبيب

كشفت دراسة حديثة أعدها أوفير فينتر لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تحت عنوان «أزمة المياه في أرض النيل…من أزمة إلى فرصة» عن احتمالية تعميق العلاقات بين تل أبيب والقاهرة إثر أزمة سد النهضة. إذ تتوقع أن الأزمة ستفتح مجالاً كبيرًا للتعاون بين مصر وإسرائيل بما يتعلق بالري والزراعة، وذلك لامتلاك إسرائيل خبرة واسعة فيهما. 

قد استعانت تل أبيب سابقًا بخبرتها في إدارة موارد المياه لتحسين علاقاتها مع الأردن، لذا قد تكرر السياسة ذاتها مع مصر. وقال أوفير فينتر أن الأزمة قد تعيد إحياء مبادرة تزويد إسرائيل بمياه النيل مجددًا. Click To Tweet

ودعا الجهات المعنية في تل أبيب إلى البدء في تشكيل لجان مختصة لبحث الأمر وتحقيقه.

وحقيقةً أجد إسرائيل قد حققت أكثر مما كانت تتوقعه في ملف مياه النيل. فقد حاصرت مصر من زاوية صعبة تجبرها على التعاون معها بغية حل الأزمة. فيجدر بمصر في هذه المرحلة تحويل جهة التفاوض من إثيوبيا إلى إسرائيل كونها الدولة المتحكمة في الأزمة منذ البداية.

بالطبع الخيار صعب، لكن سيكون الخيار الوحيد والمتاح متى ما انخفض منسوب مياه النيل في مصر. وحينها لن يكون ثمة حل سوى توصيل المياه عبر سيناء إلى صحراء النقب في إسرائيل، مقابل زيادة منسوب المياه القادمة من إثيوبيا.

قد تُحَل الأزمة، لكن الوضع الأخطر لن يتغير. فطموح إسرائيل لن يتوقف عند الحصول على جزء من مياه النيل. طموحها تحقيق السيطرة الكاملة على المياه العربية. 

إسرائيلالعلاقات السياسيةمصرنهر النيلالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية