جوان ديديون: عن معنى الحزن بعد الفقد
تصف جوان ديديون في مقالها «ما بعد الحياة» محاولاتها استيعاب موت زوجها الفجاء، وكيف للحزن بعد الفقد أن يأخذ أشكالًا أبدًا ما تصورناها.
لدى وفاة والدي قبل نحو تسع سنوات لم أشعر بأي إحساسٍ بالفقد. شعرت وحسب بالحزن الذي يتأتى عن رهبة الموت، عن حقيقة أنَّ ما عاد من فرصة، مهما كانت متخيلة وبعيدة عن المتناول، في ترميم ما انهار قبل ثلاثين عامًا. فعلاقتنا مذ كنت في العاشرة غلبها البعد والجفاء وخيبة الأمل. ومذ ذاك ما عاد له من حيز حقيقي في يومي؛ وهكذا، بوفاته لم أفقد شيئًا. لم يكن ثمة فقد.
لديّ صديقة عزيزة، شاعرة في عنفوان شبابها وإبداعها، ما تزال ترتدي السواد حدادًا على أبيها الذي توفي قبل أعوام. أول مرة التقيت بها خارج وسائل التواصل الاجتماعي كان في محاضرة ألقيتُها عن الترجمة مطلع عام 2020. وعرفت يومها إلى أي حد خروجها نادر، وأنَّ حضورها يتأتى من معزتها لي.
حين حضنتها بعد إلقائي المحاضرة سعادةً بها، وسألتها عن أحوالها، انسابت الدموع من عينيها حزنًا على أبيها. كان حزنًا غريبًا؛ وكأنما والدها توفي التو. لم أفهم حزنها، وحاولت مواساتها بأنَّ عليها ببساطة المضيّ قدمًا والعودة إلى الحياة والكتابة.
وأعرف الآن، بعد قراءتي جوان ديديون، كم كانت مواساةً جاهلة، حتى وإن كانت نيتي صافية. فما أدراني أنا عن الحزن بعد الفقد.
جوان ديديون عاشت الفقد وتعرف معناه. عاشته بعد وفاة زوجها في الثلاثين من ديسمبر 2003. ولشهور عديدة حاولت استيعاب الحدث ومشاعرها بعد الحدث، ولم تقوَ على الكتابة من جديد إلا في العشرين من مايو 2004.
وفي مقالها «ما بعد الحياة» في صحيفة النيويورك تايمز – السابق لنشر كتابها «عام التفكير السحري» – تصف أدق تفاصيل معايشتها الشخصية لوفاة زوجها. لكنها أيضًا، بصدق وشفافية، تصف تأملاتها في معنى الحزن والحياة والكتابة أمام حتمية الموت والفقد.
تأملات «ما بعد الحياة»
«الحياة تتغير بسرعة.
الحياة تتبدل في لحظة.
تجلس إلى مائدة العشاء وحياتك كما تعرفها تنتهي.
سؤال الشفقة على النفس.»
تلك الكلمات كانت أول ما كتبتُ بعد وقوع الحدث.
في مرحلةٍ ما، بغية تذكر ما بدا صادمًا حول الحدث، ارتأى لي إضافة الكلمتين: اللحظة العادية. وفورًا أدركت أنَّ لا حاجة بي لإضافة الكلمة «عادية» لأني أبدًا لن أنساها: الكلمة لم تبرح أصلًا عقلي. فالطبيعة العادية لكل ما سبق الحدث هي ما تمنعني من تصديق وقوع الحدث واستيعابه، عن تقبله وتجاوزه.
أدرك الآن أنَّ لا شيء استثنائي فيما حدث. فمتى ما ووجهنا بكارثة مفاجئة، جل تركيزنا ينصب على اعتيادية الظروف حيث اللامتخيَّل وقع. السماء الزرقاء الصافية من حيث الطائرة هوت، المهمة الروتينية التي انتهت عند كتف الطريق في سيارة مشتعلة، الأرجوحة حيث يلعب الأطفال كما هي عادتهم حين انقضَّت من اللبلاب الأفعى المجلجلة.
«كان في طريقه إلى البيت قادمًا من عمله .. سعيدًا، ناجحًا، بأتم عافيته..ثم رحل.» أقرأ هذه الشهادة لممرضة قُتل زوجها في حادث سيارة على الطريق السريع.
«ثم رحل…»
في غمرة الحياة نكون في الموت، كذا منقوشٌ في مقبرة الكنيسة الأسقفية.
الكتابة بعد الفقد
الآن، ظهيرة الرابع من أكتوبر 2004، أكتب.
قبل تسعة أشهر وخمسة أيام، نحو التاسعة مساءً في الثلاثين من ديسمبر 2003، أنا وزوجي، جون قرقوري دن، جلسنا إلى الطاولة نتناول العشاء في غرفة المعيشة في شقتنا في نيويورك. بدا (أو كان) يتعرض لأزمة قلبية مفاجئة تسببت بوفاته.
وهذه محاولتي لاستيعاب الفترة التي لحقت بوفاته. الأسابيع ثم الشهور التي أطاحت بكل فكرة راسخة لديّ عن الموت والمرض، عن الأرجحية والحظ، عن خير القدر وشره، عن الزواج والأطفال والذاكرة، عن الحزن. عن الطرق التي يتعامل فيها الناس أو لا يتعاملون مع حقيقة انتهاء الحياة. عن سطحية العقلانية. عن الحياة نفسها.
طوال حياتي وأنا كاتبة. وككاتبة، حتى في طفولتي، وقبل أن تنشر كتاباتي بزمن طويل، طوَّرت إدراكًا لديّ حول المعنى، وكيف يكمن في إيقاع الكلمات والجمل والفقرات. كانت وسيلتي في حبس أفكاري ومعتقداتي خلف سدٍّ لامع ومنيع.
وأسلوبي في الكتابة هويتي، أو غدا هويّتي. ومع ذلك، هذه حالة أتمنى فيها لو كان لديّ عوضًا عن الكلمات وإيقاعها غرفةُ مونتاج، مع نظام رقمي حيث بلمسة زر ينهار تعاقب الزمن. فأريك في اللحظة ذاتها كل لقطات الذاكرة التي تجتاحني الآن وأدعك تختار منها. من التعابير التي بالكاد تختلف عن بعضها بعضًا، من القراءات المتقاربة للسطر ذاته.
هذه حالة حيث أنا في حاجة إلى ما هو أكثر من الكلمات حتى أجد المعنى. هذه حالة حيث أحتاج لأفكاري ومعتقداتي أن تخترق السدَّ المنيع، ولو على الأقل، لأجلي أنا.
عن معنى فقد الأبويْن
الحزن، متى ما أصابنا، فليس أبدًا كما نتوقعه. لم يكن ما شعرت به حين توفي والديّ: أبي مات قبل عيد ميلاده الخامس والثمانين بأيام وأمي قبل ميلادها التسعين بشهر. وكلاهما مات بعد أعوام من الوهن المتزايد.
ما شعرت به لدى الوفاتين كان الأسى والوحدة (الوحدة التي تنتاب الطفل المهجور أيًّا يكن عمره.) الندم على الوقت الذي فات، على الكلام الذي لم يقال، على عجزي مشاركتهما صدقًا، لدى دنوهما من نهايتهما، الألم والعجز والإذلال الجسدي الذي تعرض إليه كلٌّ منهما. كنت متفهمة حتميّة الموت مع كليهما. كنت أتوقعه (أخافه، أرهبه، أحتاط له) طيلة حياتي. وحين وقع، ظلَّ على طبيعته، نائيًا عن استمرارية حياتي اليومية.
بعد وفاة أمي استلمت رسالة من صديق في شيكاقو، قس كاثوليكي أسبق، من بحدسه عبَّر تمامًا عمّا أشعر به.
«موت الأب أو الأم، رغم استعدادنا له، ورغم عمرنا، ينتزع منا أشياء عميقة فينا. يطلق ردود فعل تفاجئنا وينتشل من التراب ذكريات ومشاعر ظننا أننا دفناها منذ زمن بعيد. ولربما، في الفترة غير المحددة التي نسميها العزاء، نجد أنفسنا وكأننا في غواصة. صامتون في مهد المحيط، واعون للضربات الفائرة من الأعماق، تارة قريبة وتارة بعيدة، تصدمنا بالذكريات.»
أبي مات وأمي ماتت، وكنت سأظل في حاجة إلى ترقب صدمات ذكرياتي. لكن كنت سأظل أستيقظ كل صباح وأبعث بالملابس إلى المصبغة. كنت سأظل أخطط قائمة الوجبات لمائدة غداء الفصح. كنت سأظل أتذكر تجديد جواز سفري.
«أمواج» الحزن العارمة
أما الحزن فمختلف. الحزن لا ينأى. الحزن يعتريك أمواجًا، ينتابك في نوبات مبرحة. استيعابٌ مفاجئ تهن معه ركبتاك ويُعمي عينيك ويطمس يومية حياتك.
فعليًّا، كل من اختبر الحزن أشار إلى ظاهرة «الأمواج». إيريك لندمان، رئيس الوحدة النفسية في مستشفى ماساتشوستس العام في الأربعينيات، ومن أجرى مقابلات مع العديد من أقارب القتلى في حريق النادي الليلي «كوكونت قروف»، عرَّف الظاهرة بمنتهى الدقة في دراسته الشهيرة عام 1944:
«شعورٌ قويّ من الكرب الجسديّ ينتاب المرء في أمواج تمتد من عشرين دقيقة إلى ساعة، كلَّ مرة. إحساسٌ من ضيقٍ في الحنجرة. اختناق مع لهاث متسارع. الحاجة إلى التنهد وإحساسٌ بالخواء في البطن. الافتقار إلى القوة العضلية وقلق ذاتي شديد يوصف بالتوتر أو الألم العقلي.»
ضيقٌ في الحنجرة.
اختناق، الحاجة إلى التنهد.
أمواجٌ كهذه بدأت تعتريني صباح الحادي والثلاثين من ديسمبر 2003، بعد سبع أو ثمان ساعات من وقوع الحدث، حين استيقظت وحدي في الشقة.
لا أذكر أني بكيت ليلتها؛ فمذ لحظة وقوع الحدث دخلت في صدمة حيث الفكرة الوحيدة التي سمحتُ لها بأن تشغل بالي أنَّ ثمة أمورًا ضرورية عليَّ القيام بها. أنَّ ثمة أمورًا ضرورية عليّ القيام بها لدى وجود طاقم الإسعاف في غرفة المعيشة. فمثلًا احتجت إلى إحضار نسخة عن تقرير جون الطبي حتى آخذه معي إلى المستشفى. وإلى إخماد نار الموقد؛ لأني سأغادر الشقة معه.
كان ثمة أمور لا بد من القيام بها في المستشفى. احتجت مثلًا إلى الوقوف في الطابور عند الاستقبال. و إلى التركيز على الفراش في غرفة الملاحظة حيث سيحتاج البقاء إلى أن ينقل إلى مستشفى كولومبيا المشيخيّ.
وما إن عدت من المستشفى حتى أدركت أنَّ ثمة أمورًا ضرورية لا بد من القيام بها. لم أعِ بالضبط ما هي كل تلك المهام، لكني وعيت إلى واحدة: احتجت، قبل كل شيء، الاتصال بأخ جون، نيك، وإبلاغه بما حدث.
صدمة الحزن غير المتوقع
اتضَّح لي أن: الحزن مكانٌ لا أحد منا يعرفه حتى يصل إليه. نحن نتوقع (ندرك) أنَّ عزيزًا علينا قد يموت، لكن أبدًا لا نتفكر في تلك الأيام القليلة أو الأسابيع التي ستلي فورًا هذا الموت المتخيَّل. Click To Tweet
وحتى تلك الأيام والأسابيع، نحن مخطؤون في تفسير طبيعتها. فنحن نتوقع، في حال الموت الفجاء، الشعور بالصدمة. لكن لا نتوقع من تلك الصدمة أن تطمس أيامنا، أن تخلخل جسدنا وعقلنا. لربما نتوقع الإنهاك، الفاجعة، الصراخ الجنوني. لكن لا نتوقع الجنون الحرفيّ، الزبونة الراضية في قاعة انتظار الطوارئ من تصدق أنَّ زوجها عائدٌ معها إلى البيت.
في نسخة الحزن التي نتصورها، فالنموذج المثالي هو «التشافي». أنَّ خطوةً إلى الأمام هي التي ستسود. وأن الأيام الأولى هي الأسوأ. نتصور أنَّ اللحظة الأشد وطأة هي الجنازة، ومن بعدها سيبدأ التشافي الافتراضي يأخذ مفعوله.
مع تحرّينا الجنازة نتساءل إن كنا سنفشل في «الاحتمال»، الظهور بما يليق، إبداء «القوة» التي لا ينفك الناس يشيرون إليها على أنها الرد الصحيح على الموت. نتوقع الاحتياج إلى الصلابة لحظتها: هل سأكون قادرة على تحية الناس، هل سأكون قادرة على مغادرة المشهد، هل سأكون قادرة حتى على ارتداء ملابسي؟ ولا فكرة لدينا مطلقًا أنَّ الشدَّة الحقيقية لا تكمن هنا.
إذ كيف لنا أن نعرف أنَّ الجنازة ذاتها مهدّئ، مخدرٌ ينحسر تدريجيًّا حيث نحن مدثرون برعاية الجميع، حيث يغمرنا وقار ومعنى المناسبة. وكيف لنا أن نعرف قبل الفقد (وهنا يكمن قلب الاختلاف بين الحزن المتصوَّر والحزن الحقيقيّ) الغياب اللامنتهي الذي سيلي الجنازة، الخواء، النقيض تمامًا من المعنى، التتابع الحثيث للزمن حيث سنواجه اختبار اللامعنى ذاته.
تساؤلات المعنى
كطفلة تفكّرت كثيرًا في اللامعنى، والذي بدا حينذاك النذير المستطير في الأفق أكثر من أي شيء سواه. وبعد عدة أعوام من الفشل في إيجاد المعنى، في أي من الأماكن المعتادة الموصى بها، عرفت أني قد أجده في الجيولوجيا، وهكذا فعلت.
والجيولوجيا بدورها مكنتني من إيجاد المعنى في الصلاة الأسقفية. في تلك الكلمات حيث البصيرة أكثر ما تكون متجلية: «كما كان في البدء، كما الآن وأبدًا سيكون، عالمًا بلا نهاية.» والتي أوَّلتُها الوصف الحرفيّ لناموس التغيير في الأرض. التآكل اللانهائي للسواحل والجبال، التبدل عديم الشفقة في البنى الجيولوجية حيث للجبال والجزر أن تقوم وحيث للجبال والجزر أن تُبتلع.
وجدت في الزلازل، حتى وأنا أعيشها، سلوانًا مرضيًا. كانت الدليل المفاجئ على سير الخطة كما يفترض بها. وأجل، لأمرٌ يدعو للأسف أنَّ لهذه الخطة القضاء في أي لحظة على منجزات الإنسان. لكنها في الصورة الأشمل، لا مبالاةٌ راسخة.
وكما في البدء، يكون الآن وأبدًا سيكون، عالمًا بلا نهاية. في اليوم الذي أعلنوا فيه عن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، تلك كانت الكلمات التي خطرت فورًا إلى عقلي ذي العشرة أعوام. وحين سمعت بعد عدة أعوام عن سحابة عيش الغراب في سماء نيفادا حيث موقع التجارب، تلك أيضًا كانت الكلمات التي خطرت لي. رحت أستيقظ قبل الفجر، أتخيل كرات النار من موقع نيفادا تنطلق وتضيء سماء ساكرمنتو.
لاحقًا، بعد زواجي وإنجاب طفلتي، تعلمت إيجاد المعنى في طقوس الحياة الأسرية اليومية: إعداد المائدة، إنارة الشموع، إيقاد النار، الطهي، كل أطباق السوفليه، كل أطباق الكريم كراميل، كل أطباق اليخنة وكرات اللحم والبامية. الملاءات النظيفة، أكداس الفوط النظيفة، المصابيح الكهربائية لأوقات العواصف، ما يكفي من ماء وطعام حتى نتجاوز الحدث الجيولوجي القادم للانقضاض علينا.
الحزن يأتي بغتة
«تلك الشذرات أسندت إليها حطامي» كانت الكلمات التي خطرت لي حينذاك. وتلك الشذرات كانت مهمة لي. آمنت بها. أن أجد المعنى في الطبيعة الشخصية البحتة في حياتي زوجةً وأمًّا لم يبد لي متعارضًا مع إيجادي المعنى في اللامبالاة العارمة للجيولوجيا ومواقع التجارب. كما أرى فالنظامان يتواجدان على سكتين متوازيتين إلى أن يتقاطعا، وغالبًا ما يتقاطعان وقت الزلازل.
وفي عقلي الجاهل لطالما تصورت وقوع موتي وموت جون وقتَ يتقاطع النظامان للمرة الأخيرة.
كنت مؤخرًا وجدت على الإنترنت صورًا جويّة للبيت في شبه جزيرة بالوس فيردس حيث عشنا بداية زواجنا. البيت الذي أحضرنا إليه طفلتنا كونتن من مستشفى سانت جون في سانتا مونيكا، وأودعناها في مهدها جانب الوستاريّة في حوض الزراعة.
الصور، جزء من مشروع «أرشفة ساحل كاليفورنيا» والهادف إلى توثيق كامل الخط الساحلي، كانت تصعب قراءتها. لكن البيت، كما كان عليه حين عشنا فيه، بدا وكأنه اختفى. البرج حيث البوابة كان ما يزال على حاله، لكن بقية البناء بدا غريبًا عليّ. بدا أنَّ هناك حمام سباحة مكان حوض الوستارية.
المنطقة ذاتها عرّفوها بموقع «انهيال المجرى البرتغاليّ». ولك أن ترى التل المنهار حيث الانهيال وقع. ولك أن ترى أيضًا، تمامًا عند قاعدة الجرف، الكهف حيث اعتدنا أنا وجون السباحة متى ما فاض المد إلى الارتفاع المناسب.
أن تغمرنا المياه الصافية.
تلك كانت طريقة توقعت فيها أن يتقاطع النظامان.
لكنّا نسبح في الكهف مع مد الماء الصافي وينهار الجرف علينا، ينزلق إلى البحر حوالينا. انهيار قاعدة الجرف نحو البحر حوالينا كانت النهاية التي توقعتها.
لم أتوقعها سكتة قلبية على مائدة العشاء.