كيف تتقاذف «خالات واتساب» نيران أخبار كورونا الكاذبة؟
الأخبار الكاذبة دائما ماتنتشر، من مجموعات خالات الواتساب إلى التصريحات السياسية، لكن كيف نكافحها وماهي مسؤوليتنا الأخلاقية قبل نشر أي خبر؟
يكفيني تصفح مجموعة عائلتنا «الواتسابية» لأرى اشتعال الأخبار الكاذبة وانتشار نيرانها في هشيم الإنترنت. تتزاحم في المجموعة رسائلُ من أقاربنا تحكي قصصًا خيالية عن لقاح كورونا. تدّعي بعضها أن كبير خبراء الأمراض المعدية، أنتوني فاوتشي، يكذب على الشعب الأميركي عن اللقاح، وأخرى تقول إن أعراضه الجانبية تشمل الموت.
ولم أنسَ ذلك الخبر المُزيف الذي أخاف الكثيرين بادعاءات وهمية حول إدخال شريحة صغيرة إلى الجسم من خلال اللقاح، وأنَّ مخترعها ليس سوى بيل قيتس نفسه.
قد تبدو هذه الرسائل وغيرها مُضحكة وتافهة بالنسبة إلينا، فيظهر زيفها جليًا أمام كل من يعرف طبيعة عالمنا الرقمي. لكن ثمة تساؤل بيقى عالقًا في خاطري: إن كان تزييف تلك الأخبار واضحًا، فلِمَ تنتشر أساسًا؟
تاريخٌ طويل من «الأخبار الكاذبة»
مع أن مصطلح «الخبر الكاذب» لم يتخلل كلامنا اليومي إلا حديثًا، إلا أن انتشار الأخبار المضللة في مجتمعاتنا قديمٌ قدم الزمن. وقع موقف شهير نُشرت فيه أخبار كاذبة في القرن الأول قبل الميلاد. وقت أطلق الإمبراطور الروماني الأول أوكتافيان حملة تضليل ضد منافسه مارك أنتوني، وصورّه على أنه مخمور ومجرد دمية في يد الملكة المصرية كليوباترا السابعة. قد تكون ادعاءات زائفة لكنها أثارت غضب الجماهير الرومانية.
وحتى يشيع الخبر في المجتمع، أوصل أوكتافيان رسالته إلى الجمهور من خلال شعارات وأبيات شعرية قصيرة مطبوعة على العملات المعدنية. أشبه بنسخة قديمة من إصدار كتاب لشخصية سياسية أو إرسال منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي نهاية المطاف، انتصر أوكتافيان وانتحر مارك أنتوني بعد هزيمته في معركة أكتيوم، وبعد سماعه شائعات كاذبة روّجت لها كليوباترا نفسها تدعي انتحارها.
تجددت طرق انتشار الأخبار الكاذبة على مر العصور. فالأخبار التي كانت تُنقل شفهيًّا على الألسنة من عائلة إلى عائلة، ومن جار إلى جار، تحولت إلى صورة أخرى حينما شرعت الصُحف المطبوعة في نقلها، وأصبحت نيران الأخبار الكاذبة تنتشر بين القراء.
أثناء الحرب العالمية الأولى، نشرت الصحف البريطانية قصة مروعة اشتُهرت باسم «مصنع الجثث الألماني»، تدّعي أن الألمان يستخرجون الدهون من جثث الجنود القتلى على جانبي الحرب لصنع الصابون والمارقرين. مع أن زيف القصة كان معروفًا، لم تمتنع الصُحف عن نشرها، وإقناع القراء بأن الألمان كانوا أعداءً شرسين يستحقون الهزيمة.
ثم جاء القرن الحادي والعشرون حاملًا معه انفجار المعلومات عبر الإنترنت، ليأخذ انتشار الأخبار الكاذبة شكلًا جديدًا ذا سرعة هائلة لا تُقارن أبدًا بسابقتها. أدّى الوصول إلى شبكة الإنترنت والمتاح في أنحاء العالم إلى انتشار القصص في غضون ثوانٍ، بدلاً من الأسابيع.
وأدلُّ شاهد ما حصل في الانتخابات الأميركية لعام 2016، حين خرج انتشار الأخبار المزيفة عن السيطرة وتركت أثرًا بالغًا في عملية التصويت.
كيف ساعدت «الأخبار الكاذبة» ترمب على الفوز
هنا صبَّ الرئيس دونالد ترمب الزيتَ على النار، فشاع المصطلح الذي نال شهرة هائلة على لسانه: «fake news» (الأخبار الكاذبة). وراح هذا المصطلح يظهر في كل مكان إلى أن توقف فيسبوك عن استخدام «fake news» وأبدلها بالمصطلح «false news» (أخبار خاطئة). وجاءت خطوة فيسبوك حينما اتضح أن مؤيدي ترمب أعادوا تعريف «fakenews» للإشارة إلى وسائل الإعلام المعارضة لهم، وليس بالضرورة إلى الأخبار الكاذبة فعلًا.
وذكر العديد من المحللين والوسائل الإعلامية أن الأخبار الكاذبة لربما أثرت على نتيجة الانتخابات، حيث شهدت مشاركة أعلى على فيسبوك مقارنة بالأخبار الحقيقية. ويعود السبب لكون الأخبار المزيفة غالبًا ما ترضي التوقعات أو تكون أكثر إثارة من الأخبار الحقيقية، لا سيما إنْ كانت متعلقة بهزيمة الخصوم، كمارك أنثوني، أو الألمان، أو معارضي ترمب. فكثيرًا ما لعبت الأخبار الكاذبة دور السلاح السياسي؛ تُوظّف في حملات دعائية لإضعاف الأعداء.
تُثبت مشاركة مؤيدي ترمب للأخبار الكاذبة أننا نؤمن بما يتوافق مع توقعاتنا ويؤكد ظنوننا. تُسمّى هذه الظاهرة بالـ«الانحياز التأكيدي»، الذي يجعل المرء يميل للبحث والتفسير وفق معتقداته، وتذكر المعلومات المتوافقة مع افتراضاته.
على سبيل المثال، لو كنتُ أعارض شخصية سياسية ما، سأميل للبحث عن معلومات سلبية تدعم رأيي المسبق فيها، وسأصيغ حتى إيجابياتها بصورة تشوّهها أو تُبرز لي أنها ليست أهلًا للثقة.
إذن بتجنُّبنا البحث عن الحقائق الموضوعية، وبتفسيرنا المعلومات على النحو الذي يرسخ معتقداتنا الحالية، غالبًا ما سنفقد معلومات وتفاصيل وحقائق مهمة لها أثر على قراراتنا. هذا النهج المنحاز في البحث عن المعلومة هو ما يقف حاجزًا بيننا وبين التأكد من المعلومات التي نتلقاها.
فهل نشارك ما نشاهده ونقرأه فقط لأننا نظنّه صحيحًا؟ أو هل يجدر بنا التمعّن في المعلومات التي نتناولها وبعُمق، فندرك أن هناك فروقًا طفيفة وسياقات لم نلحظها؟
منصات التواصل الاجتماعي تذكي النيران
يساهم تصميم منصات التواصل الاجتماعي وطبيعتها في مشاركة المعلومات الخاطئة. إذ يتنقل المستخدمون بسرعة بين كمٍّ هائل من المحتوى الجذاب ويتلقون تعليقات فورية حول مشاركتهم، ومن شأن ذلك إثناء الأشخاص عن تحرّي الدقة.
كما تقدم هذه المنصات لمستخدميها منشورات وإعلانات مبنية على ما يطّلعون عليه ويشاركونه. لذا سنجد أنَّ خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على تكثيف الانحياز التأكيدي لدينا من خلال تقديم المحتوى الذي يعزز أفكارنا ومعتقداتنا. فالذين يشاركون أخبارًا كاذبة قد لا يرون أصلًا غيرها في شاشاتهم حينما يتصفحون الإنترنت.
وفي تجربة أجرتها مجموعة من الباحثين على عينة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، تبيَّن أنَّ نقص الانتباه كان الدافع وراء أغلب المعلومات الخاطئة التي شاركوها بينهم. فالعديد من المستخدمين يشاركون أخبارًا مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي لأنهم -ببساطة- لا ينتبهون لدقة المحتوى من عدمها، وليس بالضرورة لكونهم غير قادرين على تمييز الأخبار الحقيقية من الأخبار المزيفة.
فوجود الانحياز التأكيدي لدى العديد من المستخدمين يخلق نوعًا من الإيمان الجمعي بفكرة ما، ويؤدي إلى تصديقها لأنها تدعم معتقدات سابقة، دون أساس تستند عليه.
هذا لا يعني أن طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي هي العامل الوحيد في انتشار الأخبار الكاذبة، فثمة شرارة أخرى تُشعل هذه النار. إذ أثبتت دراسة أن الكذب في تويتر مثلًا، ينتشر بشكل أبعد وأسرع وأوسع من الحقيقة. وتبرز التأثيرات أكثر وضوحًا في الأخبار السياسية الكاذبة، مقارنةً بالأخبار الكاذبة عن الإرهاب أو الكوارث الطبيعية أو الأساطير الحضرية أو المعلومات المالية.
كذلك تبين أنَّ الأخبار الكاذبة أكثر حداثة من الأخبار الحقيقية، ما يشير إلى أن الناس يميلون أكثر لتبادل المعلومات الجديدة.
«واتساب» أرضٌ خصبة للأخبار الكاذبة
تأثير الأخبار الكاذبة السياسي لا يعني أنها لا تلعب أدوارًا أخرى. فلا ننسى خالاتنا الحبيبات ورسائلهن «الواتسابية» والتي تنقل في طيّها أخبارًا كاذبة عن كل شيء، من فوائد تناول الثوم لمنع فيروس كورونا، إلى إلغاء كل الاختبارات المدرسية والجامعية، حتى التي عن بُعد.
وهكذا أصبح المصطلح المُضحك «خالات واتساب» (WhatsApp aunties) شائعًا بين الشباب الذين اعتادوا تلقي رسائل كهذه من أقاربهم الكبار بالسن.
وثمة أسباب لكون واتساب المنصة المثالية لخالاتنا. فمقارنةً بالمخضرمين الرقميين ممن يستقون أخبارهم من مصادر عديدة على الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية، يمتلك كبار السن نظامًا لتلقي المعلومات يتمحور حول نقل الأخبار من شخص إلى شخص، ما يدل على عدم ثقتهم في وسائل الإعلام الرئيسة.
كذلك، وفي أغلب الأحيان، يمثل واتساب المصدر الرقمي الوحيد لتلقي المعلومات والأخبار لدى كبار السن. وعلى الرغم من نواياهم الطيبة، فواتساب أرضٌ خصبة للأخبار الكاذبة. إذ يوفر التطبيق تشفيرًا شاملًا لا يمكن معه تتبع الرسائل المعاد توجيهها إلى مصدرها، السبب نفسه الذي يدعو العديدين لاستخدامه.
جعل ذلك واتساب عاملًا رئيسًا في انتشار المعلومات المضللة أثناء الجائحة. حيث لجأ الأصدقاء والأقارب القلقون إلى المجموعات الخاصة لإعادة توجيه النصائح الطبية أو التكهنات حول خطط الحكومة.
وتعد مراقبة واتساب وبقية تطبيقات المراسلة الخاصة أصعب بكثير من مراقبة فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب، لأننا في وسائل التواصل الاجتماعي نعتمد على قيام الآخرين بالإبلاغ عن الرسائل المضللة.
يرجّح بعض العلماء والصحفيون أن «التدهور المعرفي» (Cognitive decline)، الذي يظهر عبر أعراضٍ كقلة التركيز وكثرة النسيان، يدفع كبار السن إلى مشاركة الأخبار المزيفة. لكن هذا لا يفسر السبب تمامًا، إذ تشير الأبحاث إلى أن التغيرات الاجتماعية والأميّة الرقمية تعرّضهم أيضًا لخطر نشر معلومات مضللة. فالأكبر سنًّا لا يطّلعون على شريحة واسعة من الأخبار المتنوعة، بل على أول ما يصلهم من خلال واتساب، أسهل المنصات استخدامًا بالنسبة لهم.
لكن كيف يمكن مكافحة حجم الأخبار الكاذبة الهائل والمنتشر من خلال واتساب؟ ألا يضع هذا الخطر مسؤولية كبيرة على التطبيقات نفسها؟
جهود مكافحة الأخبار الكاذبة
منذ أبريل 2020، يمنع واتساب إرسال الرسائل المحوّلة بين المستخدمين أكثر من خمس مرات إلى أكثر من مجموعة في الوقت ذاته. ورغم كون هذه الخطوة صغيرة في رحلة مكافحة الأخبار الكاذبة، تظل بداية موفقة تقف حاجزًا أمام الانتشار السريع، وتجبر المُرسِل على التفكير والتأكد قبل الإرسال.
ليس واتساب المنصة الوحيدة التي تسعى لمكافحة الأخبار الكاذبة. ففي يناير 2021، أطلقت تويتر مبادرة «بيرد ووتش» (مراقبة الطيور)، والتي تتيح للمستخدمين الإبلاغ عن الأخبار غير الحقيقية. إلا أن «بيرد ووتش» متاحة حاليًا فقط للمستخدمين في الولايات المتحدة. كذلك، ومنذ مارس 2021، بدأت تويتر بإرفاق إشعارات على التغريدات التي قد تحتوي على معلومات مضللة حول لقاحات كورونا.
أما «قوقل نيوز»، فأنشأت صندوقًا عالميًا بقيمة ثلاثة ملايين دولار أميركي لمكافحة المعلومات المضللة عن اللقاحات، وتهدف إلى دعم المؤسسات الصحافية للتحقق من المعلومات. واعتمدت «فيسبوك»، على الذكاء الاصطناعي في وضع التحذيرات على المنشورات التي تتضمن معلومات مضللة. ومن خلال «مشروع فيسبوك للصحافة»، عقدت شراكات في عدة دول لدعم المؤسسات الإعلامية، ومساعدتها في الحد من الأخبار المزيفة.
مسؤولية ناقل الخبر الأخلاقية
مع أن مبادرات عمالقة التكنولوجيا تلعب دورًا في مكافحة الأخبار الكاذبة، تقع المسؤولية الكبرى على كاهل المستخدم ليتأكد مما ينشره، وذلك عبر النظر في المصدر وقراءة التفاصيل ما وراء العنوان الرئيس لفهم الصورة كاملة دون الاتكاء على العنوان فحسب. ومن المهم أيضًا التحقق من مصداقية الكتّاب وتقييم المصادر الداعمة للخبر. أما التحقق من تاريخ النشر، فيساعد المتلقي في معرفة ما إذا كان الخبر حديثًا وذا صلة.
قد يكون الهدف من وراء بعض الأخبار السخرية، وليس نقل معلومات دقيقة. وتقييم مصدر الخبر وموثوقيته هو ما سيساعد القارئ في فهم أهداف الخبر وتوجهاته. أما عن الانحياز التأكيدي، فلا يخلو أحد فينا من عوامل تؤثّر في أحكامه وقرارته. ويمكن معالجته بالاعتراف به أولًا وفهمه، ثم الاطلاع المتعمد على محتوى هادف مبني على أسس وأدلة، حتى وإن لم يكن منسجمًا مع آرائنا.
وأما أحبتنا وأقاربنا الكبار في السن، فلا يصح أن نحاسبهم لنشر الأخبار الكاذبة دون النظر إلى أنفسنا أولًا. فدورنا في محو الأمية الرقمية أمر في غاية الأهمية، لا سيما في بحر هائج من الأخبار المحيرة التي تنتشر أثناء الجائحة. فإن كان دور كبارنا أن يعلّمونا كيفية استخدام الأوراق والأقلام، حان دورنا الآن في تعليمهم كيفية استخدام الإنترنت بعيون مدركة وفطنة، تعي ما يحصل في عالمنا الرقمي.