كيف تورِّث العائلة الموت؟

في وجه كل أحلام الهروب من المصير المحتوم وفي وجه الأمنيات بكسر أغلال الفقر العائلية، نجدهما في مشهد الرواية الختامي تخلدان إلى النوم مستسلمتين ومتقبلتين الأمر الواقع.

الجدة وحفيدتها في المنزل (1937) / Getty Images
الجدة وحفيدتها في المنزل (1937) / Getty Images

كيف تورِّث العائلة الموت؟

حسين إسماعيل

«ما يورث في هذا البيت ليس المال، أو الخواتم الذهبية، أو الملاءات المطرزة التي طُبعت عليها أحرف الأسماء الأولى. ما يتركه الموتى هنا هو الأفرشة، والضغينة، والسخط، ومكان للنوم ليلًا».

أجبر نفسي بين الحين والآخر على قراءة رواية عشوائية خارج اهتماماتي المعهودة. بهذه الطريقة عثرت على «عتمة في الظهيرة» و«ذهن ذهني» وغيرهما مما أعده اليوم فتحًا مبينًا عرَّج بي على آفاق فكرية جديدة. وكذا وجدت أيضًا رواية ليلى مارتينيث «دودة الخشب» ترجمة محمد الفولي. لمحتُ غلافها البرتقالي على الرف في أثناء تجوالي في معرض الرياض الأخير للكتاب، وحمسني ما ورد في نبذتها عن تعاقب الأجيال والصراع الطبقي والحرب الأهلية في قرية ريفية إسبانية، ووصف سردها بالمرعب وبالواقعي السحري.

لم أكن أعرف مارتينيث من قَبل، ولم أعرف أن «دودة الخشب» روايتها الأولى إلا حين بدأت قراءتها، ناهيكم عن أنَّ معرفتي بمدة الحرب الأهلية الإسبانية وعقباها متواضعة لدرجة أني لا أدري إذا كان فوز ريال مدريد بنتيجة 11-1 على برشلونة آنذاك سبب نشوبها. لكن مترجم الرواية محمد الفولي وصدورها أواخر عام 2021 سببان كافيان لأضعها على صدارة قائمة القراءات الحالية، وأعترف بأن عدد صفحاتها الذي لا يتجاوز المئتين سببٌ مهم أيضًا. 

يصعب استعراض الرواية دون حرق أحابيلها، وهو أمر لا يليق برواية تكتنزها تحولات مفاجئة (plot twists). ويصعب أيضًا استعراض ثيماتها دون الوقوع في فخاخ الاختزال المجحف؛ فلو قلت إنها قصة منزلٍ يسكنه الأحياء والموتى معًا فسيصحُّ ذلك بقدر صحة قولي إنها قصة حقد توارثته أربعة أجيال متعاقبة، أو صراع وجودي بين جدة وحفيدة تتقاسمان سرد فصول الرواية العشرة، أو قرية استوطنتها شياطين العنف إبان الحرب الأهلية.

تستفتح الرواية بعودة الحفيدة من توقيف وقائي دام أسبوعين إثر اختفاء طفل «آل خارابو» الذي ترعاه، وهي الحادثة التي يتهمها بها الجميع دون أن تثبت عليها قانونيًا. عادت الحفيدة إلى البيت الذي بناه جدها الأكبر، بيت يخلو سوى منها وجدتها وأشباح عائلية. وخلال الصفحات اللاحقة ندرك ما تكتنزه حياة البطلتين من علاقات متوترة على رغم فقرهما ومحدودية أنشطتهما. 

هنالك مثلًا علاقة متوترة بين الجدة وحفيدتها التي كسرت عزتها إذ قررت الخدمة في بيت «آل خارابو» (وقد رفضت الجدة ذلك في ريعان شبابها)، أو علاقتهما معًا بمجتمع القرية الذي يُكنُّ لهما البغض والكراهية، حتى علاقتهما بماضيهما المؤلم. تسرد الجدة والحفيدة أجزاء من تاريخهما الذي أودى بالأمور إلى ما هي عليه في حاضر السرد،  وصولًا إلى نهاية الرواية التي تكشف للحفيدة ولنا مصير طفل «آل خارابو».

وسواء أكان السرد في الفصول العشرة بلسان الجدة أم الحفيدة، فقد كان ينبني على منظور الشخص الأول الواعي بسرده، أي على منظور من يخاطب قارئًا أو مستمعًا ما. تنجح هذه التقنية في تقريب التجربة للقارئ، ولكنها أيضًا تجعله حذرًا في تصديق ما تقولانه البطلتان، لا سيما وهو يدرك مدى امتلاء قلبيهما بالحقد والكراهية. ويزداد الحذر أهمية حين نأخذ في الحُسبان  تشابك الأزمنة في السرد، وهذا ما يموقع الأحداث في سياق الريف الذي نال من ويلات الحرب والاختفاءات القسرية والفساد ما ناله. ومِن ثم يرتسم السرد على طول خطوط انتقائية تتخذ من الأحقاد المسيطرة على الجميع مسرحًا لها.

وفي معرض كل ذلك نتعرف بصورة غير مباشرة ثالث أبطال الرواية الرئيسين، بطل غير ناطق، وهو البيت الذي تقطنه الجدة والحفيدة. وصحيحٌ أن من بنى البيت هو الجد الأكبر، لكنه بناه من عرَق جبين النساء اللاتي خدعهن ليبيع أجسادهن مقابل وعود زائفة بالزواج. والنتيجة أن حلَّت اللعنة الأولى مذ شُيدت دعائم البيت، وطاردت الجد حتى احتضن البيت جثته انتقامًا؛ ولذا نجد جدرانه  وأنسامه ومفروشاته حية متفاعلةً مع سَير أحداث الرواية وتقلُّب نفوس قاطنيه. تارة يبدي غضبه لدخول رجل عجوز يناشد الجدة عمل تميمة لصبي مقبل على امتحاناته، وتارة يرخي أعصابه لمّا احتضن بين أسواره روحين إضافيتين.   

والبيت بعيون ساكنيه حصنٌ وسجنٌ؛ فمن جانبٍ أول نجده سدًا منيعًا يقي الجدة والحفيدة الشرور والمكائد المحيطة بهما، لكنه من جانبٍ ثانٍ يحبس الأضغان المورثة عبر الأجيال فيغذي بها أهله ويطبعها على سلوكهم. يؤدي ذلك إلى تذبذب البطلتين بين الرغبة والرهبة: رغبة الخروج من البيت والتحرر من أغلال الفقر والفاقة، ورهبة مما قد يحدث إنْ هما خرجتا من أمن المعلوم إلى قلق المجهول. وكذا الأمر للموتى، بغض النظر عن مكان أجسادهم، فإن أرواحهم تعود إلى البيت الملعون.

تقول الجدة مطلع الفصل الرابع: «هذا بيت لا يغادره أحد. لقد علقنا هنا، نحن والأشباح». وتؤكد حفيدتها الأمر نفسه في الفصل الذي يليه قائلة إنهن معشر نساء البيت لن يخرجن منه أبدًا. ولكنهما بمرور الزمن تعلمتا أيضًا أنَّ لكل شخص مقامه، وأنهم، أي الفقراء، قوم كُتب عليهم قضاء نهارهم بحثًا عما سيُلقونه في قدور الطبخ وحسب، فضلًا عن إدراكهما المتأخر أنه ما من شيء يتغير؛ ولذا، في وجه كل أحلام الهروب من المصير المحتوم وفي وجه الأمنيات بمغادرة القرية إلى قونكة أو مدريد وكسر أغلال الفقر العائلية، نجدهما في مشهد الرواية الختامي تخلدان إلى النوم مستسلمتين ومتقبلتين الأمر الواقع.


  1. ظفرت دار كيان المصرية بجائزة عبدالعزيز المنصور للناشر العربي في دورتها الخامسة، عن رواية «أرض الغربان» للكاتب أحمد عصام الدين عن فئة جائزة الروائي الشاب.

  2. توفي في الثالث والعشرين من نوفمبر الأديب المصري يعقوب الشاروني عن عمر الثاني والتسعين عامًا. يعدّ الشاروني من أهم روّاد أدب الطفل في العالم العربي، وتميزت قصصه بالحكم والمواعظ المستمدة من الأساطير والحكايات الشعبية.

  3. قدم المؤلف والمحرر جوليان سانكتون دعوى قضائية جماعية ضد شركتي «أوبن إيه آي» ومايكروسوفت لنسخهما عشرات الآلاف من الكتب دون إذن بهدف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التي تقوم عليها خدمات مثل «شات جي بي تي». 

  4. توِّج الكاتب الإيرلندي بول لينش بجائزة البوكر البريطانية للعام 2023 عن روايته «أغنية نبوية» (Prophet Song) وهي الرواية الخامسة في مسيرته، وقد اختير العمل من أصل 158 رواية. 


من الوليد الصلهبي:

  1. تقرير إلى غريكو، نيكوس كازانتزاكيس

    في القراءة الأولى للتقرير استوقفتني رغبة نيكوس في الذهاب إلى ناصية الشارع، وتسوّله بعض الوقت من العابرين لإنهاء عمله هذا. وتساءلت في حينها عمن يرغب في وقت إضافي إلى العمر لكتابة السيرة الذاتية وليس للاعترافات الأخيرة أو الاعتذارات المؤجلة! لكن وجدتُ أن صديق «زوربا» عاش حياة طويلة عريضة محفوفة بالجمال والمعاناة والقوة والضعف. وما الذي يمكن توقعه من رجل دار على كنائس الدنيا بحثًا عن الإيمان ولم يجده إلا في شجرة لوز فاتنة على قارعة الطريق!

  2. الفيسكونت المشطور، إيتالو كالفينو

    يعيد كالفينو طرح فكرة صراع الخير والشر بأسلوب يدمج الخيال بالواقع من خلال النبيل «ميداردو» الذي يُصاب بقذيفة من مدفعية في الحرب تقسمه إلى شطرين، ساق ويد وعين واحدة وعكاز لاحقًا لتعويض النقص. ولسبب ما يتَّسم النصف الأول بالخير الأسمى والآخر بالشر المحض. ونشهد أحداث كل شطر إلى أن نكتشف في نهاية المطاف أن الفضيلة الخالصة لا تقل سوءًا عن نقيضها!

  3. الهدنة، ماريو بينيديتي

    يكتب رجل أرمل على أعتاب التقاعد يومياته في محاولة للتخلص من القلق أو الفراغ الطويل الذي ينتظره بعد التقاعد. يتصوَّر الاحتمالات الممكنة لشخص اقترب من السن التي لا تُعقد بعدها الآمال، وفي الأشهر الأخيرة يشهد ومضة حب تعيد ضبط إيقاع الأشياء. نرى في هذه اليوميات تقلبات شعورية نعرفها جيدًا، تشبه الحياة في أصلها العادي المتكرر والممل أو في الاستثناء أو الهدنة التي نُمضي العمر في البحث عنها، ويطيب لنا تسميتها بالسعادة.

  4. قشتمر، نجيب محفوظ

    يحكي نجيب محفوظ في هذا العمل القصير صداقة خمسة رفاق من بواكير العُمر ومغامرات المراهقة وصولًا إلى الشيخوخة المتهاوية. نشهد صمودها أمام الأحداث والزمن وتبدُّل المصائر وتفاوت الحظوظ، ونراهم لاحقًا مدفوعين بسيل الذكريات الساحرة، وإن كان معظمها محمّلًا بالآلام. يجمعهم مقهى قشتمر الذي شهد كل الضحكات الصاخبة والدموع التي لا يمكن التنبؤ بها.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.