كيف تميز القارئ المبتدئ من بين ألف قارئ؟

مثلما أن القراءة عن تاريخ رياضة السباحة لن يجعلك سباحًا ماهرًا، فإن القراءة عن الفلسفة والفكر لن تجعلك فيلسوفًا. 

كغيري من الناس، لا أقاوم مطالعة صور حصيلة القراء من المعارض ومتاجر الكتب، كما لا أستطيع منع نفسي الحكمَ على ذائقة القارئ بناء على عناوين حصيلته. ولربما تماديت في تقرير مدى نضج مَلَكة القارئ النقدية من خلال استقراء نوعية العناوين والعلاقات بينها؛ إذ أزعم أن نضج الملكة يقتضي وجود انتقائية معينة في نطاق اهتمامات القارئ، تتمثل في تجنب بعض مستويات الطرح ومحاولة التقاط أخرى.

بمجرد رؤية صورة، كحصيلة المغرد الذي استفزني لكتابة هذه التدوينة، وهي الحصيلة الملأى بالروايات «الكلاسيكية» ومداخل الفكر والمقدمات القصيرة جدًّا، فإن أول ما يتبادر لذهني أن هذا القارئ لا يعرف كيف «يطقها». 

فمن الواضح أن دخوله لعالم الكتب دخول حديثٌ ومدفوعٌ بإملاءات خارجية، ويتجلى ذلك في اقتنائه الكلاسيكيات المزعومة، أو في الالتجاء للملخصات أو ما شابه، وهما الأمران اللذان يشيران لكونه مؤمنًا بوجود «عوالم القراءة المغلقة» كما يصفها عبيد الكتب والقراءة على منصات التواصل الاجتماعي.

ولقراء هذه الكتب حجتان رئيستان. تقول الأولى المرتبطة بالروايات: إن من الضروري الاطلاع على هذه الكلاسيكيات لأنها دعائم الأدب. أما الثانية المرتبطة بكتب المداخل والملخصات، فتقول: إن الحياة أقصر من إضاعتها في قراءة مختلف مؤلفات مفكر ما، وعليه يُستعاض عن ذلك بنبذة تؤدي الغرض. وتزداد هذه الحجة منطقيةً حين يدور الحديث حول قارئ «مبتدئ»؛ إذ عليه اللجوء إلى كتب تيسّر عليه ولوج عالم فطاحلة الفكر.

تتشارك هاتان الحجتان إشكالًا يمكن إدراكه بسهولة؛ سواء تعلق الأمر بالسلطة المعرفية المنطوية في تعريف الأدب الكلاسيكي أو بالفلسفات التي تحتاج إلى مقدمات ومداخل، فالحقيقة أن الحجتين مرتبطتان بافتراض سيرورة تاريخية معينة. بعبارة أخرى، لا يمكن الحديث عن رواية كلاسيكية أو مدخل لفلسفة ما إلا بافتراض ضمني مفاده أن لهذه الرواية أو تلك الفلسفة دورًا في تاريخ الفكر الإنساني، وهو هذا التاريخ الذي يُفترض بالفرد الإلمام به كي يتجاوز البدائية ويصبح قارئًا حقيقيًّا.

ولذا، لو عرف صاحب الحصيلة كيف «يطقها»، لأدرك أن عالم القراءة الذي يتخيله عالمٌ يفور بالإملاءات التي تقسم القراء إلى مبتدئين ومتمرسين قياسًا على ختمهم لكتب أو أفكار معينة وقدرتهم على تداول مفرداتها. وهذا مما لا يرضاه أي ناقد على نفسه، لا سيما أن النقد قائم على مساءلة هذه الإملاءات وأسسها.

وربما قد يدرك صاحب الحصيلة أن الوسيلة التي ينتهجها لا تؤدي أصلًا لمبتغاه. فمثلما أن القراءة عن تاريخ رياضة السباحة لن يجعلك سباحًا ماهرًا (إلا إذا اعتقدت أنك شيلدون كوبر)، فإن القراءة عن الفلسفة والفكر لن تجعلك فيلسوفًا. 

لا يقتصر الأمر على توجيه أصابع اللوم للسلطات المعرفية وحسب، بل لعمليات التعلم التي كرست في الأذهان نمطًا معينًا من التعلم النظري التراكمي. وكرّست لدى «القارئ المبتدئ» نمطًا إجباريًّا من حصيلة الكتب التي ينبغي له قراءتها، مهمشةً بذلك المعارف التي يمكن له أن يكتسبها من خلال الاختيار الطوعيّ والتجربة الحرّة.

القراءةالكتبوسائل التواصل الاجتماعيالرأي
نشرة أها!نشرة أها!نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.