حتى العرب بعيدون عن خيار السلام. لماذا؟

تصرُّ إسرائيل على التمسك بخيار السلام، وتتصاعد وتيرة اتفاقيات التطبيع العربية. مع ذلك نجد السلام اليوم أبعد ما يكون عن الطرفين.

كشفت جولة القتال الأخيرة بين حماس وإسرائيل مدى المسافة التي تفصل لا الإسرائيليين وحسب عن خيار السلام فهذا أمرٌ معروف؛ بل حتى الجانب العربي الرسمي، أو أغلبه، عن الخيار ذاته.

لا يعني ذلك أن العرب يرفضون السلام، على العكس تمامًا؛ بات العرب يتمنون السلام لكن لا يستطيعون فرضه ولا الحصول عليه. ومنذ هزيمة يونيو 1967 وسقف مطالبهم آخذٌ في الانخفاض. حيث أخذت القضية تتحول تدريجيًّا من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، يقف الغرب فيه إلى جانب إسرائيل، والعرب إلى جانب الفلسطينيين.

لم يكن هذا الفارق الوحيد، ولا الأهم بين الطرفين. ثمة فرق آخر ربما أكثر خطورة، وهو أن استراتيجية إسرائيل تتمثل في رفض السلام مع ادعائها عكس ذلك، واستراتيجية العرب البحث عن السلام من دون أي ادعاء يناقض ذلك. فارق ثالث، هو أن إسرائيل، وعلى عكس العرب، تملك إمكانية فرض خياراتها. وظلت القضية، سواء باسم الصراع العربي الإسرائيلي أو القضية الفلسطينية، رهينة لهذه الحالة السياسية. 

ما معنى استراتيجية رفض السلام؟

لا ترفض إسرائيل السلام كهدف نهائي مع العرب بالضرورة. لكن هذا السلام يتطلب منذ 1947 «حلَّ الدولتين المستقلتين»، وتعيين حدود واضحة ونهائية لإسرائيل، وتقاسم القدس. وكان العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، يرفضون ذلك منذ عام 1948. 

وبعد عام 1967، تبادلت إسرائيل موقف الرفض هذا مع العرب. وأصبح العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، يقبلون بهذا الحل، وإسرائيل ترفضه تمامًا. لكنها في الوقت نفسه تريد سلامًا يتسع ويقبل برفضها لهذا السلام. من هنا تدعي علنًا عكس ما تضمر؛ وذلك كآلية تفاوضية للوصول إلى الهدف الاستراتيجي الذي تسعى إلى فرضه. 

ويتمثل الهدف الاستراتيجي في تحويل حقوق الشعب الفلسطيني في الأرض وفي إقامة الدولة إلى أمر يتعذر في نهاية المطاف تحقيقه عمليًّا؛ وذلك من خلال فرض مسارين متوازيين: مفاوضات مفتوحة دون حدود زمنية ولا هدف محدد وواضح سوى كلمة «السلام الشامل». بالتوازي مع ذلك، تستمر إسرائيل في مسار أحادي آخر يتمثل في مصادرة الأراضي وتهجير الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان. 

كل ذلك في سبيل زيادة السكان اليهود على الأراضي الفلسطينية وخلق واقع ديموغرافي وسياسي على الأرض يجعل من تلبية أي من حقوق الفلسطينيين مع الزمن أمرًا متعذرًا؛ بل يستحيل تحقيقه. وتستخدم المفاوضات في هذه الحالة كغطاء للاستمرار في الاستيطان.

الهدف الإسرائيلي من استمرار المفاوضات 

لذلك كان الرفض المضمر ولا يزال العلامة الفارقة التي تشترك فيها كل الحكومات الإسرائيلية بعد هزيمة يونيو، رفض الجمع بين السلام (رفض حل الدولتين، وتعيين حدود لإسرائيل، مع التمسك بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين)، مع الاستمرار في المطالبة باستمرار المفاوضات. وذلك للحصول بدعم غربي، معلن وغير معلن، على تنازلات مستمرة من العرب والفلسطينيين. 

بعبارة أخرى، نجحت إسرائيل حتى الآن في فرض نوع غير مسبوق من المفاوضات. تلك التي تسعى لتحقيق هدفٍ مضمرٍ غير مطروحٍ على طاولة المفاوضات، ويخص حصرًا أحد طرفيها، وهو في هذه الحالة إسرائيل. ولأنه كذلك، بقي هذا الهدف غير معلن. هدفٌ يتحقق على الأرض، وعلاقته بالمفاوضات أن المستفيد يستخدمها غطاءً له. 

وهذا على غرابته ما حصل منذ المفاوضات التي انتهت باتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، مرورًا باتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاق وادي عربة مع الأردن، وصولًا إلى ما يعرف باتفاقات إبراهيم، التي حصلت العام الماضي. مزيد من المفاوضات والتطبيع، يترافق معه مزيد من توسع الاستيطان. 

والغرب، خاصة أميركا، يعرف كل ذلك. ويعرف استراتيجية التفاوض الإسرائيلية؛ لكنه يغض الطرف عن ذلك عمدًا، ومع سابق معرفة بحقيقة ما يحصل.

استمرارية واقع هزيمة 67 

على خلفية هذا الواقع، ليس مفاجئًا أن خيَّم الجمود على القضية الفلسطينية. يخسر الفلسطينيون المزيد من الأرض، ويخسر العرب سياسيًّا. وذلك بعد أكثر من نصف قرن من انتفاضات وحروب وصدامات ومناورات ووساطات ومفاوضات فشلت في كل شيء تقريبًا. وفي المقابل، نجحت إسرائيل في تحقيق استراتيجيتها حتى الآن. 

ماذا حقق العرب منذ عبد الناصر حتى الآن؟ فشلوا في امتحان هذا الصراع. ويبدو أن الإسرائيليين اكتشفوا إمكانية تحقيق النجاح بعد هزيمة يونيو في عام 1967. حيث وضعت هذه الهزيمة الضعف الاستراتيجي العربي أمام الجميع.

ومع الوقت خيمت على المزاج العربي حالة من اليأس برزت معها فرضية نجاح الدولة العبرية أخيرًا في فرض واقع سياسي على الجميع، خاصة على العرب، إذ لم يعد مجديًا مقاومة هذا الواقع. تفرض العقلانية كما يقال التأقلم مع هذا الواقع تفاديًا لمراكمة المزيد من الخسائر والانكسارات.

باتت القضية الفلسطينية مجرد شعار يجتر أحلام ومآسي ماضٍ دفنته تطورات الأحداث وتوازنات القوة وتغيرات مصالح وتوجهات الدول. بعبارة أخرى، لم يعد الخيار قبول واقع الهزيمة والانطلاق منها، وإنما قبول التأقلم مع هذا الواقع، ثم قبول ما هو متاح ومقبول من إسرائيل، والتخلي عن عنتريات معاندة واقع لم يعد اختراقه متاحًا.

وهذا موقف لا يمثل تنازلاً عقلانيًّا بقدر ما هو هروب من الفشل، ومحاولة لتبريره من دون تحمل مسؤولياته. ولأن الإسرائيليين يدركون ذلك، فهم لا يتعاملون معه على أنه تنازل يستحق تنازلًا مقابلًا؛ لأنه ليس أكثر من تنازل فرضته هزائم متتالية، وبطبيعته هذه، فإنه لم يأتِ من قناعة؛ بل فرضته الهزيمة أمام قوة إسرائيل. هو تنازلٌ مجاني، ويجب أن يبقى كذلك. 

خسائر إسرائيل السياسية 

من جهة أخرى، كشفت الحرب الرابعة بين حماس وإسرائيل أمورًا لم تكن في حسبان أحد، ولا تتسق مع هذا المنطق؛ فإسرائيل برهنت من جديد قدراتها العسكرية، لكنها لم تفرض واقعا سياسيًّا جديدًا، رغم كسبها التطبيع مع أربع دول عربية قبيل هذه الحرب. وهذا ليس لأن حماس نجحت عسكريًّا؛ بل لأن إسرائيل فشلت في تحويل قدراتها العسكرية إلى نجاح سياسي. 

وجهت ضربة قاسية لغزة ولحماس، لكنها فشلت في كسر إرادة الفلسطينيين العاديين. وعندما يفشل الطرف القوي في حرب كهذه في كسر إرادة الطرف الأضعف، فالأخير من يحقق مكسبًا سياسيًّا. يقول الإعلام الإسرائيلي أن هذه الحرب حققت نصرًا تكتيكيًّا؛ لكنها تسببت بخسارة استراتيجية. إذ جرَّت لأول مرة صدامات بين العرب واليهود داخل إسرائيل. ووصلت صواريخ حماس لأول مرة إلى كبرى المدن الإسرائيلية، بما في ذلك تل أبيب.

والأكثر مفاجأة للقيادة الإسرائيلية أن هذه الحرب فرضت على الإعلام الغربي، خاصة الأميركي، مراجعة موقفه القديم من إسرائيل، على المستويين الأخلاقي والسياسي.

ففي الرابع والعشرين من مايو الماضي، كتب رئيس التحرير السابق لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، بريت ستيفنز، مقالًا في النيويورك تايمز بعنوان على شكل سؤال استنكاري: «معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية؟»، تناول فيه موقف ما يسميه اليسار التقدمي المعادي للصهيونية، وأن موقف هذا التيار تحول منذ سنوات لعقيدة راسخة بأن معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية. 

وختم مقالته مخاطبًا اليهود: «لا تأخذوا أحداث الأيام القليلة الماضية على أنها اعتداء وإهانة بقدر ما هي نذير نحس.»

نذير مراجعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية

ما قد يصبح نذير نحس حقيقي أن مراجعة العلاقة الخاصة والاستثنائية بين أميركا وإسرائيل فرضت نفسها بعد هذه الحرب داخل النخبة الأميركية. يكفي هنا مراجعة تغطية صحف مثل الواشنطن بوست والنيويورك تايمز والقارديان البريطانية لأحداث الحرب، ومقالات الرأي فيها عن أسباب هذه الحرب وتداعياتها. 

فالقارديان مثلًا أعلنت أسفها عن دعم وعد بلفور عام 1917. ومن بين ما نشرته النيويورك تايمز تحقيقٌ مطول في الثاني والعشرين من مايو الماضي لم يسبق أن نشرت مثله من قبل بعنوان «تحت الاحتلال: البؤس المصدر الرئيس للصراع». 

في السياق ذاته كتب ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، مقالًا طويلًا في مجلة «فورين بوليسي» (Foreign Policy) -إحدى أشهر المجلات السياسية في أميركا- بعنوان «حان وقت إنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل». 

يستعرض والت فيه بالتفصيل المعطيات التي تؤكد أن زمن ومبررات وفوائد علاقة أميركا الخاصة بإسرائيل قد استنفدت أغراضها. عدا عن أن هذه العلاقة كانت ولا تزال تنطوي على تناقضات في المصالح والقيم؛ فالقيمة الأخلاقية الوحيدة التي انطلقت منها هذه العلاقة الخاصة كانت قيام دولة لليهود بعد قرون من العداوة العنيفة «للسامية» في العالم المسيحي، والتي وصلت ذروتها مع الهولوكوست.

لكن هذه القيمة، يقول والت، فرضت تجاهل ما حصل على يد إسرائيل للعرب الذين عاشوا في فلسطين قرونًا عديدة، كما فرضت التغاضي عن حقيقة أن إسرائيل لا تشارك أميركا في قيمها الأساسية. لربما إسرائيل دولة ديمقراطية؛ لكنها ليست ديمقراطية ليبرالية تساوي بين مكوناتها الدينية والعرقية. على العكس، إذ بما يتفق مع الأهداف الصهيونية، تعطي إسرائيل بتخطيط متعمد امتيازات لليهود عن الآخرين.

اليوم وبعد عقود من السيطرة المتوحشة، دمرت إسرائيل المبرر الأخلاقي للدعم الأميركي غير المشروط لها. وهكذا يستمر المقال في تفنيد بقية المعطيات.

حقائق السلام بين العرب وإسرائيل 

الشاهد هنا أن نتيجة الحرب، ورد الفعل الفكري والسياسي عليها في الغرب، أثبت أربع حقائق: أولًا، إسرائيل أبعد ما تكون عن خيار السلام في المدى المنظور. ثانيًا، سيأتي يوم يكون فيه على إسرائيل تدبر أمورها في الشرق الأوسط لوحدها. ثالثًا، فشل الفرضيات التي انطلقت منها عمليات التطبيع العربية؛ ولأنها أقرب للوهم فقد أبعدت العرب عن خيار السلام، لكن لسبب مختلف. 

الإسرائيليون بعيدون عن خيار السلام عمدًا وغرورًا بالدعم الغربي لهم، أما العرب المطبعون فهم بعيدون عن السلام ليس عمدًا؛ بل يأسًا من إمكانية الحل. ولذلك فشل تطبيع ثلث العالم العربي مع إسرائيل في التوصل إلى حل.  Click To Tweet

أما الحقيقة الرابعة والأخيرة، فتنطوي على أن قضية فلسطين لا تخص الفلسطينيين ولا الإسرائيليين وحدهم؛ بل هي قضية إقليمية ذات أبعاد وتداعيات دولية، وبالتالي فإن استراتيجية الإسرائيليين بادعاء السلام ورفضه في الوقت نفسه لن تحقق لهم أحلامهم السوداء.

الاحتلال الإسرائيليالتطبيعالقضية الفلسطينيةالرأي
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية