هل تتخطى مقدمة المسلسل؟

في هذه المقدمات، قد تجد ما يرتبط بالعمل ويضيف إليه، إن لم يكن معرفيًّا فعلى الأقل فنيًّا أو أدبيًّا؛ ما يجعل حضور المقدمة أمرًا مرغوبًا فيه.

نشأتُ في وقت كان التجمع فيه بصالة المنزل ومتابعة المسلسلات عادة يومية لأفراد العائلة، وينتظم جدولها اليومي بحسب مسلسل أو برنامج محدد. إحدى الصور المتعلقة بهذه الظاهرة نداءُ أحد أفراد العائلة لبعضهم إعلامًا ببدء المسلسل، وغالبًا ما يكون ذلك في أثناء عرض مقدمته. كانت المقدمة في تلك الآونة بمنزلة «مهلة» لتدارك بداية الحلقة، وفرصة لقضاء حوائجك لئلا يقاطعك أمر في أثناء العرض.

كذلك كانت المقدمة تكريمًا للمشتغلين في العمل والتعريف بهم، مع لقطات لبعض مشاهد المسلسل. لكن قبل ذلك وفي الثمانينيات تحديدًا، كانت المقدمة أكثر من مجرد استهلال، فقد كانت عتبة للعمل، إذ يُغني فيها الممثلون بشخصياتهم في المسلسل، والأمثلة على ذلك مختلفة مثل «خالتي قماشة» و«خرج ولم يعد» و«الطماعون». في هذه المقدمات، قد تجد ما يرتبط بالعمل ويضيف إليه، إن لم يكن معرفيًّا فعلى الأقل فنيًّا أو أدبيًّا؛ ما يجعل حضور المقدمة أمرًا مرغوبًا فيه.

مع مطلع الألفية، أصبحت المقدمات بالخليج كلمات تصف ثيمات المسلسل مباشرةً، وقد يُذكر عنوان العمل في الأغنية. تلك كانت الحقبة الأسوأ، ربما كانت بعض هذه المقدمات جميلة للاستماع، لكنها كانت خارج إطار العمل. ما يحدد ذلك هو عدم تغير تفاعلنا بالمقدمة بعد متابعتنا للمسلسل، ولا ننظر إليها بمنظور جديد، بل هي عمل مستقل بذاته.

في الطرف المقابل، لو نظرنا لأعمال «إتش بي أو» (HBO)، نجد أن كثيرًا من مقدمات المسلسلات جزء مهم من العمل، ويضيف إليه بصورة أو بأخرى، بل إن هناك تنوعًا وإبداعًا في كل مرة لربط المقدمة بالعمل. فعلى سبيل المثال، في «ذا سوبرانوس» (The Sopranos) لا نرى في مقدمته سوى شخص واحد يقود سيارته من نيويورك إلى نيوجيرسي ومناظر مختلفة من الطريق، وكلمات الأغنية تصف حياته وخلفيته الدرامية وحالته النفسية. هذه العناصر هي بالضبط ما بُني عليه العمل بأكمله، فهو يدور حول توني سوبرانو وحده، وكل حدث يصب في قصة توني نفسه.

العمل العظيم يحتاج إلى مقدمة عظيمة، وهذا ما تحقق في مقدمة مسلسل «سكسشن» (Succession) المبني على عائلة مردوك المحتكرة لمجال الإعلام. إحدى ثيمات العمل هي التمرد والنفور، ولذلك اعتمد مؤلف المقدمة نيكولاس برتل على سلالم موسيقية بتوليفات صغرى لخلق موسيقا سوداوية تناسب أجواء المسلسل، وفي الوقت نفسه طعّم الموسيقا بنوتات من سلم موسيقي واحد مع نوتة نافرة وبارزة فيه تحاول أن تشق طريقها في السلم لإظهار جانب النفور والتمرد. وتتكرر هذه النوتة النافرة على السلم ذاته في ثلاث أوكتافات مختلفة. هذا ما يتعلق بالجانب السمعي. 

أما بصريًّا، فقد استغل صانع المقدمة فكرة المقاطع المنزلية التي تصور بكاميرا العائلة الشخصية، واستخدمها كنافذة خلفية للولوج إلى الخلفية الدرامية لعائلة روي لوقان. فأحداث المسلسل لا تتطرق إلى ماضي كل شخصية، لكن في المقدمة نستطيع أن نرى علاقة الأب بأبنائه من خلال هذه المقاطع الشخصية. نرى ثيمة النفور بصريًّا أيضًا، فأول لقطة نرى فيها كيف يبتعد الابن عن أبيه فور التقاط الصورة معه، وهي الصورة الوحيدة للأب مواجهًا عدسة الكاميرا، وجميع لقطاته الأخرى الملتقطة عن طريق أبنائه هي من الخلف أو من مسافة بعيدة، ويبرز ذلك خوف الأبناء من مواجهة والدهم، وتلك أيضًا من أهم ثيمات العمل.

على المستوى المحلي، رأينا كيف استطاع «رشاش» تسخير المقدمة لخلق ثيمة الغموض والجريمة والصحراء/الزبنة. إذ اختار مؤلف المقدمة أمين بوحافة أن يمازج بين غموض التشيللو وأجواء المزمار التي تعطي انطباعًا بالصحراء وهبوبها. وفي إضافة إلى تأكيد هذا الجو الغامض والمخيف، كان الجزء البصري مطعّمًا بأخبار من الصحف حول حادثة رشاش للتذكير بالمشاعر القديمة التي عاشها من كان في تلك الحقبة. 

هذا المزيج كان محاولة لخلق بيئة «رشاش» وقصته بصريًّا وسمعيًّا، وهي إن لم تكن مثالية إلا أنها محاولة ممتازة وربما خطوة جادة للبدء بالاهتمام بمقدمات المسلسلات العربية ونقلها من مرحلة الاستهلال السلبي غير المشارك إلى العتبة الغنية فنيًّا التي لا نود تخطيها.

التلفزيونالمسلسلاتالرأي
نشرة أها!نشرة أها!نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.