وداعًا ميسي وداعًا كرة القدم

أنا مشجعٌ مدريديّ حتى النخاع، وبدلًا من الابتهاج لمغادرة ميسي نادي برشلونة بكيت. فهو كابوس كرة القدم الذي تمنيت ألا ينتهي.

يبدو صباحًا سعيدًا، لم لا وقد انتهى كابوسٌ يؤرقني منذ ثمانية عشر عامًا بالتمام والكمال. أعلن فريق برشلونة أن ميسي لن يجدد تعاقده. لقد حدث ما لم أتوقعه طيلة عمري مع كرة القدم. لكن دعني أوضح لك شيئًا هامًا، ميسي ليس الكابوس.

تعلقتُ بكرة القدم طفلًا بعد أن نثر روماريو سحره اللاتيني في أعين الجماهير. كنت أحد هؤلاء الذين رأوا بيركامب يخرج عصاه السحرية ليتوقف العالم عن الحركة ولا يعود إلا بعد أن يستلم دينيس الكرة. لذا أنا أدرك أن ميسي هو الكمال في كرة القدم. 

ليس ميسي الكابوس يا صديقي. لكن أن يكون ميسي غريمك، فذلك أسوأ كوابيس كرة القدم.

قررت صغيرًا تشجيع ريال مدريد، وتقتضي قواعد تشجيع كرة القدم أن تقلل دومًا من إمكانيات منافسك. لا يبدو هذا ملائمًا مع ما يردده البعض عن نبل غاية كرة القدم، لكن صدقني: ما يجعل قلب كرة القدم نابضًا بالحياة طوال تاريخها هو مغالاة المشجعين في عواطفهم دون تعقل.

استطعت دومًا التقليل من لاعبي برشلونة. صمدتُ أمام سحر رونالدينهو وتكامل وسط إنيستا وتشافي وعبقرية بيب النادرة. لكن يستحيل عليّ نسيان المرة الأولى التي رأيت فيها ميسي.

برشلونة تصنع البطل الخارق

قدَّمت برشلونة ميسي كحلقة جديدة في سلسلة لاعبيها اللاتينيين أمثال روماريو وريفالدو وريكيلمي وروناليدينهو. جاء ظهوره الأول في عامه السادس عشر، وتوقع الجميع أننا بصدد مشاهدة الكثير من المراوغات داخل الملعب مستقبلًا.

لكنني أدركت الحقيقة مبكرًا. هذا اللاعب هو استثناء القاعدة، والقاعدة بسيطة: اللاعب اللاتيني فائقُ القدرة في فنيات اللعبة، لكنه يفتقد العقلية الأوربية التي تتسم بالالتزام والوعي التكتيكي؛ والعكس صحيح مع اللاعب الأوربي.

ما حدث يشبه نظرية تأثير الفراشة، حيث تتحد الظروف دون قصد كي تحدث المعجزة. أنشأ كرويف مدرسة اللاماسيا في برشلونة حيث يؤمن الجميع أن كرة القدم لعبة تُلعب بالعقل قبل القدم. ربما هذا ما جعل وكيل اللاعبين السيد هوراسيو جاجيولي يأتي بميسي صاحب الثلاثة عشر عامًا فقط ليعرضه على فريق برشلونة رغم قصر قامته الملحوظ.

انتهى ميسي من حصة تدريبية أمام أعين مسؤولي برشلونة الذين تخوفوا من قصر قامته. لكن من بين الحضور كان هناك رجلٌ مختلف، السيد كارلوس ريكساش.

يقولون إن ريكساش يمكنه أن يغمض عينيه ويحدد مدى جودة لاعب كرة القدم، فقط من الصوت الذي تصدره الكرة عندما يمررها هذا اللاعب. لذا لم ينخدع ريكساش في قصر قامة ميسي. 

أشار ريكساش للجميع بالصمت. التقط من داخل جيب قميصه منديلاً ورقيًا كان قد حصل عليه من نادل بعد انتهائه من طعامه، وخطَّ عليه العقد الذي ربط ميسي ببرشلونة على مسؤوليته الشخصية.

هكذا بدأت الأسطورة. لاعبٌ لاتيني بمهارات استثنائية يسوقه القدر ليتعلم أصول كرة القدم بعقلية أوربية خالصة. إنه المزيج الذي لن يقهر.

يشبه الأمر أفلام هوليوود، حيث يقرر عالم مجنون صنع بطلٍ خارق فيصيّره خاليًا من كل عيوب الأبطال السابقين. صنعت برشلونة بطلًا خارقًا وحتمًا سنكون الضحايا. اعتقدت أن هذا كفيل كي يجعلني أكره ميسي.

كيف تفعلها بهذه البساطة؟

يذكر الكاتب إدواردو قاليانو أنه خلال إحدى أمسياته القصصية في إسبانيا، ظل رجل في الصف الأخير يحدق فيه دون أن يرف له جفن أو يبدي أية مشاعر. وبعد انتهاء قاليانو من القراءة، اقترب الرجل منه ببطء بنظرة شخص ینوی قتله وقال:‌ لمن الصعب أن تكتب بهذه البساطة. كان هذا  أفضل ثناء تلقاه قاليانو طوال تاريخه. 

أتفهم شعور هذا الرجل. وأراهن بكل ما أملك أنه حاول كره  قاليانو لكنه أبدًا لم يستطع. هكذا كان حالي طوال أعوام مشاهدتي ميسي بقميص المنافس.

هناك نمط سائد للمشجع المهزوم الذي يلعن الحظ واللاعبين والتقصير والتحكيم، لكنني لن أنسى أبدًا كيف ابتسمت جماهير ريال مدريد بعد استطاعة ميسي التلاعب بفريقهم طوال تسعين دقيقة. أما أنا فلم أنطق إلا بجملة وحيدة: لمن الصعب أن تلعب كرة القدم بهذه البساطة.

كيف أصبحت الرياضة هويةً قومية؟

تشهد البطولات الرياضية الأممية تصاعد مشاعر القومية. ويبين لنا التاريخ مدى الجذور العميقة لارتباط الرياضة بالهوية الوطنية.

15 يوليو، 2021

يستحيل عليك أن تكره هذا الرجل، لكنه يتركك تعاني من كابوس دائم. فأنا  لم أحظ بفرصة تشجيع ميسي قط. وظللت لأعوام أشعر بوخز الضمير كلما أشاهد ميسي يفعل كل ما يمكن للاعب كرة القدم أن يفعل رفقة الكرة، فألمح شبح ابتسامة إعجاب ترتسم على شفاهي.

وداعيَّة ميسي بعيون ريال مدريد

هل أدركتَ الآن ما هو كابوسي الخاص؟ أنا مشجع كلاسيكي لكرة القدم، أشجع فريقي وأغضب لهزيمته، فكيف لي أن أبتسم من فرط حلاوة نصر غريمي؟ ثم أعلن ميسي في مؤتمرٍ صحفي الرحيل رسميًا عن برشلونة. 

بكي ميسي وهو يودع برشلونة، فلماذا أبكي أنا الآن؟ أبدو كشخص يعاني من متلازمة ستوكهولم، أصر على التعاطف مع غريمي رغم تخلصي منه . لكني في قرارة نفسي أعرف سببًا وجيهًا لدموعي تلك.

فقد انتهى كل شيء.

انتهى عصرٌ مميزٌ من كرة القدم ، ورحيل ميسي بلا شك كان نهاية هذا العصر. كان ميسي عنوان كرة القدم التي عاشها جيلي دون غيره. كرة قدم شديدة التعقيد والتداخل. كرة قدم تحكَّم بها المال شيئًا فشيئًا حتى أصبح الأمر وحشيًا للغاية. Click To Tweet

تحدث البعض أن رحيل ميسي يرجع لأن رواتب برشلونة تفوق عوائده. ويؤكد البعض الآخر أن الرحيل ما هو إلا ضغطٌ من بيريز ولابورتا مجتمعيْن لتحقيق ما يسمى بالسوبر ليق. أنا لا أهتم بكل هذا، لكنني أعرف أن ميسي جزء من برشلونة وبرشلونة جزء هام من كرة القدم التي أعرفها.

يؤمن البعض أن الريال وبرشلونة احتلا قمة الهرم الكروي لسنوات بسبب ما يمتلكانه من أموال، فلماذا نستنكر أن تمتلك فرقًا أخرى أموالًا تمكنها من صناعة تاريخ جديد لكرة القدم؟ حسنٌ، فلتصنعوا تاريخكم الخاص، لكنني أعرف جيدًا أن كرة القدم التي أعرفها قد انتهت.

عقد متحف برشلونة اتفاقًا يقتضي بحصول المتحف الخاص بالفريق على المنديل الذي كُتبَ عليه عقد ميسي الأول في حالة اعتزاله أو مغادرة النادي. أما المنديل الذي بكي فيه ميسي خلال مؤتمر وداعه فقد عُرض في مزاد علني.

لو كنت أملك أموالًا لكنت اشتريت هذا المنديل ووضعته في متحف ريال مدريد، ليبقى ميسي جزءًا من تاريخ مدريد وإن استنكر البعض. لكنني لا أمتلك المال كما هو واضح، فقط أمتلك شغفًا بكرة القدم. شغفًا يمنعني من مشاهدة ميسي بقميص غير برشلونة.

الجماهيريةالرياضةكرة القدمالثقافة
مقالات حرةمقالات حرة