هل نحتاج التأنيث في خطاب تويتر؟
بشَّرت تويتر المغردات العربيّات بإضافة خاصيّة التحدُّث بالمؤنث سعيًا نحو مخاطبة المرأة خارج تعميم المذكر، لتثير من جديد جدليّة تأنيث اللغة.
ما إن فتحتُ تطبيق تويتر صباح الخامس عشر من يونيو حتى ظهرت لي رسالة أعلى الشاشة تُشعرني بأنه يمكن الآن اختيار إعداد «العربية (مؤنث)» في التصفُّح. وإن اخترتها ستظهر لي واجهتها بصيغة المؤنث، مثل «غرّدي» بدلًا من «غرّد»، و«يتابعكِ» بكاف المخاطبة المكسورة.
لم أعطِ التحديث كثيرًا من انتباهي إلى أن رأيته متداولًا ذاك المساء بالوسمين #أتحدث_بالمؤنث و#FeminineArabic. ويرافقهما مقطعٌ مشوّق يعرض تغريدات لنساء يطالبن بوجود لغة تخاطبهن بضمائرهن الصحيحة. وكما تعوّدنا في تويتر، سرعان ما بدأ مثار الآراء المختلفة يظلل الأجواء.
من المغردين من استغل التحديث كفرصة تسويقية وأضاف للموجة صوته، مثل سامسونق السعودية و«إس تي سي باي». ومنهم من غرّد محتفلًا يسلّط الضوء على ما حدث وراء الكواليس، ومنهم من أظهر دعمه وإعجابه.
تويتر نحو لغة شاملة
رغم كل هذه الحملة الضخمة، لا تعد تويتر أولى المبادرين بإطلاق واجهة خاصة تخاطِب الإناث. فشركة أرامكس أطلقت تحديثًا مشابهًا لموقعها الإلكتروني بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. لكن تدشين مثل هذه الحملة أمرٌ متوقّع، فمذ فترة وتويتر تعمل على استخدام لغة أكثر احتواءً للجميع.
ففي يناير عام 2020، بدأت شركة تويتر بمراجعة المصطلحات الإنقليزية المستخدمة داخل الشركة سعیًا نحو لغة أكثر شاملة. فاستُبعدت مثلًا كلمات ذات دلالة عنصرية مثل «blacklist» أي القائمة السوداء، واستبدلت بمصطلحات أكثر محايدة، مثل «denylist» أي قائمة الرفض.
ويأتي تدشين «العربية (مؤنث)» توسعًا في تحقيق هذا الهدف، لكن بالتطبيق على واجهة المستخدمين. ويدل على ذلك استهلال تغريدة حساب «نساء تويتر» (Twitter Women) الرسميّ الإعلان عن خبر التأنيث بـ«اللغة الشاملة تهمنا» (inclusive language matters).
وفقًا لتويتر فالتغيرات مستمرة نحو تضمين التنوع في اللغات المستخدمة بالمنصة. لكن حتى الآن، وبعد مرور شهرين، لم تطلق تويتر تحديثًا لغويًّا كما فعلت مع اللغة العربية، رغم وجود لغات أخرى تمتاز بالتذكير والتأنيث.
شعوري كمغردة #أتحدث_بالمؤنث
لدى إطلاق تويتر حملتها #أتحدث_بالمؤنث تصاعدت الأصوات حول مسألة تأنيث الخطاب. بعض التغريدات رأت في الحملة حلَّا غربيًّا لمشكلة عربية غير موجودة. وظهرت مقابلها تغريدات تشتكي من تأخر تويتر أصلًا في إطلاق لغة العرض الجديدة. وظهرت أخرى توضّح أن اللغة العربية بوضعها المعتاد تستخدم ضمير المذكّر لمخاطبة المجهول، وذلك لا يجعلها أقلَّ دعمًا للإناث.
برأيي تحديث تويتر بحد ذاته ليس بشيء سلبي. فاستجابة الشركة لاستياء بعض النساء يدل على إصغاء منصات التواصل الاجتماعي لمطالبات الجماهير. وأصلًا ليس بالأمر المستحيل إضافة ضمائر تخاطب النساء بالمؤنث كما ينبغي. ولم تأت تويتر بجديد في مخاطبة المغردات الإناث، فاللغة العربية غنية بضمائر مختلفة تخاطب كلا الجنسين. لماذا إذن يظل الشعور يراودني بأن الموضوع أكبر من قضية المرأة العربية؟
في الواقع، يتجاوز إطلاق «العربية (مؤنث)» كونه مجرّد خبر متداول أو «ترند». فطريقة تقديم تويتر للفكرة، مع دعم شركات كُبرى مثل مايكروسوفت، زرعت فيّ بذور الشك. إذ تدَّعي تغريدة عملاقة التقنية أن تويتر «تؤنّث العربية»، وكأن العربية كانت بحاجة إلى من يُسقط عليها ضمائر إضافية تناسب الإناث.
في حين قالت سامسونق السعودية إن «نون النسوة، حلم وتحقق»، رغم أن لغة العرض الجديدة تُخاطب الأنثى المفردة لا جماعة من النساء. فالواجهة تستخدم كلمات مثل «غرّدي» و«تريدين» و«تابِعي»، ولا نون نسوة بالموضوع. كما لم أرَ حلمًا تحقق ما دامت لغة العرض الجديدة تتوفر فقط بنسخة تويتر للمتصفحات (الويب) دون تطبيق تويتر للجوّالات.
لا أُنكر أن إطلاق «العربية (مؤنث)» إنجاز تقني لم تُبادر به أي منصة تواصل اجتماعي أخرى. ورغم تحفظاتي، یساورنی شعورٌ لطیفٌ في نفسي وأنا أتصفّح بواجهة تخاطبني بصيغة المؤنّث.
قد تكون مبادرة تويتر بإطلاق «العربية (مؤنث)» فاتحة خير لبقية المنصات لتحذو حذوها. لكن ذلك لا ينفي إحساسي بأن في الأمر مبالغة تسويقية تخص صورة تويتر وغيرها من الشركات عالميًّا على حساب المرأة العربية. Click To Tweet
جدلية التعميم في صيغة المذكَّر
من النقاشات التي أثارها إطلاق الحملة الحديث حول قواعد اللغة العربية. فقد تعلَّمنا أنَّ ضمائر المذكّر باللغة العربية للتعميم وتشمل كلا المذكّر والمؤنّث، وأما ضمائر المؤنث للتخصيص ولا تشمل إلا المؤنّث.
الأصل في الخطاب العربي اتّباع الخطاب القرآني. فالقرآن خاطب الذكر والأنثى بخطاب واحد دون التمييز بينهما، وذلك في الخطاب العام الموجّه إلى كليهما. ففي قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا»، يشير الخطاب إلى الرجال والنساء على حد سواء، دون تخصيص النساء منفصلًا.
لا يعني هذا أن الخطاب القرآني لا يوجّه خطابه للنساء. فالخطاب الموجه يأتي إما للتأكيد كقوله في سورة الأحزاب: «إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات»، أو للتخصيص مثل «واذكرن ما يُتلى في بيوتكنّ».
قد تبدو القاعدة اللغوية قاطعة، لكن في الحقيقة لا يجمع العلماء واللغويون على أن واو الجماعة وجمع المذكّر السالم يشملان كلا الذكور والإناث في كل الحالات.
وما نلحظه منتشرًا في لغتنا العربية المستخدمة اليوم يعود إلى عادات العرب العتيقة في تغليب الذكور على الإناث بالخطاب حين اجتماعهم. لكن في ظل تغيرات اجتماعية راهنة، أهمها دخول المرأة بيئة العمل وشغلها المناصب ومراعاة الصوابية (political correctness) وعدم التمييز بين الجنسين، فمن المتوقّع تغيُّر أساليب الخطاب.
أوضح إشكاليات أساليب الخطاب مسألة تأنيث مناصب المرأة باللغة العربية والتي لم تنجُ من الجدل. إذ دومًا ما نسمع تباين جهات العمل في التذكير والتأنيث لدى الإشارة إلى امرأة تشغل منصبًا: هل فلانة وزير أم وزيرة؟ مدير أم مديرة؟
يرى الفرَّاء أنها مسميات تَغْلب في الرجال دون النساء، كما في قولنا: «أميرنا امرأة» و«فلانة وكيل فلان». وهذا ما ذهب إليه غيره أيضًا كابن الأنباري. في حين قرر مجمع اللغة العربية أنه «لا يجوز في ألقاب المناصب والأعمال – اسمًا كان أو صفةً – أن يوصف المؤنث بالمذكر. فلا يقال: فلانة أستاذ أو عضو أو رئيس أو مدير».
فإن كان علماء اللغة العربية لم يجتمعوا على قرار واحد، فكيف لشخص عادي غير متخصص في المسائل اللغوية أن يقرر؟
محاولات تحييد الخطاب العربي
ظهرت محاولات تسعى إلى خطابٍ عربي محايد يقلل التمييز الجندري بين الجنسين، منها اقتراح الأمم المتحدة مبادئ لتواصل أشمل جنسانيًا. ويتضمن الاقتراح تأنيث المناصب وذكر صيغتي الجمع للمذكّر والمؤنّث مع تقديم المؤنّث، مثل «موظفات وموظفو الشركة».
كما شاع استخدام البعض حلًّا لغويًّا آخر يكمن في الاستفادة من صيغة المبنيّ لما لم يُسمَّ فاعله (المبني للمجهول). فبدلًا من القول «زوروا موقعنا»، يمكن القول «يُرجى زيارة موقعنا».
كما ظهرت محاولات تركيب صيغ التذكير والتأنيث متصلةً في المناصب والأفعال، كقولهم «مدير/ة» و«ترغب/ ـين». إلا أن هذا الأسلوب غير مستساغ ويُحدث ركاكةً في سلاسة النص العربي. وهناك من ذهب إلى حد أبعد، وجمع بين لواحق تمييز الجنس، مقترحًا كتابة «لكم/لكن (لكمن)، الكاتبون/الكاتبات (الكاتبوت)». وهي محاولة لا تنسجم نهائيًّا مع جمالية الخطاب العربي وقواعده.
في الواقع، تصعب الموازنة بين خطاب عربي منسجم مع جذوره الدينية والثقافية ولغة محايدة للجنسين. فاللغة العربية بطبيعتها تؤنّث وتذكّر كل شيء، من الطاولة إلى المدير إلى الريح. وتخلو من الخطاب المحايد الموجود بلغات أخرى كالإنقليزية، التي لا تميّز بين الجنسين في الكثير من الأحيان.
فكلمات مثل «teacher» أو «user» تخلو من علامات التذكير والتأنيث، وبذا هي محايدة. أما في اللغة العربية، فاللفظ المحايد هو المذكّر نفسه، الخالي من علامات تأنيث.
ما يعني أنَّ اللغة الشاملة بالمعنى التويتري في الخطاب العربي لا تعني الخلو من علامات التذكير والتأنيث كالإنقليزية، بل اعتماد الإشارة اللغوية التمييزية. ويتحقق ذلك باستخدام الخطاب المذّكر مع الرجل، والخطاب المؤنّث مع المرأة المُلحَق بعلامات كالياء والتاء.
لذا قد يتمثل مستقبل الخطاب العربي الإلكتروني بعد تحديثات أرامكس وتويتر في التخصيص باختيار لغة العرض. فيحدد المستخدم الذكر لغة عرض تخاطبه بضمائر المذكّر، والمستخدمة الأنثى بضمائر التأنيث.
نحو لغة عربية متجدّدة
تفرض علينا التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ضرورة مراجعةَ الخطاب العربي. ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في أصول اللغة العربية وتاريخها، واختيار أسلوبٍ يعول إلى دليل لغوي، ويطوّع استخدامات اللغة وفق ظروف اليوم.
وقتَ أطلقت تويتر خاصية «العربية (مؤنث)»، رأيتها استجابةً لوجهة نظر غربية ترى اللغة العربية ذكورية، وأن المرأة العربية مضطهدة بحاجة إلى إنقاذ. حملة تستورد حلولًا لمشاكل لا أصل لها بالبيئة العربية، وتفرض على البيئة نفسها معتقدات عن الصوابية لا تنسجم مع ثقافتها.
القضية بين فخ الاستيراد والخصوصية المجتمعية
ولا أزال على موقفي أن النظر إلى اللغة العربية من خلال عدسات الغرب أمر خاطئ وخطير. لكنني أدركتُ أيضًا أنه لا يمكن لأية لغة أن تسير على وتيرة واحدة للأبد دون أي تغيير. فقد ظهرت في العصر الإسلامي ألفاظ وتراكيب لم تكن لها وجود في العصر الجاهلي، وتولَّدت في العصور التالية ما لم يكن مستعملًا قبلها.
فاللغة كائنٌ حيّ يتجدد وينمو مع العصور، واللغة العربية بثرائها اللفظي والنحويّ أكثر من قادرة على مواكبة عصرنا. لذا حتى إن لم يرَ بعضنا حاجة إلى تأنيث تويتر خطابها العربي، فنحن يقينًا في حاجة إلى تطوير لغتنا.