ثلاثة نمور حزينة، إنفانتي وانفجار اللغة

في انفجار لغوي، تثور «ثلاثة نمور حزينة» للروائي إنفانتي على الموروث الأدبي. وتري القارئ في نزهة طويلة كيف للحياة أن تكون مجرد مزحة.

شكلت رواية ثلاثة نمور حزينة للكوبي قيرمو كابريرا إنفانتي ثورة رافقت الثورة الكوبية في ستينيات القرن الماضي. ثورة ثقافية وثورة في الكتابة الأدبية تمردت ببنيتها وأسلوبها على السائد آنذاك. فمع بداية الستينيات، شارك إنفانتي برفقة العديد من كتاب أميركا اللاتينية في تغيير جذري للأدب، سواء كانوا ممن فضل البقاء في القارة أم ممن رحلوا عنها إلى المنفى طوعًا أو قسرًا.

عمد هؤلاء إلى هدم القواعد التي ورثوها عن الآباء المؤسسين أمثال أستورياس وكاربنتييه. فالرواية المكتوبة باللغة الإسبانية، كما يقول كارلوس فوينتس، محكومة بمواجهة ديالكتيكية مستمرة من خلال الكلمة: بين التغيير والبنية، بين التجديد والتقليد، بين الحدث والخطاب، بين رؤية العدالة ورؤية المأساة. 

جعل هذا التراكم المستمر للخبرات من أدب أميركا اللاتينية أدبًا ديناميكيًّا. وهكذا توفر لجيل إنفانتي تجارب متعددة حول الأسلوب واللغة التي بقيت الهم الشاغل للفن التعبيري. تراكم أدى بالصدفة -في مثلث جمع بين القارتين الأميركيتين وأوربا- إلى حدوث الانفجار الكبير الذي طبع هذا الجيل وعرف به: جيل «البوووم».

وقد استفاد هذا الجيل من السياق السياسي والثقافي السائد نهاية الخمسينيات حيث شملت الحرب الباردة كل المستويات، وقامت عدة حركات ثورية على رأسها ثورة كوبا. كما استفاد من المشكلات التي عانت منها دور النشر الإسبانية زمن فرانكو. إذ كان من الأسهل بالنسبة لهذه الدور استقطاب كُتَّاب من أميركا اللاتينية عوض النشر لكاتب إسباني. 

كذلك كانت أوربا، فرنسا تحديدًا، تعاني من فقر أدبي عوضته باحتضان كتاب جدد كوجوه تُلمِّع بها المجال الثقافي والسياسي. وعبَّر يوسا بقسوة عن هذا الاحتضان: «إن الأدب الأوربي يجتاز أزمة تفاهة مخيفة وهذا ما حبذ انتشار الكتاب الأميركيين اللاتين في أوربا.»

النمر القادم من الضاحية

ولد قيرمو كابريرا إنفانتي عام 1929 في بلدة صغيرة شمال شرق ولاية أورينتي السابقة لأبوين شيوعيين. ودفعت المعاناة السياسية بعد سجن الأب بالإضافة لضعف الإمكانات في البلدة الصغيرة بقيرمو وأسرته إلى الهجرة نحو هافانا. وهناك اتجه للكتابة الصحفية والأدبية بعد تخليه عن كلية الطب. 

وقد أبدى إنفانتي منذ نعومة أظافره ولعًا بالسينما وترأس العديد من المؤسسات السينمائية في بلده، وكتب مقالات نقدية عديدة. وسيكون أول أميركي-لاتيني تصل نصوصه كسيناريو إلى هوليوود.

سنة 1952 وتحت نظام باتيستا، سجن إنفانتي بسبب قصة تضمنت ما اعتبرته السلطة «تجديفًا إنقليزيًّا». فقد عارض إنفانتي نظام باتيستا الدكتاتوري، وكتب في أواخر الخمسينيات مجموعة قصصية «في السلم كما في الحرب» أبرز من خلالها ما كانت تعيشه كوبا اجتماعيًّا. كما أشار للعنف القمعي الذي واجه به باتيستا معارضيه.

لم تكن القصص تمجيدًا للثورة القادمة من جبال سييرا مايسترا، لكن إنفانتي لم يخف تعاطفه وتشجيعه لكاسترو ورجاله.

بعد نجاح الثورة سنة 1959، التحق إنفانتي بمجلة «إثنين الثورة»، إحدى الأصوات الإعلامية للنظام الجديد، ثم أصبح مديرًا لها. وعلى صفحاتها ستبدأ أولى خلافاته مع نظام كاسترو والتي ستشكل أولى خطوات رواية ثلاثة نمور حزينة. ففي سنة 1960 أخرج سابا إنفانتي -أخ قييرمو- فلمًا قصيرًا بعنوان «P.M» يصور الحياة الليلية الصاخبة لهافانا بنواديها وكباريهاتها الكبرى.

مُنع الفلم مما أزعج إنفانتي ودفعه لتنظيم حملة صحفية ضد الرقابة. إذ لم يقبل إنفانتي سطوة المؤسسات العسكرية على الحياة الثقافية والتي غالبًا ما تحمل قراراتها طابعًا شخصيًّا. وكانت النتيجة إغلاق صحيفة «إثنين الثورة».

هنا بدأ إنفانتي كتابة الرواية عن هافانا قبل الثورة، وتزامن ذلك مع وفاة مطربته المفضلة، مطربة كوبا الأولى فريدي قارسيا. فجمع بين الأمرين وبدأت تتشكل أهم أجزاء الرواية «كانت تغني البوليرو».

ثلاثة نمور محاصرة

نُقل إنفانتي سنة 1962 كملحق ثقافي إلى بلجيكا وهناك أكمل النسخة الأولى من الرواية بعنوان «الفجر الموعود لليل استوائي». نشرت الرواية في إسبانيا سنة 1964 ونالت جائزة «ببليوتيكا بريف» (Biblioteca De Breve).

لم تقنع النبرة الواقعية والاشتراكية التي طغت على الرواية إنفانتي، إذ وجد فيها نقدًا لاذعًا لأبطاله الليليين. فأعاد كتابتها ما بين عامي 1965 و1966. وكان المنع الذي طالها في إسبانيا من نظام فرانكو حجة للناشر حتى يطلب تغيير عنوانها وإعادة صياغتها من جديد.

كان الأمر حجة أيضًا ساعدت إنفانتي على الخروج من كوبا وقد بدأت أنظار النظام تحاصره كمعارض لكاسترو. كان خروجًا بلا عودة من مدينة عشقها، فكما كان يردد دائمًا: الخروج من بلد ليس كالخروج من حزب سياسي. 

رحل إنفانتي إلى إسبانيا طالبًا اللجوء، كما جرب حظه في فرنسا المحتضنة لأغلب رفاقه في البوووم. لكن باريس الستينيات رأت في أفكاره السياسية سببًا لرفض طلبه، فانتقل بعدها إلى لندن حيث مكث حتى وفاته سنة 2005.

وهكذا يكون للرواية نسختان: نسخة أولى نادرة والنسخة التي بين أيدينا حاليًا. كما كان لها عناوين تغيرت بتغير ظروف مؤلفها: من «كانت تغني البوليرو» إلى «الفجر الموعود لليل استوائي» إلى «ثلاثة نمور محاصرة». 

وقد احتفظت الترجمة الفرنسية بـ«ثلاثة نمور حزينة» (Trois Tristes Tigres) لاحتواء اللغتين على مفردة «حزين» (triste) ذاتها. في حين غياب الكلمة عن اللغة الإنقليزية دفع إلى اختيار عنوان «ثلاثة نمور محاصرة» (Three Trapped Tigers)، ليفي العنوان بقصد الكاتب ويحافظ أيضًا على ثلاثية حرف الـ«T».

لم تنشر الرواية في كوبا، وكان يحز في نفس إنفانتي إقصاء اسمه بشكل ممنهج من تاريخ الأدب الكوبي. لكن الرواية هُرِّبت كما تهرب المخدرات وتداولها القراء سرًا، بل اعتبرها البعض استثمارًا. وتحكي زوي فالديس الكاتبة الكوبية كيف استعارت الرواية من مالكها مقابل ثلاث علب من الحليب المجفف.

هذه ليست رواية، إنها مزحة!

عمد كتاب جيل البوووم أمثال كورتازار وإنفانتي إلى التواصل مع القارئ، بل وإرغامه على الانخراط بالعمل. وشجعوه على نسيان الكسل الذي عهده مع الحقبة السابقة التي تقدم الأدب للقارئ كرسائل جاهزة. لهذا فالرواية كجنس أدبي تَعْرُض لصدمات كثيرة مع التجريب الذي مارسه هذا الجيل.

ويؤكد إنفانتي فيما يخص ثلاثة نمور حزينة: «أن تصنيف العمل كرواية هو من فعل الناشرين. أنا لا أشعر بالارتياح حين أتعامل مع هذا النوع من الكتب على أنها روايات.» 

وبهذا تكون ثلاثة نمور حزينة أشبه بما يعرف في الأدب برواية «ضد الرواية». وهنا ينصح إنفانتي القارئ بأن يأخذ العمل على أنه مزحة، كأفضل حل لتفادي ثقل الكتاب.

المزحة تبدأ من العنوان المضحك الذي يختصر بكل جدية ممكنة نظرة إنفانتي للأدب. فالعنوان مستوحى من تعبير لغوي شائع للعبة تحدي النطق، ويختصر الجملة الإسبانية:

 (.Tres tristes tigres tragaban trigo en un trigal) 

«ثلاث نمور حزينة تلتهم قمحًا في حقل قمح.»

اختيار إنفانتي لهذا العنوان ليس سوى محاولة لتحضير القارئ لعمل تتخذ فيه الألاعيب اللغوية مكانة حصرية.

مع غرابة العنوان فالثلاثة نمور هي نمور موجودة بالفعل داخل العمل. إذ دأبت اللغة المحلية على مناداة الرجال بالنمور كنوع من نعوت الفحولة. وعلى غرار فرسان دوما الثلاثة الذين كانوا في الحقيقة أربعة، فنمورنا كذلك كانوا أربعة خامسهم العراب. يبدأ السرد بوفاة العراب لكننا نستشعر وجوده: «بوستروفيدون للجميع والجميع لبوستروفيدون»، في إحالة واضحة من إنفانتي للفرنسي ألكسندر دوما.

وهذا الوجود والتفاعل بين الأربعة والعراب سرُّ العمل وجوهره. وقبل أن ينزعج مني القارئ الحصيف ويلومني على حرق بسيط كهذا، أؤكد أن القصة غير ضرورية بتاتًا في هذا العمل. 

لا يعدو الأمر كونه رحلة ليلية بهافانا أو حفلة يدعونا لها الكاتب مع أولى الصفحات ومع الكثير من الكرنفالية: «سيداتي سادتي…تروبيكانا…يقدم استعراضه الجديد.» هذه الاحتفالية الصاخبة سنحضرها بمعية النمور وهم يتجولون بفضاءات هافانا، تجمعهم لقاءات ويصطادون و يتحدثون، حيث فعل الحديث واللغة العمدة في هذا العمل.

ثلاثة نمور حزينة من هافانا لدبلن

يستهل إنفانتي العمل بمفاتيح أساسية على القارئ أن يستغلها ليقترب منه أكثر. وأول المفاتيح العنوان الذي يفقد رمزيته مع الترجمة العربية. ثم تأتي أهم هذه المفاتيح بتحذير واضح وصريح للقارئ بأن العمل مكتوب باللغة الكوبية وليس الإسبانية. التحذير بتفاصيله سيوضح بشكل جلي أن اللعبة الأساسية في هذا العمل لغوية ومسألة هوية. 

ويحضرني هنا مواجهة بين فرقاس يوسا البيروفي وإنفانتي حول هوية الكاتب اللاتيني. إذ رفض إنفانتي هذه الهوية التي رمتها أميركا الشمالية على دول أميركا الجنوبية كنوع من التكفير عن استيلائها على كلمة أميركا. فيؤكد إنفانتي ليوسا وللعالم أنه كاتب كوبي فقط ولا وجود لأميركا لاتينية يُنسَب إليها.

تحذير إنفانتي ذكرني بجيمس جويس حين أكد بدوره أن كتاباته ليست باللغة الإنقليزية. ولم يكن هذا التقاطع الوحيد بين جيمس جويس وإنفانتي. فمتى أتممت العمل اتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن ثلاثة نمور حزينة ليست سوى صدى تأخر ارتداده أربعين سنة من هافانا لدبلن.

يوليسيس بطلٌ بألف وجهٍ أدبيّ

تحكي «يوليسيس» جيمس جويس عن مسار ستيفن ديدالوس الشبيه بنظيره تيليماخ في الأوديسا. فكلاهما يبحثان عن أب ينتمي إليه ويحدد هويته

4 مايو، 2021

ولم يكن جيمس جويس الوحيد الذي يظهر تأثيره في هذا العمل، فثلاثة نمور حزينة تفيض بالتناص من كل حدب و صوب. إذ عمد إنفانتي بإشارات واضحة أو متوارية أن يشير إلى أسماء عديدة أثرت به وأغلبها أسماء أنقلوسكسونية، كشكسبير ووايلد ومارك توين وهمنقواي. وسنرى تأثير همنقواي الأكبر في عمله السابق «في السلم كما في الحرب».

ويأتي على رأس التأثيرات جميعها الكاتب لويس كارول. وأهمية تأثير لويس كارول ألخصها فيما ذكره إنفانتي في أحد حواراته: «التكريم في ثلاثة نمور حزينة أخصه لتشارلز لودويق دودنسن قلي (الاسم الحقيقي للويس كارول). فرجل الدين المتواضع هذا استطاع لوحده إرساء قواعد مجمل أدب القرن العشرين، وليس فقط ما يتعلق باللغة ومنطق الكلمات.»

هذا التأثير يتمثل في خلق لغة كما وصفها إنفانتي باللغة المشتركة بين حفدة لويس كارول وعلى رأسهم جيمس جويس ونابوكوف وغيرهم. لكنها أيضًا لغة تتميز بلكناتها المختلفة، وهذا ما يصنع لكل كاتب عالمه الخاص.

القبض على الصوت الإنساني الهارب 

يحاول إنفانتي من خلال ثلاثة نمور حزينة حصر العامية الكوبية بمختلف لكناتها والتي تغلب عليها اللكنة الهافانية. فينقل «الرطانة» (Jargon) لحياة المدينة الليلية والسينما والموسيقى مع تأثيرات اللغات الأجنبية على رأسها الإنقليزية. كل هذا في لغة واحدة تقلد الحياة الهافانية بل وتستنسخها. 

فلغة إنفانتي وإن كانت لا تصلنا تمامًا بفعل الترجمة، إلا أنها تصلنا كشعور وكحالة نستنبطها من الكلمات والعبارات وأسلوب إنفانتي السردي. فلا نميز بين اللغة المحكية واللغة المكتوبة، كما لا نميز بين اللغة الشعبية واللغة الأدبية. ثلاثة نمور حزينة هي مطحنة لغوية تمردت فيها الكلمات وانطلقت في مونولوج طويل من الهذيان.

ويضع تحذير إنفانتي السابق أيضًا الكاتب ثم القارئ في إشكالية اللغة ما بين المكتوب والشفاهي. فعلى غرار يوليسيس جيمس جويس، تحاول ثلاثة نمور حزينة القبض على الصوت الهارب، الصوت الذي لا يميز فيه إنفانتي بين صوت الكاتب وصوت سائق سيارة أجرة.

يحاول إنفانتي أن يجعل من الصوت المسموع صورةً تقرأ، حتى لو بدت هذه الصورة مضحكة أو مشوشة.

فالرواية قبل أن تكون رواية مقروءة هي رواية بصرية بامتياز تلعب فيها المرايا والتشكلات اللفظية والرسومات تحديًّا للقارئ. فيجد القارئ نفسه أمام لغة خلقها الكاتب أشبه بلغة الميتا (meta language): لغة تمثل الشفهي بإعادة بنائه أو بمحاكاته. 

اعتماد إنفانتي، كما جيمس جويس، على هذه اللغة المتفردة لم يكن بريئًا بل مقصودًا؛  لأغراض سياسية وأدبية. ابتكارهما هذه اللغة ساعدهما على قول كل ما سكت عنه التاريخ. إذ حين يخلق كلٌّ من جويس وإنفانتي لغته الخاصة فكلاهما يعاقبان اللغتين الفاتحتين بإدخال كل الكلمات التي تجددت ضمنهما، وكل ما تأثرت به وأثرت فيه.

فأدب جويس كإنفانتي أدبٌ ثوري يرفض المعجم الذي يريده النظام القائم، وتشكِّل فيه اللغة معارضة حتمية لما هو مؤسَّس. هكذا نرى اللغة تأخذ صور التجديد والفوضى والهزل والغموض وكثرة التوريات والتلميحات. 

مذبحة الأساليب على يد إنفانتي 

بخلقه لهذه اللغة استهدف إنفانتي تدمير الأدب بخلق أدب مبتكر بعيد عن التبجح والعظمة، وقائم على لغة سلسلة واقعية تبتعد عن الفلكلور. ومن أوضح التقاطعات التي وجدتها بين يوليسيس جيمس جويس وثلاثة نمور حزينة، المرتبطة تحديدًا بفكرة تدمير الأدب، هي المحاكاة الساخرة التي ابتدعها جيمس جويس في الحلقة الرابعة عشر من يوليسيس «ثيران الشمس».

ففي هذه الحلقة وجه جيمس جويس انتقادًا لاذعًا لأساليب الأدب الغربي ودعا إلى تحديثه. وهي حداثة تتطلب مخاضًا طويلًا سينتهي حتمًا حسب وجهة نظر جويس إلى خلق أدب وليد يحتمل كل المغامرات الممكنة. وأولى هذه المغامرات هدم القديم والانفتاح على الجديد.

بدوره عمل إنفانتي على محاكاة للأدب الكوبي في الفصل المعنون بـ«موت تروتسكي بعيون عدد من الكتاب الكوبيين». وكان الأمر أشبه بوصف ت. إس. إليوت أسلوب جويس بـ«مذبحة الأساليب». إذ عمد إنفانتي إلى محاكاة أساليب ستة كتاب وكاتبة ينتمون لأدب القرنين التاسع عشر والعشرين. ليؤسس بقتله لآبائه وأمه أدبًا جديدًا يخصه وحده.

ولعله فعل ما هو أبعد من ذلك، وقدم محاكاة ساخرة لكتاب أثروا به ومن ضمنهم لويس كارول وجويس وهيمنقواي. وحتى نفهم ما يريده إنفانتي بهذا الاغتيال نعود لما حكاه في إحدى مقابلاته عن بداياته. إذ يخبرنا أن الكتابة بدأت كتحدي مع صديق قرأ بمعيته رواية «السيد الرئيس» للكاتب القواتيمالي أستورياس، فقال لصديقه: «إن كان هذا هو الأدب فأنا أستطيع أن أكتب مثله.» 

فالكتابة بدأت بالنسبة إليه كمحاكاة أظهرت أمنيته في قطع المشيمة مع الماضي، وبقيت سبيله الوحيد للكتابة الأدبية. فالمحاكاة لدى إنفانتي تتشكل من خلال دورة تبدأ أولى مراحلها بالتأمل الجاد للعمل الأدبي ثم تمجيده بما يليق وأخيرًا باغتيال هذا التمجيد. فإنفانتي يرى الأدب قائمًا بفضل هذه الدورة ومنذ الإغريق. فهؤلاء ابتدعوا التراجيديا ثم ظهرت كوميديا أريستوفان، وهذه الأخيرة ليست سوى محاكاة.

هافانا الخمسينات

قبل أن يقرر إنفانتي البقاء في المنفى زار كوبا ليحضر جنازة والدته فهاله ما صادفه من تغييرات مست مدينته الأثيرة هافانا. تغييرات عبرت عنها وجوه الناس وتصرفاتهم، فحاول من خلال ثلاثة نمور حزينة استحضار مدينة هافانا كما تركها. هذا التوثيق النابع من الحنين والقليل من الغضب يجعل من المدينة شخصية من الشخصيات الرئيسة في الرواية.

الكتابة حول هافانا الخمسينيات وإعادة إحيائها كانت فعل معارضة ضد نظام كاسترو من جهة، ومقاومة للنسيان الذي يفرضه هذا النظام من جهة أخرى. فالكاتب بإعادة إحياء المكان واستحضاره من خلال شخصياته يقاوم الزمن ويقاوم تدمير ذاكرة مدينة. وينقل إلينا نحن القراء الأجانب، وبعيدًا عن أي محلية ممكنة، تصويرًا مفصلًا للمدينة ببناياتها وطرقها و نواديها الليلة وباراتها. 

وهكذا يصبح تصوير المكان مجالًا غنيًّا لدراسة مختلف التفاعلات الاجتماعية والإثنية التي تدور في فلكه. ومن خلال هذه التفاعلات نستطيع رؤية وجه الكوبي وشخصيته من خلال ذاتيته أولًا، ثم خلال «الآخر» الأجنبي الذي يزور هذه المدينة.

فمن خلال هذا التوثيق:

يصيِّر إنفانتي هافانا مدينة كوسمبوليتية كتلك المدن االتي تختلف حولها الآراء وتتناقض أحيانًا. فهي المدينة الجنة والجحيم، المدينة الواقع والمخيال، المدينة الضائعة والمتوحشة. Click To Tweet

ولكي يكون لهذه المدينة وجهًا يتماهى ووجوه النمور وباقي الشخصيات، عمد إنفانتي إلى تقليص الوصف لأبعد حد. فتغيب الموضوعية وتحل محلها ذاتية الشخوص في مدى ارتباطهم ورؤيتهم لمدينتهم وأمكنتها.

تخيُّل لهيب الشمعة متى انطفأت

هافانا النمور هي مدينة الليل، مدينة تتنفس من خلال الموسيقى وتقاوم من خلالها. وقد أكد إنفانتي على مفهوم هذه المقاومة من خلال استحضاره لأسطورة سيكان وإكوي؛ أسطورة المرأة والإله التي تحكي قصة اختراع الطبل الأفروكوبي. «سيكان» المرأة التي انتهكت حرمة المقدسات فعوقبت على تمردها، وبجلدها غلفوا الطبل.

قُدمت «سيكان» في العمل كرمز للتمرد وللرفض، ولهذا حظيت بالإعجاب. وبقي الطبل والموسيقى وجهًا من وجوه المقاومة وكسر كل الطابوهات.

فإن كان أصل الموسيقى امرأة تحدت الآلهة، فمدينة هافانا تشكلت كهوية أيضًا من خلال امرأة، وهي هنا المرأة الخلاسية. فإنفانتي لجأ إليها لتصوير المخيال الجماعي سواء كان داخليًا أو خارجيًا. 

فكل ما هو أنثوي في العمل، رغم قلة حضوره وغلبة الميزوجينية التي ترى المرأة جسدًا دون عقل ومصدرًا للإغواء، شكَّل أيضًا هوية أمة. فكوبا الجزيرة هي أنثى وهافانا هي أنثى. وكل هذا تعاظم ليحيل للذاكرة المنفية خارج الوطن كل ما هو أمومي وكل ما هو أصيل.

وتعتمد هذه الأصالة بالأساس على ذاكرة الحواس: الأذن التي تصغي للموسيقى والعين التي ترى المكان واللسان الذي يتحدث. أي كل ما من شأنه تخيُّل كيف يكون لهيب الشمعة متى انطفأت.

إنفانتي أمام معبد راشمون! 

يبدو قيرمو إنفانتي مهمومًا بفكرة الحقيقة ومدى اتساعها ومرونتها لتشمل أكثر من وجه يفقدها في النهاية أصالتها ويجعل المتلقي في تساؤل وشك دائمين. هذه الحقيقة لا تتجزأ لدى إنفانتي عن الأدب ذاته، ولا عن اللغة ومنطقها المشبع بتأثيرات جدلية. 

يقود إنفانتي مهمة «الهدم» زمن الاستقرار. وكما فعل مع الأدب الكوبي ودمر حقيقته المتجلية في أدب أميركي-لاتيني تراتبي لا يتسع لفوضى أدب حي جدلي، يعود مجددًا وبشكل أعم وكوني لفكرة الهدم هذه من خلال فصل «الزائرون».

يحكي الفصل أحداث زيارة زوجين أميركيين هما السيد والسيدة كامبل، في إحالة واضحة جديدة لهافانا-هيمنقواي. فيقدمان كلٌّ حسب وجهة نظره ولغته سردًا يصف الفضاء والثقافة، كما يصف حادثة اختفاء عصا كان السید كامبل اشتراها لتساعده على المشي. 

وبعيدًا عن أي مخيال استشراقي يقدمه هذا الفصل، يقف إنفانتي أمام معبد راشمون. فيقدم لنا، على غرار ما قدمه المخرج الياباني المبدع أكيرا أكوروساوا في فيلمه راشمون، وعيًا مغايرًا للحقيقة يغير مفهومنا حول اليقين وحول العدالة والذاكرة البشرية.

 فمن خلال سرد الحكاية و التصويبات يشكك إنفانتي في سرديات الزوجين التي تحمل ذاتية مفرطة تلقي بظلالها على الحكي. کما تقدم حقيقة مقنعة بالعواطف والرغبات والشهوات والكثير من سوء الفهم.

هذا التشكيك في الرواية المسرودة يقرنها إنفانتي بتشكيك آخر في الترجمة. فيقدم محاكاة ساخرة لمخاطر الترجمة بشكل عام، ومن اللغة الإنقليزية للإسبانية تحديدًا. مخاطر يعتبرها إنفانتي خيانة تؤدي في النهاية إلى غياب اليقين وجعل الحقيقة تتماهى ومقاصد الكاتب من جهة، والكتابة من جهة أخرى، والترجمة من جهة ثالثة، ثم قراءة المتلقي من جهة رابعة. 

وكأن الحقيقة ليست في النهاية سوى مكعب روبيك تحتاج مجهودًا ووعيًا كبيرين لنصل إلى صورتها الختامية.

جنون الكلمة 

«النزهة» (باجقاتا) عنوانُ آخر فصول العمل وأطولها. ويحكي عن نزهة بالسيارة على مدى كورنيش هافانا يرويه سلفستري أحد النمور الثلاث، وأقربهم للكاتب على اعتبار امتهانه للتأليف أيضًا. 

سلفستري، وتحت رعاية بوسترفيدون، يحاول ابتداع طريقة جديدة في الأدب لا تقل غرابة عن غرابة العمل الذي بين أيدينا. فعلى طول الكورنيش سنعيش مع سلفستري وصديقه كوي -المثقف الفوضوي- تداعيًا حرًا على أنغام ما اعتقداه معزوفة أصيلة لباخ. 

ويتماهى هذا التداعي مع تداعٍ لغوي ينسل من كلمة «باخ» ليشعل قنبلة عنقودية من الاشتقاقات اللفظية، فاتحةً الباب أمام تنظيرات كثيرة حول اللغة والأدب والسينما والفن والجنس والسياسة.

لكن يبقى الجنون اللغوي الذي مارسه إنفانتي طيلة العمل ملحًّا في هذا الفصل الطويل. إذ يستفيد من الحوار الذي سنجده ثريًا هنا عكس باقي فصول الرواية. ويبدو إنفانتي مهووسًا بالكلمة، فهي ليست جامدة بل يعتبرها كائنًا حيًّا. ورغم كونه لا ينفي أهميتها كأداة بيد الكاتب يخلقها ويلاعبها كما يشاء، فهي خطرة وآثمة وقد تنقلب عليه أية لحظة.

فالكلمة تستمد منطقها الخاص من ذاتها بعيدًا عن خالقها. وقد لعب بوسروفيدون دور الحاوي في ألاعيبه اللغوية وهو حي، ثم من خلال ورثته النمور الثلاثة. وفي فصل «النزهة» يتولى الصديقان اللعبة بمزيد من التشويق. فالكلمة كما يصفها إنفانتي تتفوق على هيتشكوك: قد تكون خاطئة وقد تكون بريئة، قد تكون متهمة ومجرمة، وقد تكون الشرطي فتنقذ ما يمكن إنقاذه. 

فالكلمات متى عملنا على تقييدها وتحييدها قد تتنصل بكل هدوء، محدثة انفجارات جديدة واتصالات لفظية مستحدثة.

يتحدث بتورية. يخفي ألمًا!

لا يقدم هذا الفصل تنظيرًا ضمنيًا حول اللغة ومدى تعقيدها كوسيلة للتواصل فقط، بل يقدم تنظيرًا آخر حول تعقيد العلاقات الإنسانية. فكل الشخصيات تتحرك دون مكان ثابت. وكلما ذهبت بعيدًا تحررت أكثر من قيودها وتلاعبت باللغة كما تشاء.

ويُظهِر إنفانتي ذاته المنفية والمقصية تحت جلد كل هذه الشخصيات. فهي شخصيات تائهة تبحث عن ذاتها لكن ضمن المجموعة. فنراها تتقمص أدوارها في الفضاءات العامة وتتحدث بإسهاب، على حين تصمت متى دخلت فضاءها الخاص.

لكن حضورها ضمن الجماعة ليس بريئًا تمامًا بل تحكمه الأقنعة المتتالية واللقاءات غير المرغوبة والعابرة. كما تحكمها تراتبية تميزها الطبقية والمستوى الثقافي للشخصيات. هنا لن نجد تشريحًا لنفسيات الشخصيات على الطريقة الدستويفسكية، بل سنكتشف الشخصية من خلال لغتها وتفاعلها مع الآخر.

لم تكن النزهة الطويلة والتداعي الحر ليصل بالصديقين لأي نتيجة ممكنة، فهما يدوران في حلقة مفرغة تحكمها الألاعيب شأنها شأن الرواية. فالعلاقات الإنسانية في العمل محكومة بالتورية والافتراضات المسبقة وسوء الفهم. وكأن الجميع يتحدثون من خلال التوريات المبهمة والسخرية محاولةً لإخفاء ألمهم وعدم قدرتهم على التواصل.

 وهذا ما ظهر في حوار الصديقين اللذين يجدان صعوبة كبيرة في الإفصاح عن رغباتهما لبعضهما.

تبقى ثلاثة نمور حزينة رواية رائدة ضمن أدب أميركا اللاتينية رغم رفض إنفانتي لهذه التسمية. وبصفة شخصية يبقى العمل مع عمله الآخر «هافانا من أجل إنفانتي راحل» لوحات خطَّ فيها الكاتب الكوبي رسائله المشبعة بالحنين لبلده الأم. هو المنفي من هذا البلد الساخن إلى بلد بارد وضبابي. 

ويظهر هذا التوتر بين المناخين وبين الثقافتين في نوستالجيا فوضوية. إذ يؤكد إنفانتي على تفرده ضمن قائمة كتاب أميركا اللاتينية ككاتب متمرد رافض لكل ما هو ثابت ومسلم به. وعلى القارئ التعامل مع أدب إنفانتي كما يتعامل هو ذاته مع الكتابة

فمتى نجحنا في نطق عبارة ثلاثة نمور حزينة بالإسبانية -عفوًا بالكوبية- نكون قد استطعنا الوصول إلى معنى النص. أي قراءته تمامًا كما تتطلب اللعبة.

الأدبالأدب اللاتينياللغةمراجعاتالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية