أمناء المكتبات ينتمون إلى خانة الأبطال

المكتبة ليست مجرد رفوف وورق يؤدي وظائفه التشغيلية والمادية، بل هي الحيز النابض الذي يكفل للبلاد والشعوب الذاكرة الجمعية.

أمينة مكتبة «أوتندورف» / Getty Images
أمينة مكتبة «أوتندورف» / Getty Images

أمناء المكتبات ينتمون إلى خانة الأبطال

إيمان العزوزي

كدأب مجلة «التايم» الأمريكية كل عام، أصدرت قائمتها لمئة شخصية تعتقد أنهم الأكثر تأثيرًا في عام 2023. ضمت القائمة أسماء رياضية وسياسية وفنية وغيرها، وتراعي المجلة في هذا الاختيار مهن المؤثرين وثقل حضورهم في الأحداث العالمية وأخيرًا مدى تأثيرهم في الجماهير. لا يوجد ترتيب معين للشخصيات حسب الأفضلية بل توزع كمجموعات تحت «خانات» معينة، واختارت المجلة هذه السنة ست «خانات» امتازت بعناوين مميزة وطريفة بالنظر إلى الأسماء التي ضمتها، حيث وُزِّعت الأسماء على «خانات» الفنانين والأيقونات والرواد والقادة ثم الجبابرة!

ما يهم نشرتنا هو علاقة هذه القائمة بعالم الكتب والقراءة؛ فلا يزال حضور الكتاب والأدباء بخاصة ضعيفًا بالمقارنة مع المجالات الأخرى، حيث اهتمت القائمة هذه السنة بأربعة أسماء فقط وُزِّعَ معظمها على فئة «الفنانين»، فبرز اسم الروائي البريطاني نيل قيمان الذي دافع الممثل جيمس ماكافوي عن أحقية وجوده في القائمة قائلًا: «ما أحبه لدى قيمان هو تأكيده ضرورة سرد القصص، إنه أمر متأصل في حمضنا النووي». 

كما برز اسم الكاتبة المسرحية سوزان لوري باركس التي وصفها الممثل الأفرو أمريكي سترلينق ك. براون بأن على اسمها أن يغدو مألوفًا. ثم تأتي بعدهما في فئة «الفنانين» دائمًا الكاتبة الأمريكية كولن هوفر التي أسهم نشاطها في تك توك أيام وباء كورونا والحجر في فرض شعبيتها بين الشباب. وعلى رغم اقتناعها بأن أدبها لا يرقى إلى مصاف الأدب الرفيع فإن رقم مبيعاتها يفرض وجودها ضمن المؤثرين في الأدب العالمي. 

كما كرمت القائمة الكاتب البريطاني ذا الأصول الهندية سلمان رشدي ضمن خانة «الأيقونات»، وكان قد تعرض السنة الماضية لهجوم بولاية نيويورك نتيجة التهديد الذي واجهه لسنوات بسبب روايته «آيات شيطانية».

اللافت هذه السنة في القائمة، غير تصنيف كيلان إمبابي لاعب باريس سان جيرمان ضمن خانة «المبتكرين»، بزوغ نجم أمينة مكتبة ضمن «خانة الأيقونات». وهذه هي المرة الأولى التي تبجل فيها القائمة هذه المهنة وتمنحها التقدير الذي تستحقه. وإلى جانب الملك تشارلز الثالث المتوَّج هذه السنة على رأس التاج البريطاني تُوجت أيضًا تريسي د.هال أيقونة يقتدى بها. إذ تنقلت تريسي بين عدة مكتبات ومهن مرتبطة بالشأن الثقافي، وتدير حاليًا جمعية المكتبات الأمريكية، وهي منظمة غير ربحية تعنى بدعم كل ما يهم المكتبات وتسهم في نشر القراءة وحماية حرية التعبير ومواجهة كل أصناف الرقابة. 

تعد تريسي أول امرأة ذات أصول إفريقية تدير هذه الجمعية، واشتغلت بدعم المكتبات العامة وحاولت إتاحة كل الكتب بمختلف أصنافها ومجالاتها للقارئ الأمريكي أيًا كانت أصوله. تؤمن تريسي بأن مزية الشعب الحر هي أن يقرأ ويعلي من قيم التعليم والتعبير وأن يؤمن بأن سر الحرية يكمن خلف الكلمات.

قد يكون اختيار تريسي نتيجة طبيعية لتزايد ضغط «الصوابية السياسية» على كل مناحي الحياة الثقافية بالولايات المتحدة، لكنه حضور يعيد إلى الأذهان قصصًا أخرى في سياقات أشد رعبًا ومأساوية تستدعي تكريم أمناء المكتبات والمتطوعين من المواطنين والقراء الذين شكلت لهم المكتبات والكتب نزعة إنسانية تواجه العنف والدمار الموجود على أرض الواقع. فهؤلاء أدركوا أن:

المكتبة ليست مجرد رفوف وورق يؤدي وظائفه التشغيلية والمادية، بل هي الحيز النابض الذي يكفل للبلاد والشعوب الذاكرة الجمعية ويصون الهوية ويمنع العدو من الانتصار على التاريخ وإعادة تشكيله. Click To Tweet

فالمكتبات تقع ضحية لغضب الطبيعة كما قد تطاولها فاجعة التوحش البشري. ففي عام 1966 عرفت فلورنسا أعنف فيضان مر بالمنطقة، وألحق تدفق نهر «أرنو» أضرارًا بليغة بالمكتبة الوطنية التي تطل عليه، وأسرع القائمون على المكتبة إلى وضع خطة طوارئ منظمة بمشاركة المتطوعين القادمين من كل أنحاء إيطاليا الذين لقبوا بـ«ملائكة الطين». 

حرصت «السلسلة البشرية» على إنقاذ الكتب وتنظيفها من الطين ثم تجفيفها قدر المستطاع، ولا تزال المكتبة حتى هذه اللحظة، وبعد سنوات طوال منذ الكارثة، تعمل بصمت بأيدي مجموعة صغيرة من المختصين على محاولة ترميم الكتب وبعثها من جديد بين يدي القارئ، الذي لن ينسى بسهولة هيئة المنقذين الأوائل العالقين في الطين والبرد والمياه، وهي الهيئة التي وثّقتها كاميرات المصورين ومخرجي الأفلام.

وغير بعيد عن إيطاليا، ما زلنا نتذكر بفخر وأسى أبطال سراييفو الذين وقفوا سدًا منيعًا أمام الهمجية الصربية التي استهدفت مكتبة «الغازي خسرو بك» بمدافع «الهاون»، واستهدف القناصة رجال الإطفاء، بل وصلت البربرية إلى قطع المياه عن المنطقة. كان إصرار الصرب على حرق المكتبة وتدميرها ممنهجًا لاغتيال الجزء المسلم في البوسنة وقطع أي جذر موثق يثبت وجودهم ضمن نسيج المجتمع. 

وقد تنبَّه القيِّمون على المكتبة وكذا العاملون بها والمواطنون المتطوعون إلى جوهر الإبادة المعنوية التي ترمي إلى محو أثرهم وتراثهم؛ فشكلوا دون تردد «سلسلة بشرية» امتدت مسافات من أجل تمرير الكتب والمخطوطات والوثائق المدنية وإنقاذها، وظلوا ثابتين في أماكنهم على رغم استمرار القصف ونيران القناصة. وقد علَّق كينان سيلينتش رئيس فرقة الإطفاء آنذاك مفسرًا إصرارهم المدهش بقوله: «لأنني ولدت هنا في سراييفو، وهم يحرقون جزءًا مني.»

ولم تكن الراحلة عالية محمد باقر التي شغلت منصب أمينة المكتبة المركزية لمدينة البصرة أقل وطنية ووعيًا بما تشكله المكتبة لمواطني المدينة والعراق؛ فبين أروقة المكتبة تفوح حيوية المدينة الثقافية والفكرية وتنسج أولى خيوط المقاومة والنضال. فمتى أصيبت الذاكرة فقَدَ الإنسان جوهره وأصالته وانمسخ مقلدًا وتابعًا لغيره. 

وهكذا وبمجرد دخول القوات البريطانية والأمريكية إلى المدينة أسرعت عالية بمساعدة العاملين بالمكتبة إلى إنقاذ آلاف المخطوطات والكتب ونقلها إلى مطعم قريب، وبعد أسبوع احترقت المكتبة بالكامل. وأصاب الذهول والصدمة السيدة عالية فنقلت الكتب مرة أخرى إلى بيتها وحافظت عليها إلى أن استقرت الأوضاع لتعيدها مجددًا إلى المكتبة وإلى العراق.

وفي سوريا ومن تحت الركام والأسى والدمار استطاع أربعون شابًا من سكان داريا المحاصرة زمن الحرب أن ينقذوا مئات الكتب المهجورة والعالقة تحت الأنقاض غير مكترثين بصعوبة الأمر وخطورته، وأسسوا مكتبتهم السرية التي ضمت نحو خمسة عشر ألفًا من الكتب في شتى المجالات. يعلِّق أحد الشباب واصفًا نشاطهم المحموم على رغم القصف المستمر للنظام السوري قائلًا: «القراءة تذكِّرنا بأننا بشر». ولم يفت الشباب وأمناء المكتبة أن يسجلوا أسماء المالكين الحقيقيين للكتب، آملين أن يعودوا يومًا بحثًا عنها وعن حياة تركوها خلفهم هربًا من رعب الحرب.

ربما يتجاهل التاريخ صفحات أخرى تحكي قصصَ «ملائكة الكتب»، أولئك المغمورين الذين فضلوا البقاء في الظل ولم يهتموا بشهرة أو توثيق، الذين بذلوا أقصى ما في استطاعتهم لإثبات حق الإنسان في الكلمة المكتوبة التي تنفخ في المجتمعات روحها وتساعدها على التواصل والتفاعل مع غيرها، وتسلِّحها بالقوة والأمل لمواجهة خفافيش الظلام المتعصبة والتعايش مع مخلفات الكوارث الطبيعية. ونبقى مع هذا الإنسان نردد دائمًا ما أكده بورخيس «إن المكتبة أبديَّة».


  1. جرى الإعلان عن الروايات الست التي ستتنافس على جائزة «البوكر» لهذا العام، وكان لافتًا أن جميع المؤلفين الستة مرشحون للمرة الأولى. وقد واجهت تلك الترشيحات بعض الانتقادات، أهمها ترشيح الحكَّام عددًا أكبر من الرجال: أربعة رجال مقابل امرأتين، وهي الغلبة الأولى للرجال في القائمة منذ ثمان سنوات. لكن صرَّح رئيس لجنة التحكيم إيلي إدوقيان بأن «قوة العمل وجودته كان المعيار الذي أوصل هؤلاء الكتاب إلى القائمة». وسيُعلن عن الفائز في 26 نوفمبر القادم.

  2. توفي الأحد ٢٣ سبتمبر الكاتب والصحافي السعودي هاني نقشبندي عن عمرٍ ناهز ستين عامًا. وُلد الراحل في المدينة المنورة عام 1963، وتخرج في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، ودخل المجال الإعلامي عام 1984، وعمل رئيس تحرير مجلتي «سيدتي» و«المجلة»، كما أنه أحد مؤسسي مجلة «الرجل». أصدر أول عمل روائي له بعنوان «اختلاس» عام 2007، لكن الرواية مُنعت في العديد من الدول العربية، ثم أُعيد نشرها وترجمت إلى اللغة الروسية. 

  3. صدرت حديثًا عن دار «سطور» رواية «الدكتاتور الضفدع» للأديب الروسي فلاديمير نابوكوف، ترجمها إلى العربية عمار كاظم محمد. وتصدر «دار كلمات» النص الأصلي لقصة «كسارة البندق»، من تأليف أرنست تيودور أماديوس هوفمان، ونقلَتها إلى العربية بثينة الإبراهيم.


من عبدالله الحواس:

  1. بيريرا يدَّعي، أنطونيو تابوكي

    تتميز الرواية بأسلوب نوعي وغير شائع مع احتدام الأحداث بتدرج سلس، حيث ستجد بطل الرواية «بيريرا» يدَّعي دائمًا في وصف الأشياء والأحداث من طريق صوت مجهول في الرواية. بيريرا صحافي مسؤول عن القسم الثقافي في صحيفة محلية يعيش برتابة لوحده مع صورة زوجته الراحلة المؤطرة التي يتحدث معها كل يوم، ويخترع مصطلح «كونفدرالية الأرواح» ليسوِّغ تغير البشر المستمر.  كل شيء يبدو عاديًا في حياته حتى يقتحم شاب ثوري هذه الحياة فيضفي عليها الإثارة.

  2. التخلَّي عن الأدب، عبدالفتاح كيليطو

    يتناول الناقد والأديب المغربي المعروف مسألة تخلَّي الأدباء عن أدبهم في لحظةٍ من مراحل حياتهم. ويستعرض نماذج مختلفة ممن تخلوا أو جرى التخلي عنهم كـ«دون كيخوته‏» و«أبي زيد السروجي» في مقامات الحريري، وآخرين ممن تمسكوا أو جرى التمسُّك بهم كأبي العلاء المعري والأرجنتيني بورخيس. هذا الكتاب هو تحليل فكري لما هو قابع خلف معاناة الأدباء.

  3. مأساة أن تكون جادًا، هاجر سعود

    سطرت الكاتبة مجموعة من القصص القصيرة ذات البعد الفلسفي بنكهة أدبية رفيعة وسرد رشيق. جاء عنوان الكتاب تيمنًا بعنوان قصة من ضمن المجموعة تنتقد بشكل غير مباشر جدية الإنسان وكأنه سيعيش أبد الدهر. كما تحتوي على قصص أخرى برسائل مبطنة تستفز ذكاء القارئ وفطنته. اللافت أنَّ الكاتبة استهلت كل قصة بشذرة من كتابها الأول «سفر اللامعنى» تحمل في طياتها معنى القصة التي تمهد لها.

  4. سؤال الحب: من تولستوي إلى آينشتاين، علي حسين

    يسلط الكاتب العراقي الضوء على واحد من أعقد الأسئلة في تاريخ البشرية. والمثير في ذلك أنه بحَث عن إجابته بين ألسنة المفكرين والأدباء الذين نعتقد بأنهم يملكون حلول كل الأحجيات، متنقلًا بين مفهوم الحب عند كثير من الفلاسفة والكتاب. يجد الكاتب نفسه أمام أوفيد في موسوعته «فن الهوى» وفلاسفة مثل بول سارتر وسيمون دى بوفوار اللذين جمعهما ذلك الشعور المخدِّر. ألا يكفي لهذا الحب تبجيلاً أن يرغم شيخًا مثل تولستوي على العزلة ليخرج للعالم بملحمته الخالدة «آنا كارينينا»؟

الكتبالمكتبة
نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.