ليس من السيئ أن تكون قارئًا سيئًا

لكي نفهم آلية القراءة السيئة علينا أن نكشف أهم ممارسات قارئ الكتب السيئ ونركز في فعل القراءة الذي يتبناه ويساعده على الاستيلاء على النص وتنحية المؤلف وطرده.

قراءات منتصف الليل / Getty Images
قراءات منتصف الليل / Getty Images

ليس من السيئ أن تكون قارئًا سيئًا

إيمان العزوزي

نضطر أحيانًا إلى الخضوع لأصوات تحتكر معنى «القراءة الجيدة» وتضع في طريقنا اشتراطات طويلة للكتب التي ينبغي أن نقرأها والطريقة التي ينبغي أن نقرأ بها حتى تعترف بنا «قراءً جيدين». أحيانًا لا تكون هذه المطالبات واضحة لكننا نشعر بها، وتتغير أقنعتها بتغير «الترند» وإحصاءات المبيعات و«تكريس» الجوائز الأدبية لكتب بعينها أو كُتَّاب محددين، وما تفرضه مراجعات الكتب ومدارس النقد من طرائق للقراءة تُعتمد منهجًا.

لكن ماذا لو وقفنا في الضفة الأخرى وقاومنا هذا التيار ورضينا بأن نُتهم بأقذع الأوصاف من أولئك وفضّلنا أن نكون بمحض اختيارنا وبكل قوانا العقلية «قراء سيئين»؟! سأقدم في هذه المقالة طريقة لذلك؛ استلهامًا من كتاب «في مديح القارئ السيئ» لمكسيم ديكو.

مواصفات قارئ الكتب الجيد

علينا أن نتعرف أولًا إلى خصمنا اللدود (القارئ الجيد)، وأن نحدد صفاته حتى نتجنب رفقته ما استطعنا. سنتعرف إليه بسهولة؛ لأنه يقف على قراءاتنا بكل جرأة وفصاحة محاولًا إرباك قناعاتنا وفرض وجهة نظره المقيدة بأغلال النص وقواعده، ويحرص أن تبقى رؤوسنا منحنية طيلة القراءة وألّا نرفعها إلا ونحن مقتنعون بكل تأويلاته.

هو دكتاتور لا يؤمن سوى بالقراءة الميّتة كما وصفها بارت، تلك التي لا تصغي سوى إلى جلادها الأول: الكاتب ونصه، نجده يتبرأ من قراءاته الأولى الساذجة والطفولية، ويستخدم زمن الماضي متى ذكَّرناه بها؛ فهي لم تعد ترقى إلى مصاف قراءاته الحاضرة التي تمنحه فرصة الارتقاء في سلّم وهمي تخيّله واقتنع بوجوده.

هل ينطبق عليك تعريف قارئ الكتب الجيد؟

المفارقة التي يجلبها التعريف السابق للقارئ الجيد تكمن في أننا جميعًا، إلا من رحم ربي، نعتقد أننا نملك مقاليد القراءة الجيدة، وأننا بلغنا مقصد النص وفهمنا تعرجاته ووقفنا على تلاعبات الكاتب وما أظهره وما أخفاه، ونتوهم أننا نمثّل النموذج وننتظر من الآخرين الاقتداء به، ونتجاهل أول قاعدة في القراءة تلك التي ذكرها مكسيم ديكو في تصدير كتابه: أننا لا نقرأ جميعنا الكتاب نفسه بالكيفية نفسها، ومع ذلك نعتقد أننا، في نظر أنفسنا على الأقل، قراء جيدون، أما القارئ السيئ فهو ذاك البعيد عنا والآخر الذي أتجنبه.

وبالتالي هكذا يكون القارئ السيئ من يقرأ بطريقة تختلف عن طريقتنا، وحُكِم عليه بعين قارئ آخر، وعُدّ لفترة طويلة كما يذكر مكسيم ديكو شخصًا غير مرغوب فيه.

لم يقف القراء السيئون مكتوفي الأيدي، بل قاوموا إغراء القراءة الجيدة وفضّلوا الانغماس في قراءة تشبههم. شخصية إيما بوفاري في رواية «مدام بوفاري» وشخصية «دون كيشوت» وغيرهما شكّلوا الصف الأول من هذه المقاومة، وبعثوا إلى الوجود نوعًا فريدًا من القراءة لم يكن سائدًا ولا مرغوبًا، فحاربها المجتمع من خلال مقاضاة هذه الأعمال على غرار محاكمة فلوبير مؤلف «مدام بوفاري»، كما حاربتها الكنيسة واتُّهم أصحابها بالتجديف والجنون، بل حاربها الطب كذلك بوصفها مرضًا خبيثًا ينتشر بسرّية تامة.

إشكالية القراءة السيئة

نفترض إذن أن القراءة السيئة هي مقاومة صنم القراءة الواحدة، هي دعوة مفتوحة نحو تعدد القراءات بتعدد القرّاء، هي الانحرافات القرائية التي نخشاها؛ لأنها تكشف رؤى جديدة تتجاوز حدود النص وأفقه.

علاوةً على ذلك، يؤكد مكسيم ديكو في كتابه أن كل قارئ أمام نص جديد يعتريه القلق ويحيره سؤال «كيف يجب أن أقرأ هذا النص جيدًا؟». لكن السؤال الأصح هو كيف عليّ أن أقرأه قراءة خاطئة، قراءة تسمح بتسلل سلوكيات تخريبية تهدم منطق النص وتزيح سلطته وتفسح المجال لتحيزاتنا ورغباتنا وأحيانًا أوهامنا!

وفقا لديكو: قد يولّد الأدب هذا النوع من القراءات ويقصدها؛ لأنه يراها الأصلح للتعاطي مع النص واستكشافه، فمن خلال نصوص عصية على التفسير يلجأ القارئ إلى إيجاد نُسَخ تتماهى مع شخصيته، لكن ديكو يشير في كتابه أيضًا إلى أن تماهي القارئ مع النص ليس مأمون العواقب؛ فالقراءة التي تستهوي القارئ السيئ تراوح بين الانغماس والتفكر.

ولكي نفهم آلية القراءة السيئة علينا أن نكشف أهم ممارسات القارئ السيئ ونركز في فعل القراءة الذي يتبناه ويساعده على الاستيلاء على النص وتنحية المؤلف وطرده.

حسب ديكو يوجد أسلوبان لهذه القراءة كلاهما يُبنى على الارتجال والتطفل. القراءة الأولى هي «المتحللة من القيود»؛ حيث يعتمد القارئ على انتباه عائم لا يركز في النص كله، بل يختار منه ما يناسبه فيقفز الفقرات والصفحات، كما يمكنه أن يرفع رأسه متى رغب، بل قد يغامر ويفكك نظام النص بأكمله ويقرأ في كل الاتجاهات. أما القراءة الثانية فهي «التدخلية»؛ حيث يكون القارئ أشد عدائية مع النص ويعيد تركيبه وكتابته. لا تخشَ أيها القارئ السيئ؛ فديكو يقدم لك هذه الممارسات مدعومًا بأسماء كبار الكتاب والقراء أمثال بروست وميشيل دي مونتاني.

ولكن كيف نستطيع تبرير لجوء القارئ إلى هذا النوع من القراءة، وكيف يمكننا أن نقنع القارئ الجيد بأن ينحاز إلى صفنا؟ يقدم ديكو في آخر كتابه أبرز مبررات هذا التحول؛ فحين يقف القارئ على فشل معايير فهم النص يبحث عن منطق وممارسات تعويضية تكفل له هذا الفهم.

القراءة السيئة في جوهرها شكل من الاحتجاج على فرض فهم معين سواء بواسطة النص أو الثقافة كما يؤكد ديكو؛ لهذا أرجو منك أن تحتج وتقرأ هذه المقالة قراءة سيئة؛ فكل قارئ حين يقرأ فهو أولًا قارئ نفسه كما أكد ذلك بروست وهو يبحث عن «زمنه المفقود».


  1. فاز الكاتب الإسباني سيزار بيريث جيليدا بجائزة «نادال للرواية» (Premio Nadal De Novela) عن روايته «تحت أرض جافة» (Bajo tierra seca)، وستصدر دار «Destino» الرواية في مطلع الشهر المقبل.

  2. أعلنت دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة موعد إغلاق باب التقدم لجائزة نجيب محفوظ للأدب يوم الإثنين 15 يناير 2024 للرواية العربية المنشورة خلال عامي 2022 و2023، وسيعلن عن الفائز يوم 11 ديسمبر 2024.

  3. صدر حديثًا عن مشروع كلمة في أبوظبي كتاب «تاريخ القراءة» للعالم اللغوي النيوزيلندي ستيفن روجر فيشر.

  4. توفي في مطلع يناير 2024 المترجم والكاتب السوري حسن صقر، الذي قدّم عشرات الكتب والترجمات عن اللغة الألمانية في شتى المجالات، وبخاصة الفلسفة. من ترجماته: «البطل بألف وجه» لجوزيف كامبل، و«الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقا» لماكس فيبر.


من بثينة الإبراهيم:

  1. إهانة غير ضرورية، إياد عبدالرحمن

    لا تشدني الروايات التاريخية إلا في حدود ضيقة جدًا، لكن هذه الرواية مختلفة قطعًا وتمكنَت من تجاوز تلك الحدود. يروي آدم سيرة حياته «المريرة»، والرحلة التي قطعها حتى صار واحدًا من «الأغوات»، الأحباش الذين قدموا إلى مكة والمدينة المنورة للعمل في خدمة الحرمين الشريفين. وعلى الرغم من أن السارد يقصّ ما حدث له منذ رأت أمه في المنام رجالًا يقولون لها إنه ولد مبارك فنذرته لله، فإنه في الوقت نفسه يقص ما لم يحدث معه، أعني الحياة التي فقدها منذ لحظة إخصائه. عاش آدم يتيم الأبوين بعد تخلّيهما عنه، وإن اختلفت أسبابهما، وعاش محرومًا من شقاوة الطفولة لأنه يُعدّ لمهمة ينوء بها ظهره الصغير، ثم حُرِم من الحب والأسرة، ولهذا لم يعرف إلا طبقات فوقها طبقات من الحرمان الذي تعددت وجوهه وهو واحد. هذه رواية تضيء منطقة تاريخية معتمة، قصدًا أو بغير قصد، لم تُطرق من قبل، فحازت قصب السبق لهذا السبب وأسباب أخرى.

  2. Timecode of a Face، روث أوزيكي

    هل تعرف نفسك؟ هل تعرف من تكون حق المعرفة؟ إلى أي حدٍ يعرف المرء منا تاريخه؟ ليست هذه أسئلة جديدة، فقد طرحها أقدم الفلاسفة ولم يجد الإنسان إجابات شافية بعد. في هذا الكتاب تقضي روث أوزيكي ثلاث ساعات أمام المرآة تنظر فيها إلى وجهها، فتتبادر إلى ذهنها هذه الأسئلة وغيرها عن ذات المرء الحقيقية. تتحدث الكاتبة عن علاقتها بصورتها في المرآة بمرور السنين، فتمر على مواضيع من قبيل العِرق والعائلة والموت والجسد وغيرها. وتتحول المرآة إلى أداة للذاكرة تتداعى فيها الأفكار والأحداث تداعيًا حرًا، ويتداخل فيها التاريخ الشخصي وفلسفة الزن والثقافة اليابانية، ولا سيّما أن أمّ الكاتبة الأمريكية يابانية، كما أنها راهبة زن. غرفة المرايا في مسرح النو الياباني، وهي معتكف يختلي فيه الممثل بنفسه قبل أن يضع القناع ويتحول إلى بطل القصة، تعد مكانًا تنتقل فيه القوى السحرية لقناع النو إلى الممثل، على حد قول الكاتبة، وقد حاولت مرة أن أحاكي تجربتها بأن أجلس إلى حوض سمكة الزينة بدلًا من المرآة، استدعاء لـ«شخصيتي المائية» (فبرجي الحوت)، لكن السمكة ماتت قبل اكتمال التجربة! هل ستغريك الفكرة بتجربتها؟

  3. Remember Me، ليزا تاكيوتشي كولين

    قد يبدو العنوان للوهلة الأولى عنوان رواية رومانسية رديئة، لكنه في الحقيقة كتاب عن الموت! تذهب الكاتبة في جولة في أنحاء الولايات المتحدة لتتعرف الأساليب المختلفة التي يدفن بها الأمريكيون أحبابهم أو يختارونها لأنفسهم إذا حان أجلهم. وتستعرض الكاتبة «التقليعات» الجديدة في دفن الموتى، منها مثلًا تحويل رفات الميت بعد حرقه إلى ماسة أو ماسات في قطعة حلي، أو الدفن العضوي، أو نثر الرفات في البحر بعد مراعاة قوانين حماية البيئة، أو خلط الرماد بالإسمنت وإلقاؤه في المحيط ليكون شعبًا مرجانيًا صناعيًا! لا تستغرب الكاتبة هذه التقليعات التي أتى بها مواليد الطفرة (كل من ولد بين عامي 1946 و1964 في منطقة تأثير الحرب العالمية الثانية)؛ فقد عُرف عنهم نسف معظم الأشكال الثقافية التقليدية في الموسيقا والاقتصاد والتعليم وتسريحات الشعر! ما الذي يدفع المرء إلى التخطيط المسبق لطريقة دفنه؟ وكيف تحدث هذه الصور المتعددة فرقًا في أمر الموت نفسه أو في نظر الميت؟ كل هذه أسئلة لا يجيب عنها الكتاب بطبيعة الحال، ولكن يخطر لي أنه طول الأمل!

  4. الذواقة، لو وين فو

    في هذه الرواية يغدو الطعام موضوعًا للصراع بين البطل الذي يرى خصمه الشره مستغِلًا يحصل على الطعام دون تعب ويستعبد آخرين، وبين الذواقة الخبير بتناول الطعام وفنونه، الذي يتبع نظامًا خاصًا لا يتخلله إلا تناول الطعام ثم الوسائل التي تساعده على هضم الوجبات الدسمة لإفساح المكان لغيرها، ونهبط إلى ساحة للتنازع بين الرأسمالي (الذواقة) وبين المؤمن بالاشتراكية الساعي إلى تحقيق أهدافها الذي لا يرى الشراهة مستحسنة في مجتمع اشتراكي. صار الطعام سلاحًا للقاتل المتسلسل في فلم «سبعة» وللبطل في الرواية، على اختلاف استخدامهما لهذا السلاح، لكنه لدى كليهما عقوبة يحاولان بها تطهير مرتكبي الخطيئة التي لا تقتصر على تناول الأكل بكثرة بل تمتد إلى التلذذ والشغف به؛ للوصول بهم إلى حالة من الكمال السامي، ولتحريرهم من طبيعتهم الإنسانية بأقصى حد ممكن.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.