لماذا نحب القرطاسيات؟ 📔✏
زائد: كيف ينتشر السلوك؟ 🪄


سُئلتْ المفكرة الفرنسيّة سيمون دي بوفوار في إحدى المقابلات عن الشيخوخة، فأجابت: «كيف يمكنني اختصار موضوع كتبته في 600 صفحة في دقيقة واحدة؟» في إشارة إلى كتابها «الشيخوخة». ولكن في كتابها الآخر «قوة الأشياء»، وصفت الشيخوخة بقولها: «حين تبلغ السن الذي لن تتكرّر فيه الأشياء»، مؤكدةً أن كل لحظة نعيشها تصبح ماضيًا لا يعود.
لم أصل بعد إلى مرحلة الشيخوخة، والحمد لله أنهم أعادوا الأربعينات إلى مصاف الشباب، لكن التسارع التكنولوجي الذي أنسن أمورًا هلامية لا نستطيع الإمساك بها، أفقدنا الاتصال بالكثير من تفاصيل حياتنا. فاجأتني صديقة قبل أيام بتطبيق تفتح بواسطته باب البيت لوالدتها عن بعد، وكانت صدمتها من جهلي أقوى من صدمتي من التطبيق، إذ كيف أعيش في القرن الحادي والعشرين ولا أتابع التحديثات التقنية؟ بالتأكيد صدمتها لن تجبرني على تحميل تطبيق يفتح أبواب بيتي مهما حاولَت إقناعي.
أحنّ إلى أشياء كثيرة عشتها في الماضي، بعضها -مثلما قالت سيمون- لن نعيشه مرة أخرى، وبعضها نحاول إحياءه بشتى الطرق، مثل الاستماع إلى الموسيقا من خلال إسطوانة أو كاسيت بدلًا من سبوتيفاي.
في هذا العدد، يأخذنا الكاتب والمترجم أحمد شافعي في رحلة مفعمة بالحنين إلى عالم القرطاسية، ليكشف علاقتنا بها وما أصبحنا عليه في عصر الشاشات. كما سأحدثكم عن أفضل الطرق لنشر السلوكات الإيجابية. أما توصيات هذا الأسبوع، فخصصتها للتعريف بكتب تقربك من عالم أحد رواد الأدب الإفريقي، الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو الذي غادرنا مؤخّرًا.
إيمان العزوزي


لماذا نحب القرطاسيات؟ 📔✏
أحمد شافعي
تعلمت متأخرًا، لكن ليس بعد فوات الأوان فيما أرجو، أن أحب كلمة «القرطاسيات» بعد طول نفور. ولا داعي للخوض في أسباب النفور التي لا تعدو الشوفينية المعهودة في المراهقة. أما الحب، فسببه أن في المفردة لمسة فصاحة تداعب وترًا في نفسي، وأنها نسبة إلى كلمة «قرطاس» القرآنية، وأنني بت في السنين الأخيرة شديد الفرح بجريان أعتق ألفاظ العربية على ألسنتنا وفي حياتنا، بجانب سيل الكلمات العامية والأجنبية، وغيرها مما لا أصل له. غير أن حبي للقرطاسيات نفسها أقدم من حبي لكلمة «قرطاسية».
وأعرف أننا كثيرون، أعني مدمني اقتناء «القرطاسيات» – بحسب اللفظ الشائع في الخليج – أو «الأدوات المكتبية»، مثلما نقول في مصر. لا نكاد نهدر فرصةً لاقتناء دفتر أملس الورق يَعِد بسلاسة الكتابة، أو خشن يوحي بالعتاقة، مسطور تتّسع المسافات بين سطوره مريحةً للعين، ضامنةً راحةً أخرى للأنامل عند الكتابة، أو غير مسطور، يبدي خواء صفحاته أنها تتسع لكل شيء. تغرينا الدفاتر ذات الأقفال وذات الأربطة، صلبة الأغلفة ولينتها، ولا نبخل على أنفسنا حتى بالتحف المصنوعة على هيئة أضابير الأقدمين، بأغلفة من الجلد الطبيعي، وبورق غير متساوي الأطراف.
نحن أيضًا لصوص أقلام الفنادق والبنوك، مقتنو أقلام التوقيعات الفخمة المختالة، وأقلام الرصاص العاطلة من كل زينة. تتّسع قلوبنا للورق المفرد مثلما للدفاتر، ولأقلام الرصاص مثلما لأقلام الحبر. نرتّب في أدراج طاولاتنا مشابك الورق والقصاصات اللاصقة، وربما يُفرِط بعضنا فيحتفظ بمحابر الحبر الشيني (أو الصيني إن شئتم).
ولعلّ منا من يمتد ولعهم إلى أدوات أخرى، جديرة أيضًا بالولع. فمن منّا لم يقضِ ساعاتٍ من طفولته يُعمِل الخرَّامة في الورق إلى أن تجتمع له مئات أو آلاف القصاصات المدوّرة الصغيرة، يرميها من شباك غرفته، فيرى ما لا يراه أترابه العقلاء، ولا يعرفه إلا سكان الشمال البعيد: نُدَف الجليد؟
من منّا لم يطرب كما طرب طفلًا لصوت دوران القلم الرصاص في المبراة المعدنية الفضية؟ ومن منا لم يتأمل، في هيام، رقائق الخشب المشرشرة إذ تتصاعد ملتوية من تحت نصلها الحاد؟ ومن منا لم يختبر حدة سن القلم بوخزة في ظاهر يده؟
من منا لا يجد في أنفه تلك الرائحة القديمة الشهية كلما تذكّر الممحاة؟ من منا لا يشبعه عبق الكتب؟ من منا لم يغرز قواطعه في لحم قلمه الرصاص ليعرف دون أن يدري طعم الشجر الذي لا يذوق الآخرون منه إلا ثمره؟
أعرف أننا كثيرون، ومخلصون، ومهددون بالانقراض. ومع ذلك، لا أكتب هذه السطور رثاءً لنا، أو لزمان عزيز علينا، أو حتى لاستحضار هذا الزمن، الذي لا سبيل إليه إلا وهمًا وخيالًا. إنما أكتب لأن منا -نحن المولعين بالقرطاسيات- كتَّابًا، ولعلّي من هؤلاء.
ولكم أن تكونوا على يقين من أن هذا الذي تقرؤونه الآن لم يبدأ في أيٍّ من دفاتري، ولا خُطَّت بذرته بأيٍّ من أقلامي. إنما وُلد على شاشة، باردة الملمس، تقابل حملقتي فيها بإيذاءٍ دؤوبٍ لعينيّ، لا تصبر عليّ حتى تكتمل أفكاري، ولكنها تهدّدني كلّ حين بالإعتام ما لم أرغمها على غير ذلك. لا تتيح لي انفرادًا حقيقيًّا بها كانفرادي القديم بالدفتر، إنما تفتح الباب لكل طارق أو عابر أو غريب عنَّ له أن ينشر بعض كلامه الفارغ في هذا الموقع أو ذاك من مواقع التواصل الاجتماعي، غير واعٍ بأنني في هذه اللحظة منهمك في كتابة كلامي، الفارغ أيضًا، والجدير، مع ذلك، ببعض السكون.
وليس كل ما نكتبه كلامًا فارغًا بالضرورة. فمنه ولا شك ما يستحق، فضلًا عن السكون، مهلةً من الزمن. وهذا وذاك مضمونان مع القرطاسيات لا الشاشات.
حدث، في فجر هذا القرن، أن وصلتُ ذات صباح مبكِّر إلى عملي، وسارعت أفتح الكمبيوتر المكتبي، المتصل بالإنترنت المجّاني (خلافًا للإنترنت المنزلي حينها، الذي للدقيقة من استعماله ثمنٌ يُحسب له ألف حساب). كان زمنًا آخر، لم تظهر فيه بعد مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يكُن لكاتب عربي أن يكتب (status) يوميًّا إلا صمويل شمعون في موقع «كيكا»، وكان يكتبها متحركة أعلى الشاشة. في صباح ذلك اليوم، أرسلت قصيدة أو مقالة إلى صمويل شمعون، فلم تمضِ دقائق حتى رأيت نصّها منشورًا أمام عينيّ في الموقع.
تلك لحظة فارقة في حياتي، فحتى ذلك الحين، كان نشر نصٍّ يقتضي الانتظار لأيام، في أحسن الحالات، وأسابيع في العادة، وشهور أو سنين في حالة الإصدارات الفصلية مثلًا. وفجأة، اختُزل ذلك الانتظار إلى دقائق.
بعد سنين كثيرة، سيكون مألوفًا أن أنتهي من كتابة أو ترجمة، وأرسلها إلى جهة ما، وأخرج لمقابلة صديق، وإذا ما تفقدت هاتفي بعد سويعات فلم أجد المادة منشورة، أنزعج وأتساءل عن السر في كل هذا التأخير في النشر!
ومن منَّا الآن ليس مدانًا بكتابته بعض قصائده «على الهواء مباشرة»، أي في مكان نشرها نفسه، أعني في صفحته بفيسبوك؟ من منَّا لا يسارع إلى تأويل صمت قرائه، أو الفرح بتفاعلهم؟ من منَّا لا يضيِّق الزمن فيما بين فعل الكتابة وفعل النشر إلى حد العدم، فكأنه لا يؤلف بقدر ما يرتجل؟ ومن منَّا لم يندم مرارًا على هذا؟ ومن منَّا لم يمنعه الندم من معاودة الخطأ مرة أخرى؟
وكلنا نعلم أن جَدًّا لنا كان ينكبّ على صقل قصيدته حولًا كاملًا. وأقرب منه عهدًا، جدٌّ آخر، قضى عقودًا في كتابة رواية. وغيرهما من كرَّس عمره لترجمة كتاب لم يلِن للغته إلا بعد عمرٍ كامل. ونحن أنفسنا، كنا نتهافت على أجندات الدعاية التي توزعها البنوك والشركات في بداية كل عام، وفيها ندوّن مطالع قصائد لا تكتمل، وأفكارًا لا تتطور، وعبارات نقتطفها من قراءات (وبين الحين والآخر قصائد)، ننقلها لاحقًا في ورق منفصل، وبخط أوضح، ونشيعها بين أصدقائنا بأن نتلوها عليهم في المقاهي أو الندوات، ثم نرقمها أخيرًا على الكمبيوتر، بعد أن ندخل عليها كل التعديلات، ونرسلها إلى هذه الصحيفة أو تلك المجلة، وقد تنشر، ويعقبها صمت، لكننا لم نكُن نعده رأيًا سلبيًّا في ما كتبناه. وقد يعقب الصمت مزيد من الصمت، أو يعقبه صدى، لكنه صدى غير سريع الزوال. بكل هذا الوقت، ألم تكُن القصائد حقًّا قِطَعًا من أعمارنا؟
صحيح ما يجول في رؤوسكم، نعم، لم يضمن التمهلُ لقصائد ذلك الزمن مقامَ المعلقات، ولا لرواياتها في مصافِّ الروائع. لكنه ضمن لنا نحن أن نكون كتّابًا، كتّابًا حقيقيين، لا «مستخدمين».
كان عدد القراء أقل، لكنهم كانوا قرّاءً حقيقيين، يخرجون من بيوتهم بحثًا عن جريدة أو مجلة أو كتاب، وقد لا يجدون مبتغاهم في قراهم البعيدة أو مدنهم الصغيرة، فيواصلون البحث في العواصم حينما يزورونها، أو في معارض الكتاب حينما تُقام. وحين يحصلون على بغيتهم فإنهم يقرؤون فعلًا، لا بروية واهتمام وحسب، ولكنهم يقرؤون أيضًا شاكرين. وبمنح الكتب كل هذا الوقت، ألم تكن مقتنياتنا قِطَعًا حقيقية من أعمارنا؟
ثم إنهم كانوا يبقون محتفظين بصفتهم، فهم «قرّاء»، لا هم «أصدقاء» الكاتب، ولا هم -والعياذ بالله- «أتباع» له. يكوِّنون آراءهم على مهل، ويحتفظون بها لأنفسهم، ويغيِّرونها بمرور الزمن، أو يثبتونها. ولا يكاد يُحتمل أن يوجّه أحدهم إلى الكاتب مباشرةً إهانة أو إشادة، فلم يكن في ذلك الزمن شبيه بموقع قودريدز، فضلًا عن أن القارئ كان يعلم أن قول رأي متماسك في كتابٍ أمرٌ يحتاج إلى الدربة، وربما إلى الدراسة، وربما يستوجب الاحتراف، أو لنقل إنه مهنة من كانوا يعرفون في ذلك الزمان السحيق بـ«النقاد».
وصدقوني، بداخلي صوت آخر، سعيد بالسهولة الشديدة التي أحصل بها على ما أقرأ، بعد حرمان كبير في السنوات الكثيرة الأولى من حياتي. صوت شديد الابتهاج بسهولة التواصل مع الكتّاب والأدباء، دونما اضطرار إلى مغادرة البيت. صوت بالغ السعادة بأن الجميع قادرون على الجهر بآرائهم بعد آلاف السنين من الكبت. ولكني لا أسمح لفرحة هذا الصوت أن تمحو خوفي على كل ذي قيمة من فقدان قيمته، وجزعي كلما رأيت غير ذي عقل وقد صار يتبجّح بما يعده رأيًا، ورعبي من عصابات الميديوكر¹ إذ يساند بعضهم بعضًا متحرشين بخلق الله الكرام، فارضين عليهم الرداءة بشتى أشكال العنف.
وعندي أمل أن تتحوّل الفوضى، رغم أنفها، إلى رشد.
وعندي يقين، إذا لم يحدث ذلك، أن الكيابل ستُقطع إن عاجلًا أو بعد حين.
وعندي، تحسبًا لكلتا الحالتين، مؤونة كافية من الأقلام والدفاتر.
الميديوكر: كلمة تستخدم لوصف عمل متوسط الجودة أو شخص متواضع الموهبة


كيف ينتشر السلوك؟ 🪄
عُرض في مطلع التسعينيات الفِلم المصري «دكتوراه مع مرتبة الشرف»، من بطولة الراحلة معالي زايد وعبدالعزيز مخيون. تدور أحداث الفِلم حول قصة «آمال»، وهي باحثة تعمل برفقة خطيبها في مركز للبحوث الاجتماعية وتحضّر رسالة الدكتوراه. اختارت «آمال» لرسالتها موضوعًا حسّاسًا وهو «الإشاعة»، كيف تنتشر بين الناس وتتغذى بنميمتهم وتؤثر فيهم. ينتهي الفلم نهايةً غير متوقعة، وبعيدةً عن أهداف «آمال»، وذلك لأنها جعلت من حياتها الخاصة موضوعًا للإشاعة، مما أثر في النهاية في علاقتها بخطيبها.
استرعى انتباهي الفِلم بفكرته المبتكرة التي ناقشها، وأثار لدي تساؤلات حول سرعة انتشار الإشاعات مقارنة ببطء تداول الأخبار التي تدحضها. ومع التعمق في الأمر، اتّسع السؤال ليشمل قضايا أهم، خاصة في المجال الصحيّ، حيث يتجلى فيه بوضوح انتشار الأمراض المعدية، مثل الأنفلونزا ونقص المناعة المكتسب، في حين تبدو جهود التوعية وبرامج التطعيم والوقاية أقل سرعة وتأثيرًا.
شغلت هذه الأسئلة ديمون سنتولا، عالم الاجتماع وأستاذ الاتصال في جامعة بنسلفانيا، وأفرد لها أبحاثًا مستفيضة، جمعها في كتابه الهام «كيف ينتشر السلوك؟ علم العدوى المعقدة». يهدف سنتولا إلى تحليل التغييرات التي تطرأ على طبيعة الشبكات الاجتماعية، ويسعى إلى فهم الآليات التي يمكن من خلالها تحسين انتشار السلوكيات المبتكرة والتغيير المؤسسي.

استندت الفكرة التقليدية في تفسير انتشار الظواهر الاجتماعية إلى نظرية «قوة الروابط الضعيفة» (Weak Ties)، التي قدمها عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر في دراسة نُشرت عام 1972 في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع. يميز غرانوفيتر في بحثه بين نوعين رئيسين من الروابط الاجتماعيّة: «الروابط القوية»، التي تتميز بعمق العلاقة بين الأصدقاء وأفراد العائلة، حيث يرتبط التفاعل الاجتماعي بالتواتر المتكرر، خالقًا رابطة قوية على المستوى العلائقي، ثم «الروابط الضعيفة»، التي يكون فيها التفاعل أقل تواترًا، وسطحيًّا نسبيًّا، لكنها تمتلك أهمية بنيويّة كبيرة بفضل قدرتها على إنشاء شبكات اجتماعيّة أوسع، تتجاوز نطاق المجموعة الصغيرة التي نشأت فيها.
يؤكد غرانوفيتر أن من شأن الروابط الضعيفة أن تُسرِّع عملية انتشار المعلومات والأفكار والابتكارات في المجتمع. أما إذا اعتمدنا على الروابط القويّة، فإن عملية الانتشار ستكون أبطأ ومحدودة، وسيشبه الأمر غرفة يتردّد صداها بين جدرانها، حيث يحدث التفاعل بين أفراد نعرفهم بالفعل، مما يقلل فرص وصولها إلى شرائح أوسع من المجتمع.
يعارض ديمون سنتولا هذه الفكرة، مشيرًا إلى أن نظرية «قوة الروابط الضعيفة» لا تقبل التطبيق في جميع الظواهر الاجتماعية، لأنها تعمل وفق سياقات محدّدة، مثل انتشار الفيروسات، وتداول المعلومات البسيطة (مقاطع الفيديو المضحكة أو «الميمات» المنتشرة على مواقع التواصل). فمثل هذه المعلومات، بحسب سنتولا، تُؤخذ في ظاهرها ولا تتطلب مشاركة فعلية شخصية تؤثر في الأفراد أو علاقاتهم الاجتماعيّة.
على النقيض من ذلك، يرى سنتولا أن المعلومات المعقّدة والحركات الاجتماعية، بخلاف ما ذهب إليه غرانوفيتر، تنتشر عبر شبكات متكتّلة وروابط قوية وتنتشر ببطء، دون أن تُحدث طفرة مفاجئة كما حدث مع فيروس كورونا، الذي استغل الروابط الاجتماعية البعيدة المدى لينتشر سريعًا. يسمي سنتولا هذا النوع من الانتشار بـ«العدوى بالبسيطة»، أما «العدوى المعقدة» التي ترتبط بتبني ممارسات ثقافية جديدة مثل الأساطير الحضرية وانتشار وسائل تحديد النسل، أو تعزيز تقنيات مبتكرة، فإنها تسلك مسارات أبطأ وأطول، ولكنها تتميز بفعاليّة أكبر، كما أنها مستدامة على المدى الطويل.
أهم فكرة تقوم عليها «العدوى المعقدة» هي مفهوم «التعزيز الاجتماعي». ينشأ هذا التعزيز وسط مجتمعات صغيرة، أو أقليات تجمعهم روابط قوية، ويستند هذا المفهوم على أربع آليات أساسية:
التكاملية الاستراتيجية: يصبح السلوك أشد جاذبية وأكثر فائدة عندما يتبناه عدد كبير من الأشخاص.
المصداقية: كلما زاد عدد من يتبنون هذا السلوك، زاد تصديق الناس لفائدته.
الشرعية: يصبح السلوك أكثر قبولًا وشرعيّة كلما زاد عدد متبنيه، فلا يتعرّض صاحبه للإحراج أو العقوبة.
العدوى الوجدانية: زيادة عدد من يتبنون السلوك تمنح المجموعة إثارة تتفشّى وتشجعهم على تبنيه.
وفقًا لرؤية سنتولا، فإن تعزيز السلوك يحدث أثره عند ما سمّاها «نقطة التحول»، ويحددها بنسبة تقارب 25% فحين تصل نسبة الأفراد الذين تبنوا السلوك الجديد هذه النسبة، تنجذب غالبية الجمهور المتبقي نحو تبنيه.
انطلاقًا من هذه الفكرة، ينتقد سنتولا اللجوء إلى مؤثري مواقع التواصل، متى تعلق الأمر بالرغبة في تغيير سلوك اجتماعي أو تبني مواقف جديدة. لأن المؤثر لن يتبنى موقفًا أو يدعو إليه إلا إذا كان شائعًا بالفعل. فهو لن يخاطر بسمعته وجمهوره عبر تبني سلوك غريب عنهم. ما يحرك هؤلاء -حسب سنتولا- هو الطمع. لذا، فهم عادة ينتظرون وصول الانخراط في السلوك إلى «نقطة التحول»، قبل أن يسارعوا إلى تبنيه، مدعين السبق فيه.
تؤكد التجارب أن فرضيّة «العدوى المعقدة» تقدم تفسيرًا للتحولات في الرأي والسلوك، وتبني المواقف الجديدة على الشبكات الاجتماعيّة. ويرى سنتولا أن نجاح هذه الفرضية يتوقف على إدراك آلياتها، مما يتيح إمكانيّة توظيفها في تعزيز سلوكيّات إيجابية، لا سيما في المجال الصحي.

ليس أبغض على الناس من أن يروا إنسانًا يفلت من أقفاصهم ويحلّق بعيدًا عنهم. ولا أحبّ إليهم من أن يُصعَق ذلك الإنسان فيخرّ صريعًا
في هذا الاقتباس من كتاب «مذكرات الأرقش» للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة، تذكير بِسِمَةٍ إنسانيّة قاسية لكنها واقعية: كراهية الناس لمن يتحرر من القيود التي يقبعون هم فيها. يُشبِّه نعيمة المجتمعات بالــ«أقفاص»، حيث اعتاد الناس على العيش ضمن أطر معيّنة (تقاليد ومعتقدات وأنماط حياة). متى تَشجَّع أحدهم على الخروج من هذه الأقفاص والتحرر منها، يثير ذلك حقد البقية، فحريته تذكّرهم بقيودهم التي قبلوها دون تردد.
حين يفشل هذا الهارب من القفص وتنكسر أجنحته لسبب ما، يشمتون. هذا الفشل يعيد إليهم الطمأنينة والثقة في أن قيودهم هي الخيار الآمن، ويبرر خوفهم من التغيير.
يفضل أغلبنا منطقة الراحة، بدلًا من مواجهة تحديات التغيير. نطمئن لعملنا وعلاقاتنا ومحيطنا، نسعى جاهدين إلى إقناع أنفسنا أننا بخير. ومتى حاول أحدنا التغيير، أربكنا وتمنينا فشله، لأن نجاحه سيشعرنا بالتعاسة. أحيانًا، كل ما يفعله الإنسان هو دفع التعاسة عوض البحث عن السعادة.

حياة تشارلي

صدر حديثًا عن مكتبة جرير كتاب «حياة تشارلي» للمؤلف الأمريكي ديفيد فون دريل، وهو عمل يزخر بالحكمة المستقاة من حياة رجل أمريكي بلغ من العمر 109 أعوام.
في عام 2007، انتقل المؤلف ديفيد فون دريل إلى إحدى ضواحي مدينة كانساس سيتي، وهناك التقى بجاره الجديد تشارلي وايت، الذي كان يقطن في الجانب المقابل من الشارع، وكان يبلغ من العمر آنذاك مئة وعامين. على مدى سبع سنوات، منذ عام 2007 وحتى عام 2014 (تاريخ وفاة تشارلي في عيد ميلاده التاسع بعد المئة) جَمَعت بين الرجلين العديد من الأحاديث الوديّة والعفويّة. استشعر ديفيد فون دريل لاحقًا أن هذه القصص التي استمع إليها من تشارلي جديرة بالتدوين والجمع في كتاب، فكان هذا العمل الذي نشر عام 2023.
يُعد هذا الكتاب بمثابة مذكرات شخصية ثرية بالتجارب والخبرات، حيث عاش تشارلي وايت أحداثًا مفصلية في تاريخ العالم، من بينها الحربان العالميتان، وأزمة الكساد العظيم، والتطورات المتلاحقة في مجال الطب الحديث، وصولًا إلى العصر الرقمي. من خلال التجارب, ومن خلال أحاديث تشارلي وايت، يسعى المؤلف ديفيد فون دريل إلى استخلاص مجموعة من الدروس القيّمة عن الصمود في وجه التحديات، والتكيف مع المتغيّرات التي تطرأ على مر الزمان، وكيفية الوصول إلى السعادة في خضم كل ذلك.

بتلات الدم

تأليف: نغوغي وا ثيونغو / ترجمة: سلمى وعمرو / الناشر: روايات / عدد الصفحات: 526
وُلد نغوغي وا ثيونغو (الأديب والناقد الكيني، الذي غادرنا نهاية الشهر الماضي عن عمر يناهز سبعة وثمانين عامًا) في ظل الاحتلال البريطاني لكينيا، حيث شهد هو وأسرته ما عاناه الشعب من تمييز عنصري واستغلال اقتصادي. هذه الظروف صقلت وعيه مبكرًا، وأصبحت الدافع الرئيس لانخراطه في معركة التحرّر الثقافي لشعبه وللقارة الإفريقية بأسرها ضد الهيمنة الثقافية للغرب.
تخلّى نغوغي، عام 1977، عن اسمه الاستعماري «جيمس»، واختار اسمًا إفريقيًّا خالصًا: «وا ثيونغو»، الذي يعني «ابن ثيونغو»، نسبةً إلى والده، وهي خطوة رمزيّة لكنها تحمل دلالة عميقة. وفي العام نفسه، نشر رائعته «بتلات الدم»، التي شكّلت علامة فارقة في مسيرته الأدبية، وبفضلها سرعان ما ذاع صيته محليًّا وعالميًّا.
يستعيد الكاتب في رواية «بتلات الدم» تاريخ شعبه الذي طُمس بفعل الاحتلال، وما تبعه من تواطؤ أهل البلد على السلطة. ومع أن الحبكة الرئيسة تدور حول قصة جريمة قتلٍ لثلاثة رجال من ذوي النفوذ في مدينة إلموروغ، فليس هذا الخط السردي سوى إطار يحتضن حكايات متشابكة تتداخل وتؤثر في بعضها البعض، بحيث يصبح من المستحيل فصل حل لغز الجريمة عن تاريخ «إلموروغ» وكينيا بصفة عامة. وهكذا، تتحوّل الجريمة في هذه الرواية إلى أداة ماهرة في يد الروائي، يستخدمها للكشف عن أعماق النفس البشرية المعقدة، واستجلاء الصراعات الأخلاقية والاجتماعية التي تعتمل في دواخل الشخصيات وفي المجتمع بأسره.
بالنسبة لنغوغي، فإن الشخصيات تمثل استجابات مختلفة للواقع الاجتماعي والسياسي في كينيا ما بعد الاستعمار. فـ«منيرا» مُعلِّم يسعى إلى أداء رسالته في مدينة إلموروغ، حيث يواجه المشكلات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بكينيا بعد الاستقلال. أما «وانيا»، التي تعمل نادلة في حانة «عبدالله»، ثم تصبح لاحقًا مديرةً لأحد بيوت الدعارة، فلا يقدمها نغوغي ليُحقّرها، بل ليجسد من خلالها المعاناة التي تحملتها النساء اللواتي ساهمن في النضال ضد الاستعمار دون أن يحظين بالتقدير وحقهن من المجد. أما «كاريغا»، الشاب الذي كان مدرسًا ثم أصبح نقابيًّا، فهو يعبر عن طموح الشباب وثورتهم ضد القمع. وأخيرًا «عبدالله»، التاجر الصغير المشارك في الكفاح من أجل الاستقلال وفقد حانته، فهو يرمز للآمال الخائبة التي تلت ذلك النضال.
على الرغم من النجاح الذي حققته الرواية لدى جمهورٍ ناطق بالإنقليزية ينتمي إلى الطبقات الميسورة، ظلّ انتشارها محدودًا بين عامة الشعب الكيني، وهو ما عدّه المؤلف إخفاقًا شخصيًّا. بناءً على ذلك، قرر أن يكتب حصريًّا بلغة «الكيكويو»، لغته الأم، ونشر في العام نفسه مسرحية بهذه اللغة بعنوان «سأتزوج عندما أريد» (Ngaahika Ndeenda). وفي عام 1985 نشر كتاب تحت عنوان «تصفية استعمار العقل»، يشرح فيها وجهة نظره عن الاستلاب الذي تعرضت له الثقافة الإفريقية.
مولد حائك الأحلام

تأليف: نغوغي وا ثيونغو / ترجمة: فائز صياغ / الناشر: دار جامعة حمد بن خليفة / عدد الصفحات: 239
«مولد حائك الأحلام» هو الجزء الثالث من مذكرات نغوغي وا ثيونغو، حيث يكمل سيرته الأدبية التي بدأها في «أحلام في زمن الحرب» عام 2010، ثم «في بيت المفسر» عام 2012. يتناول «مولد حائك الأحلام» الفترة التي قضاها نغوغي بين 1959 و1964 طالبًا في جامعة ماكيريري بأوغندا، حيث تبلورت هويته الأدبيّة وسط تحديات الاستعمار والصراعات السياسيّة والظروف الاقتصادية القاسية.
يوثّق نغوغي في مذكراته، كيف ساهمت ماكيريري في صقل موهبته، إذ كانت مركزًا للحراك الفكريّ، ما ساعده على صياغة رؤيته الأدبيّة. خلال هذه السنوات، حصل على درجة البكالوريوس في الأدب الإنقليزي، ونشر روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» 1964، إضافة إلى مسرحيته «الناسك الأسود» وعشرات المقالات.
يضيء الكتاب جانبًا من الأجواء السياسيّة والثقافيّة التي أثّرت في نغوغي، خاصة مع تصاعد حركات الاستقلال الإفريقية. تركز السيرة أيضًا على شبكة العلاقات التي كوّنها خلال تلك الفترة، حيث ضمّت زملاءَ أصبحوا لاحقًا مفكرين بارزين وقادة سياسييّن، مثل بنجامين مكابا الذي تولى رئاسة تنزانيا عام 1995.
توثق السيرة أيضًا أهم الكتابات الأدبية التي أثرت بنغوغي مثل أعمال تشارلز ديكنز وجين أوستن وإيملي برونتي، إلى جانب أدباء أفارقة مثل شينوا أشيبي وبيتر أبراهامز، كما جذبته أعمال روّاد ما عرف بـ«الزنوجة»، وهي حركة أدبيّة تزعمها إيمي سيزار وسيدار سنغور.
أدرك نغوغي، مع تصاعد شهرته، دور المثقف الملتزم في تشكيل الوعي الجمعي، فانخرط في النشاطات التي من شأنها الدفع بالديناميات السياسية الإفريقية والنهوض بشعوب المنطقة، وسعى لاحقًا إلى إكمال دراسته بعد قبوله في جامعة «ليدز» وحصوله على منحة دراسية.
لا يكتفي كتاب «مولد حائك الأحلام» بعرض إنجازات نغوغي فقط، بل يقدم لمحة عن التحولات التي أصابت جامعة ماكيريري بعد أن استولى عيدي أمين على السلطة عام 1971، ناشرًا الرعب بين أوساط الأكاديميين الذين اضطروا إلى الفرار من حملة القمع الوحشيّة.
يمنح نغوغي، بأسلوبٍ مشوّق ولغة سلسة، القارئ صورةً حيةً عن تلك السنوات، مدعومةً بصورٍ ورسومٍ توضيحية، ما يجعل قراءة السيرة ممتعةً، سواءً كان القراء متابعين لأعماله أو يطّلعون عليها للمرة الأولى.
تصفية استعمار العقل

تأليف: نغوغي وا ثيونغو / ترجمة: سعدي يوسف / الناشر: تكوين السورية / عدد الصفحات: 200
يقدم نغوغي وا ثيونغو في كتابه «تصفية استعمار العقل» (1986) رؤية عميقة حول تأثير الاستعمار بالثقافة واللغة في إفريقيا. يُعد الكتاب بمثابة بيان مقاومة، يدعو فيه كُتَّاب القارة ومثقفيها إلى تحرير الفكر والأدب الإفريقي من سطوة التغريب لغةً وفكرًا. ويُعد الكتاب من أهم المراجع في الدراسات ما بعد الكولونيالية¹.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: لغة الأدب الإفريقيّ، لغة المسرح الإفريقي، لغة القصة الإفريقيّة، بحثًا عن الصلة الوثقى. يكشف نغوغي عن ملامح أدبٍ مشوّه ويعاني من الاغتراب بسبب فرض اللغات الاستعماريّة عليه، ويؤكد أن هذه الهيمنة أعاقت تطوّر الأدب الإفريقي.
يرى نغوغي أن الاستعمار اللغوي لا يقتصر على فرض هياكل السلطة، بل تَفرض على القارة الإفريقية أن تنظر إلى العالم من خلال عيني الأوربي، مهمِّشَة التصورات الإفريقية. فاللغة، بالنسبة إلى الكاتب، هي ساحة حرب، وسلاحٌ يستخدمه المستعمِر للهيمنة الثقافية، وهذا ما تحقّق في معظم بلدان إفريقيا بسبب لغات عدة، أهمها: الإنقليزية والفرنسية والبرتغاليّة، ما أدى في النهاية إلى فصل الشعوب عن تاريخها وتقاليدها وحرمانها من صوتها.
يرى نغوغي أن الكتابة باللغات الأم من شأنها استعادة الجذور الثقافية وتساعد في الاستقلال عن المستعمر فكريًّا وثقافيًّا، وهذا ما سيساهم في تطوير الأدب الإفريقي وإعادته إلى أرضه وواقعه وقصته الحقيقيّة. يدعو نغوغي الكاتب الإفريقي أن يتمثل بأدباء عالميين وضعوا بصمتهم في الكتابة بفضل لغاتهم، مثل تولستوي في اللغة الروسية أو شكسبر في اللغة الإنقليزية.
تواجه دعوة نغوغي عدة تحديات في ظل العولمة وخطر اندثار عدة لغات إفريقية. كما يبدو نغوغي أنانيًّا حين يدعو الكتّاب الجدد أن يكتبوا بلغاتهم الأصليّة، في حين كانت الإنقليزية هي اللغة التي عرّفت العالم بنغوغي. لذا تواجه دعوته معارضةَ الكثير من الأدباء الذين بقوا أوفياء لإفريقيا في مواضيع كتاباتهم، ولكنهم استخدموا لغات المستعمِر غنائمَ حربٍ وُجِّهت للعدو القديم من أجل إيصال صوتهم، مثل تشيماماندا نغوزي أديتشي وعبدالرزاق قرنح ومحمد مبوفر سار وآشيل مبيمبي.
يرى أمبرتو إيكو أن «لغة أوربا هي الترجمة». ويوسع نغوغي الرؤية قائلًا: «لغة اللغات هي الترجمة»، «إلا أنني آمل، من خلال أداة الترجمة العتيقة، أن أتمكن من متابعة الحوار مع الجميع». تظل رؤية نغوغي ذات أهمية بالغة، ليس فقط للأدب الإفريقي، بل لأي مجتمع يسعى لاستعادة استقلاله الثقافي والتاريخي.
ما بعد الكولونيالية: نظرية تحلّل الخطاب الاستعماري وتعيد قراءة التاريخ من وجهة نظر المُستعمَر


سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.