ما الذي تخفيه خلف نظارتك السوداء

قد نسعى من خلال انفجار الحديث عبر المواقع إلى استخدام لغة بديلة عنيفة أحيانًا وأنيقة أحيانًا أخرى لكي نمنح الآخرين الانطباع بأننا صامدون وبأننا بخير.

الفيلسوف الفرنسي رولان بارت / Getty Images
الفيلسوف الفرنسي رولان بارت / Getty Images

ما الذي تخفيه خلف نظارتك السوداء

إيمان العزوزي

تتسع المسافة أحيانًا بين ما نود قوله وما نقوله حقًا، نضل السبيل بين متاهات هذه المسافة التي تتخذ أكثر من قناع وصِفة، ولعل إحداها تلك التي وصفها رولان بارت في كتابه الشهير «شذرات من خطاب محب» (Fragments d'un discours amoureux) الذي يُعنى بأحوال العشق والعشاق حين قال: «أتقدم وأنا أشير إلى قناعي بالبنان، أضع على عشقي قناعًا، وأشير إلى هذا القناع ببنان مكتوم».

يقصد رولان بارت بالبنان المكتوم قناع اللغة التي تحمل على عاتقها مهمة التمويه والإسكات، ولعل أبسط مثال لهذا التمويه المجاملة الجاهزة التي نسارع في الإجابة بها متى وُجِِّه إلينا سؤال «هل أنت بخير؟»: «نعم بألف خير». الإيجاب في هذا الرد قد يضمر سلبًا لا نرغب في الإفصاح عنه، فيكون الأنسب حسب تقديرنا أن نتدثَّر بسلاح اللغة لكي نخفي حقيقة ما يعتلج في صدورنا. 

وعلى رغم أن بارت منح اللغة هذه القوة القاهرة والسلطة لتكميم أفواهنا وعقد ألسنتنا فهو لا ينفي تمامًا رغبتنا الجادة في الاعتراف والتصريح بما نفكر ونشعر به، لكن ما يقف حائلاً دون ذلك هو المفارقة الأزلية الغريبة التي تسيطر على الكائن البشري دون سواه من المخلوقات، والتي يصفها بارت بقوله: «أريد أن أكون مثيرًا للشفقة والإعجاب، أن أكون في الوقت نفسه طفلًا وراشدًا.» 

فكل امرئ منا تتنازعه هاتان الرغبتان: رغبة إثارة الشفقة والتعاطف كطفل لحوح لا يردعه شيء أمام أبويه، ثم رغبة الجَلَد والتمنع والزهو بالنوع الرفيع من القوة التي ندعي امتلاكها في مواجهة محن الحياة، وأمام سُمِّيَّة هذه المفارقة يصف لنا بارت حلاًّ غريبًا!

ينصحنا بارت بأن نرتدي «النظارة السوداء» فنعتم الرؤية حتى لا يرانا أحد ونحتمي خلفها ونهرب من كشف ما تشي به عيوننا، إذ تُعد النظارة وسوادها لبارت «علامة» تشير إلى الاضطراب الذي تحدثه لدى من يحاول اختراق عالمنا؛ فالعيون المكشوفة فضاءٌ عام مشاع للجميع ويستفز سترها فضول الآخر فيُنعم النظر مجددًا، وقد يخاطر بإعادة السؤال عن حالنا ويجد في هذه الحالة إجابة مختلفة عن الأولى حين تنهار دفاعاتنا ونجيب ونحن واثقون من صدق اهتمامه وحرصه: «لست بخير!».

في عام 1963 اقتبس المخرج الفرنسي جون لوك قودار رائعة الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا «الاحتقار»، واختار أيقونة الجمال بريجيت باردو لتأدية دور «إميلي» بطلة الرواية. تقمصت بريجيت دورها إلى أقصى ما يمكنها وابتكرت لنفسها لباسًا وهيئة كاملة ظلت ماثلة في أذهان الناس وأضحت موضة تقلدها النساء، وأهم ما ميَّزها كان النظارة السوداء. ولم تُغفِل الممثلة وخلفها المخرج أهمية هذه النظارة في سياق العمل، ولا أستبعد أن رولان بارت استوحى فكرة النظارة السوداء من هذا الفلم.

يحكي الفلم قصة زوجين عاشقين يعيشان حياة رتيبة يلفها الحب، ثم بدأت معاملة الزوجة تتغير نحو زوجها، تهمله و«تتحجج» بأي شيء كي تبتعد عنه، وهذا التغير أشغل بال الزوج وحاول فهمه وحثَّها على شرحه، لكنها وقفت سدًا منيعًا خلف نظارتها السوداء أمام أسئلته الملحّة. يشرح بارت أن الإلحاح المستمر قد يقوض الممانعة الممنهجة والمراقبة المستمرة للغة في إطار ما نسميه «المجاملة» وأنه في لحظة ما قد تتهاوى هذه المتتاليات من الجمل اللغوية المستهلكة التي نكررها لتورية أفكارنا و تتمزق أخيرًا الأقنعة.

وهذا ما حدث مع «إميلي» أمام إلحاح زوجها وكثرة مجاملاتها وتورياتها اللغوية خلف نظارتها السوداء، وفي لحظة الذروة نزعت نظارتها ونفثت في وجهه السبب الحقيقي لتغيرها ونفورها، وقد كان السبب هو «الاحتقار»، ولمّا لفظت هذه الكلمة عادت مسرعة للاحتماء بنظارتها السوداء تاركة الزوج ومعه المُشاهد يحاولان اختراقها مجددًا لفهم مبررات هذا «الاحتقار».

على الضفة الأخرى وفي العام نفسه يقتبس المخرج المصري حسام الدين مصطفى قصة إحسان عبد القدوس التي تحمل عنوان «النظارة السوداء»، وعكس نظارة قودار وباردو التي اختارها وبعيدًا من نص مورافيا، فإن إحسان يوظفها توظيفًا جماليًا ونوعيًا في النص المكتوب قبل أن تلتقطه نادية لطفي بمهارة وتعالجه مع المخرج سينمائيًا.

«نظارة» نادية لطفي أو «مادي» في الفلم لعبت دور «القناع» الذي تشير إليه ببنان مكتوم بلغة ملتوية ومنفلتة طائشة على لسان فتاة لا تحترم القيود والعادات، وتحاول بهذا القناع أن تمثّل دورًا يخفي ملامح شخصيتها الحقيقية ويواري ضياعها وتشتتها. كانت النظارة بمثابة صرخة تبحث عن منقِذ، وفي لحظة ما، على غرار بطلة قودار، يسقط القناع وخلفه النظارة السوداء معلنة ولادة جديدة للبطلة.

قد تختلف نظاراتنا السوداء ويرسم كل واحد منا قناعه الخاص الذي يخفي خلفه ما يود قوله، قد تختفي شخصياتنا الحقيقية خلف أقنعة تك توك وسناب وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي، وقد نسعى من خلال انفجار الحديث عبر هذه المواقع إلى استخدام لغة بديلة عنيفة أحيانًا وأنيقة أحيانًا أخرى لكي نمنح الآخرين الانطباع بأننا صامدون وبأننا بخير ولا نحتاج إلى الاهتمام والسؤال. 

من الطريف أن قودار في إحدى حواراته الأخيرة سأل محاوره مازحًا :«أتعرف المقصود بـSMS»؟

يجيب المحاور واثقًا: «Short Message Service» أي: الرسائل النصية القصيرة.

يبتسم قودار ويعلق:«بل تعني save my soul.» أي: أنقذ روحي.

ربما علينا كما فعل قودار أن نؤول ما نسمعه أو نقرؤه وأن نتنبَّه ونمنح من نخاطبه جل اهتمامنا؛ فربما فاتنا شيء قد نلتقطه من سمات القائل وسياقه ولغاته المنطوقة وغير المنطوقة، وهكذا نستطيع أن ننقذ روحًا وأن نصارع الأقنعة وننزع عن «النظارات السوداء» لونها القاتم. وقد أجاد جبران خليل جبران شرح المسألة حين قال:

بين منطوقٍ لم يُقصَد ومقصودٍ لم يُنطَق تضيع الكثير من المحبة. 


  1. دخلت دار العربي للنشر قائمة مرشحي القائمة الطويلة لجائزة «Jabouti» الأدبية الأهم في البرازيل، التي تقدمها «غرفة الكتاب البرازيلية» (CBL)، في فرع أفضل دار نشر، عن ترجمة رواية «عائدة إلى الشمس» للكاتبة البرازيلية آنا ماريا ماتشادو التي ترجمتها إلى العربية يمنى خالد شيرازي.

  2. صدر حديثًا عن المركز القومي للترجمة كتاب «جدتي وأمي وأنا: مذكرات ثلاثة أجيال من النساء العربيات» للباحثة والكاتبة جين سعيد مقدسي، وهي شقيقة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.

  3. فازت رواية «أنا لا أقول وداعًا» للمؤلفة هان كانق بجائزة بريكس ميديشي الفرنسية المرموقة، وبفوزها تكون المرة الأولى التي يفوز فيها كوري بهذه الجائزة.

  4. فاز جان باتيست أندريا عن روايته «مراقبتها» (Veiller Sur Elle) بجائزة قونكور، وهي الجائزة الأدبية الأرقى في فرنسا، وأشهر من فاز بها مارسيل بروست وسيمون دي بوفوار، وباتريك موديانو الذي حصل لاحقًا على جائزة نوبل في الأدب.


من أصالة كنبيجه:

  1. ترميم الذاكرة، حسن مدن

    الطريق إلى ترميم الذاكرة لدى حسن هو طريق يختبر فيه المسافة بينه وبين وطنه حين يغدو الوصول إليه متعذَّرًا وحين تعمد النوافذ الزجاجية في المطار إلى حجبه عنه؛ فتنضج تجربته الثقافية وتُبنى حياته الأسرية في محطات مؤقتة يرسم ملامحها بلغة عذبة ومترفقة في نبش الذاكرة وترميمها.

  2. غرفة المسافرين، عزت القمحاوي

    كل حقيبة سفر في غرفة المسافرين لها عنوان وجهتها، يدوّن عزت هنا ذكريات أسفاره التي تأخذ المدن الإيطالية حصتها الكبرى منها، ويراوح في الكشف عن المفارقة التي تُظهِر وجه التوق إلى الخفة عبر السفر ثم تُظهِر وجه السعي إلى العيش الكثيف من خلال تجربة تتجاوز حدود مألوفه اليومي في المكان والزمان.

  3. حياتي مع الجوع والحب والحرب، عزيز ضياء

    سيرة ذاتية يقبض فيها عزيز على المعاني المتكوِّنة في الذات على أعتاب الحرب والجوع تارة وأعتاب العلاقات الاجتماعية تارة أخرى. في سرد ماتع سلس يجيد معه الإشارة إلى الهوية الحجازية وأبرز الروافد الدينية والاقتصادية والسياسية التي أسهمت في تشكيلها في تلك المرحلة.

  4. ليس للحرب وجه أنثوي، سفيتلانا أليكسييفيتش

    تشارك سفيتلانا مذكرات المرأة السوفييتية في الحرب العالمية الثانية، وترصد المعاناة التي تعرضت لها وتأثيرها الإنساني. وتطرح إجابات لأسئلة من قبيل: ما الذي شعرَت به أول قنّاصة في الجيش؟ ما الذي يحدث حين تفقد المرأة حقها في الأمومة أو تؤجل مخاوفها من الحرب والدم والقتل؟

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.