تداعيات انتخاب رئيسي على إيران ومباحثات فيينا
بعد أن كشفت الانتخابات الرئاسية الإيرانية عن الفوز المتوقع لإبراهيم رئيسي، فما مآل إيران ومباحثات فيينا؟
أسفرت انتخابات إيران في الثامن عشر من يونيو الماضي عن فوز المرشح إبراهيم رئيسي بالرئاسة الإيرانية. وهو المدرج على لائحة عقوبات الولايات المتحدة جرّاء الضلوع في جرائم وانتهاكات تتعلق بملف حقوق الإنسان.
إذ يُتهم الرئيس الإيراني المنتخَب إبراهيم رئيسي بضلوعه في إحدى أبشع الجرائم على مدار تاريخ الدولة الإيرانية. فقد كان عضوًا في «لجنة الموت» المكونة من أربعة مسؤولين أجازوا في عام 1988 –تبعًا لفتوى المرشد الخميني- إعدام قرابة خمسة آلاف سجين ممن ناهضوا حكم ولاية الفقيه بتهمة انتمائهم إلى جماعة «مجاهدي خلق».
يضاف إلى ذلك اضطلاعه بأدوار مؤثِّرة في أعمال القمع الممنهج ضد متظاهري «الثورة الخضراء» عام 2009. إذ انبرى السلكُ القضائي حينها لتشريع عمليات القمع والتي تصدَّت لتنفيذها الدولة العميقة منزلة بالمتظاهرين العزل أبشع أنواع القتل والتنكيل. وأعيدت الكرة مرة أخرى عندما اعتلى رئيسي هرم السلطة القضائية وجرى قمع المتظاهرين بين الاحتجاز والقتل عام 2019.
وكان اعتلى رئيسي هرم السلطة القضائية بأمر من المرشد الأعلى علي خامنئي في مارس 2019 بعد تكليفه بمهمة «مكافحة الفساد». لكنه أُدرج على قائمة العقوبات الأميركية بحجة إصداره أحكام إعدام اعتباطية بذرائع «الفساد في الأرض» و«التخابر ضد الدولة الإيرانية». وكان آخر تلك الأحكام إعدام الصحفي روح الله زم الذي استدعى الإدانة والتنديد العالميين.
هندسة خامنئي نتائج الانتخابات الرئاسية
أولى خامنئي اهتمامًا مبالغًا فيه حتى يضمن تسلم رئيسي دون غيره كرسيَّ رئاسة السلطة التنفيذية. إذ أوكل إلى «مجلس صيانة الدستور» -الجهاز المخول برفض أو قبول أهلية المترشِّحين للانتخابات- مُهمَّة تحييد وإبعاد كل الخصوم والمنافسين ما عدا بعض المرشَّحين غير المؤثِّرين.
فالنظام السياسي الإيراني بطبيعته الثيوقراطية يضع السلطة بيد المرشد. وإن كانت هنالك مظاهر ديمقراطية تتمثل في عملية الانتخاب إلا أن المؤسسات الموازية غير المنتخبة هي الممسكة بزمام صنع القرار ومآلاته السياسية. وتتمظهر هذه الحالة في دور مؤسسة «مجلس صيانة الدستور» التي تضمن حصر السلطة في أيدي من يدين بالولاء لمبادئ المرشد الأعلى خامنئي.
وهكذا تمهدت طريق الوصول إلى الرئاسة أمام إبراهيم رئيسي برفض أهلية المرشحين المؤثرين مثل نائب رئيس الحكومة الحالية إسحاق جهانقيري، والرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني.
وتجلى الاستياء في الداخل الإيراني إزاء قرارات النخبة السياسية في نسب المشاركة في التصويت التي لم تتخطَّ 48.8%. فمن إجمالي 59 مليونًا و310 ألف و307 إيرانيين يحقُّ لهم المشاركة في الانتخابات، شارك 28.8 مليون إيراني فقط. وتُعد هذه النسبة الأقل في تاريخ الانتخابات الرئاسية التي أجرتها إيران منذ قيام ثورتها في 1979. وبمقارنة نسب المشاركة الحالية بنظيرتها في انتخابات 2017 البالغة أكثر من 73%، فالفرق بينهما يصل إلى نحو 25%.
وعلاوة على أن نسب المشاركة هي الأدنى في الأربعة عقود من عمر الدولة الإيرانية، فنسبة 12.88% من المشاركة كانت مجرد أوراق بيضاء وأُلغيت. ووفقًا لوزراة الداخلية الإيرانية، بلغ مجموع الأصوات البيضاء فضلًا عن الأصوات الملغاة أكثر من 3.7 مليون صوتًا.
تثبيت أركان النظام الثوري الإيراني
تكمن مسوغات تدخل المرشد في أمرين بارزين: الأول ما يشاع من تكهنات بعزم خامنئي تجهيز رئيسي ليحمل لواء منصب المرشد من بعده. والثاني حاجته لمساعدٍ تنفيذي لا لشخصية مُستعصية على الانقياد. ولا شك يسعى خامنئي لتثبيت أركان النظام في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرَّض لها، وضخ دماء ثورية جديدة في ظل تراجع وهَجِ الخط الثوري ومكانته لدى المجتمع.
أما في سياق السياسة الخارجية لربما يعود اختيار خامنئي لرئيسي بالأساس لردع الغرب عن التفاوض حيال البرنامج الصاروخي الباليستي لإيران. وكذلك لقطع الطريق على محاولات التطرق إلى قضايا دعم وتمويل إيران للمليشيات المزعزعة للاستقرار في الإقليم.
إيران والقوى العظمى، الملف النووي في معترك المسارات الدبلوماسية
ويُرَجَّح التزام رئيسي بثوابت النظام فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المدفوعة بالهوية. بل قد يتَّخذ موقفًا متشددًا يمتنع فيه عن التعاطي مع الولايات المتحدة والغرب، لما يمثله من حالةَ الصفاء الثوري والمبادئ الخمينية الراسخة.
على سياق مواز، يعتري استراتيجية وصول رئيسي للرئاسة الإيرانية العديد من المثالب. أهمها تأجيج الداخل الإيراني ودفعه للإضراب كما تبدَّى في قلة نِسَب الإقبال على التصويت. لا سيما وأنَّ تاريخ رئيسي وسجله على المستوى الإنساني والحقوقي يؤكد ألَّا مجال لأي إصلاحات داخلية. بل في الواقع ينبئ بمزيد من القمع والاضطهاد.
أما على الجانب الاقتصادي والاجتماعي فالأوضاع المعيشية تزداد سوءًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي خلَّفتها العقوبات الأميركية. على حين يرى الرئيس المنتخب رئيسي أن الأوضاع في بلاده لا علاقة لها بالعقوبات، بل مرتبطةٌ بسوء الإدارة الداخلية.
رؤيته هذه انعكاس لوجهة نظر القوى الاقتصادية المهيمنة سواءً تلك التابعة للحرس الثوري أم المؤسسات الاقتصادية الموازية المسيطر عليها من مكتب المرشد الأعلى ذاته. إذ سبق لخامنئي أن عين إبراهيم رئيسي عام 2016 ولمدة ثلاث سنوات حارسًا على مؤسسة «آستان قدس رضوي». وهي مؤسسةٌ خيرية تمتلك أصولًا مالية وثروة طائلة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
الموقف الغربي من انتخاب رئيسي
في سياق المباحثات النووية مع القوى الدولية، فلا شك أن الكلمة الفصل بيد المرشد الاعلى، المتحكم الرئيس في السياسات الخارجية الإيرانية. ولأن إخراج إيران من عزلتها الاقتصادية ورفع العقوبات الأميركية تمثل الغاية النهائية لدى صانع القرار الإيراني، فلم يمانع خامنئي إجراء المفاوضات الرامية لإحياء الاتفاق النووي. ومن الواضح اتباع رئيسي نهج خطى المرشد، حيث أكد في أول مؤتمر صحفي يعقده دعمه للمباحثات الجارية في فيينا.
في المقابل لم تبادر أي من العواصم الأوربية بتهنئة الرئيس المنتخب. في حين أظهرت الولايات المتحدة عدم اكتراثها بنتيجة الانتخابات، موجهة تركيزها نحو المباحثات النووية في فيينا. أذ تشدد على أن زمام أمر التفاوض والسياسات الخارجية الإيرانية بيد المرشد الأعلى لا السلطة التنفيذية في إيران.
تتحوط الأطراف الغربية مما يمثله وصول التيار «المتشدد» والولائي للمرشد الأعلى إلى سدة الرئاسة. فتأخذ في الحسبان إشكاليات عدة أبرزها: مناقضة مبادئها ومُثلها الديمقراطية العليا المتصلة بالحقوق والحريات الإنسانية. Click To Tweet
لكن إن أرادت تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية فلا سبيل أمامها سوى التعاطي مع رئيس إيراني متهم بالاضطلاع بعمليات القمع والقتل والتنكيل.
من جانب آخر، فانضواء السلطة التنفيذية الإيرانية -كحال بقية السلطات- تحت هيمنة الخط المنابذ للغرب يقرب إيران نحو روسيا والصين، ويعمق الهوة مع الجانب الأوربي والأميركي. وفي هذا السياق تتحسب أوربا لما قد تتكبده من خسائر اقتصادية، ولما ستصطدم به من حواجز عسيرة أمام نفوذها السياسي.
وعلى أثر مواز، ينتاب الأطراف الغربية والحلفاء الإقليميين القلق من تفاقم الوضع في المنطقة. وذلك لكون الإدارة الإيرانية الجديدة منسجمة تمامًا مع الأدوار المزعزعة للاستقرار التي يلعبها الحرس الثوري وجناحه الخارجي فيلق القدس.
كما تتحرز من كيفية تناول حكومة رئيسي لملفات المعتقلين في إيران من حاملي الجنسيات المزدوجة وحرمانهم من محاكمات عادلة. ففي حالات عديدة يُرغَم المعتقلون على الاعتراف بما لم يرتكبوه تحت وطأة التعذيب والاستجواب القسري.
غموض مصير مباحثات فيينا
على ذات المنوال، يقوّض وصول رئيسي رؤية الإدارة الأميركية وشركائها الأوربيين الذين هبوا لإحياء الاتفاق النووي بذريعة الحيلولة دون إقدام إيران على تطوير قنبلة نووية. إذ وصلت المباحثات النووية في فيينا إلى طريق مسدود بعد انقضاء ست جولات متتالية لم يتحقق خلالها الاختراق المرجو، ولا التسوية المبتغاة من الأطراف المعنية.
فالخلاف الماثل بين إيران والولايات المتحدة لم يحسم بعد، بل إن الموقف الغربي المندفع سابقًا صوب إحياء الاتفاق النووي بات أكثر تمهلاً وأقسى حدة.
فقد ظهر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد الجولة السادسة ليضع اللوم على كاهل صانع القرار الإيراني بقوله: «لا تزال هناك خلافات كبيرة. لا يمكنني أن أقول لكم ما إذا كنا سنستطيع تجاوز تلك الخلافات. فهذا الأمر مرهون بدرجة أساسية بالقرارات التي ستتخذها طهران من قبل المرشد الأعلى.»
وما زال الجانبان الأوربي والأميركي يحاولان حلحلة أزمة المواقع المشبوهة المتصلة بإخفاء عمليات تخصيب اليورانيوم في الداخل الإيراني. بيد أنَّ التعاطي مع الرئيس المنتخَب رئيسي من شأنه أن يعقِّد على بايدن وحلفائه خُطط البناء على بنود الاتفاق النووي الموقَّع عام 2015.
كما سيعرقل مساعي الإيفاء بالوعود الأوربية والأميركية بأنَّ المباحثات النووية ستُفضي إلى تسويات تطيل أمد الاتفاق النووي وتعالج نقاط ضعفه. سواء كانت التسويات المتعلقة بإشكالية الصواريخ الباليستية الإيرانية، أو الدعم الذي توليه إيران للميليشيات المزعزعة للاستقرار.