اسمي لما الربّاح. وهذا مقالٌ تكتبه صحفيَّة لم تسنح لها الفرصة قبل اليوم لكتابة مقال هيئة التحرير. فالمحررون الرجال -في كل منبر إعلاميٍّ عرفَتْه في السابق- عادةً ما ينتزعون المهمة من زميلاتهن، دون أن يعوا ذلك حتى.
تمامًا مثلما يفردُ الرجالُ خطواتهم على وسعها في الشوارع، يحتلّون الأرصفة، يتحدثون بأصواتٍ عالية دونما خجل، بينما نمشي نحن بخطىً سريعة وصغيرة في عالم ليس لنا. نتلقّى التحرّش ثقيلًا كاللَّكمات في صدورنا، ونطأطئ رؤوسنا كأنما شبحٌ يطاردنا.
هذا الشبح الذي يترصدنا في كل مكان، لا يقتصر على بلدٍ بالخصوص، بل عالميٌّ حدًّا أصبح فيه مادةً للكوميديا. فها هي ممثلة كوميدية أميركية تقدم لنا النصائح لئلا نُقتل أو يُعتدى علينا في طريقنا إلى المنزل، فيضحك معها الجمهور. لكننا في النهاية نُقتَل، حتى في منازلنا.
عزاء النساء
تقاتلُ النساء كل يوم حتى تُعرَف أسماؤهن. يتفوقن بالدراسة، ويجتهدن في العمل أضعاف ما يبذله الرجال، ليكسبنَ حيّزًا ما في الوجود قد يعترف بأسمائهنّ ندًّا. لكن للمفارقة، ثمة أسماءٌ سريعًا ما تحتل حيزًا لا يزاحمها عليه أحد: أسماء من قُتلن.
فكلّ الأردنيين يعرفون أحلام التي قتلها والدُها ثم جلس يشرب الشاي. ويعرف الجزائريون عن مقتل الشابة كنزة سادات. ويحفظ الفلسطينيون وجه إسراء غريّب التي تُحاكَم عائلتها بتهمتيْ قتلها والتستر على الجريمة. ومؤخرًا عرفَ العالمُ فرح حمزة أكبر، الكويتية التي قتلها رجلٌ يلاحقها ولا تعرفه. قتلها في وضح النهار، وأمام عينيْ طفلتها.
لن نتصرَّف حتى تُرتكَب جريمة
عادةً ما تشعر النساء بقدوم الشبح. كانت فرح تعلم بأنّه قادم، فأبلغت السلطات الكويتيَّة بالتهديدات التي وصلتها طلبًا لتوفير الحماية. لكنّه وصل إليها على كلّ حال بعد أن أُفرج عنه بكفالة مالية، وقتلها.
توصَف القضية ضدَّ القاتل بأنها «أسرع قضية تُحصَّن قانونيًا في الكويت». ففي غضون أسبوع، وجهت إليه النيابة العامة تهمتيْ القتل العمد والخطف بالإكراه، وطلبت تطبيق أقصى العقوبات بحقه. ثم أحالت الملف إلى محكمة الجنايات.
هذا التحرّك القانوني العاجل متأخرٌ بالفعل، كان حريًّا به أن يستجيب لمناشدات فرح وقت كانت ما تزال على قيد الحياة. لكن نادرًا ما تحظى قضايا النساء «المغدورات» بهذه الجدية في الأساس. لا سيما حين يسنّ القاتلُ سكينًا من مطبخه لقتلِ امرأةٍ «تخصّه».
إذ يكفيه أنْ يدَّعي -في العديد من البلدان العربية- أنَّها «جريمة شرف» وأنّه لم يتمالك نفسه، فيخرج كما تُسلّ الشعرة من العجين. وبحماية التشريع، ينجو بأحكام مخففة وغير رادعة. ولربما تستقبله تهاني العائلة والمجتمع على «غسلِ العار».
في حالات عديدة، تختفي النساء ولا يبحث عنهن أحد، إلى حين يجد المارّة جثثهن صدفة في بئر ماء أو بركة أو غابة. وتُقتل النساء دون تحري القضاء أسباب الجريمة. فمن الممكن أن يدَّعي القاتلُ أنّ القضية انتحار، وله ذلك. فتُغلق القضية وتُدفن معها دون أسئلة. من المرعب أن نحيا ونحن نعرف هذه الحقيقة، أننا أينما كنّا: لن يُحاسَب القاتل على سلبِ أرواحنا.
تفاصيل قتل النساء تثير العالم
بينما تُعرف أسماؤنا كضحايا، نعامَل أيضًا كشخصيات في رواية بوليسية. تتناقل المواقع الإخبارية جرائم قتلنا بكل «تفاصيلها المروعة والساخنة»، مع صورةٍ تعبيرية لسكين غارقة بالدم. صورة منفّرة تصلح كإعلان فلم رعب مثير.
إبحث على قوقل عن الكلمات البشعة الثلاث «أب يقتل ابنته»، وستجد معلومات أكثر بشاعة تجيب بالتفصيل على سؤال «كيف؟». تصفُ السلاح والمكان والجسد المشوَّه بحماسٍ أشبه بالتلذّذ.
وبغرض جذب القرّاء، لا تتابع معظم المنصات الصحفية المحليَّة سؤال «ثم ماذا؟». بل تكتفي بمشاركة القصة وتفاصيلها الدامية، فتحصرنا بذلك في صورة الجثّة الهامدة. لكن الإعلام حتمًا يحرص على القيام بواجبه وتحديث الإحصاءات، لذا يدوّن: تُضاف واحدةٌ إلى جموع المغدورات.
ومثلما انتُزعَت أرواحهن، تُنتزَع إنسانية الضحايا. تختلط مشاعرُ القرّاء والمتابعين بين اندفاع الأدرينالين في عروقهم والاشمئزاز من القاتل، الغضب حينًا والحزن أحيانًا، مقابل لوم آخرين للضحية.
تتزاحم الكلمات في قسم التعليقات بين «مسكينة» و«تستحق القتل» و«يا ترى ماذا فعلت حتى قتلها؟» بينما نلملم نحن جراحنا ونحمي أنفسنا من أن نكون الضحية التالية. Click To Tweetمن نحن؟ من سيأخذ حقنا؟ لِم لا ينصفنا القانون؟ لماذا قُتلنا؟ كيف يتوقف شلالُ الدم؟ كلّها أسئلة تستحق أن تُطرح وأن يُجاب عليها.
هي من طعنت نفسها
قرّر قاتلُ فرح الكويتية أن يُدلي بشهادةٍ تحميه، قال إنها استلّت السكين وطعنت نفسها. فورًا ثبتت عدم مصداقيته لسخافة الحجة التي اختارها، واعترافه المسبق بجريمته. لكن العقلية خلف هذه الحجّة مكررة وليست مفاجئة.
إذ دائمًا ما تُتَّهَم النساء بأنهن أنفسهن سبب الاعتداء عليهن، حتى لو لم يطعنَّ أنفسهن حرفيًّا. إذ نستدعي التحرّش بعدم الاحتشام، ونستحق العنف داخل الأسرة ردًّا على عدم تسليمنا لسلطة الرجل المطلقة فيها، ونكذب بشأن التحرّش فينا لأننا لا نملك دلائل كافية، فلا يصدقنا أحد بعدها. نحن دائمًا الدافع وراء الجريمة.
في جريمة صباح السالم، كما عُرفت قضية قتل فرح، يمشي القاتل بثقة في الشارع، وفي وضح النهار، قبل تنفيذ جريمته. يخطفها ويقتلها أمام عائلتها فقط لأنها رفضته، موقنًا أن أحدًا لن يحاسبه. هذا المشهد مرآة لكل الجرائم التي نعرفها. لهذا الحد أرواحنا مباحة، والقاتل ليس بالمجرم الوحيد.
لسنا وحدنا ندافع عن أرواحنا
تتكامل صورة هذا العالم الذي لا نملكه، ويظن أنه يمتلكنا. يبدأ الأمر بالاستحواذ على الرصيف ولا ينتهي بحرماننا من حقوقنا في الميراث والتعليم والعمل. وصولًا إلى التفرد بصنع القرارات السياسية والتشريعية والاستيلاء على منصات التعبير. تُحاكُ كل تلك الخيوط مكونةً شبكة خانقة عملاقة، نعلَق فيها ولا يسهل الخلاص منها.
ورغم كل ذلك، شهد العالم أصواتًا أعلى للنساء في الأعوام الماضية. فخرجن إلى الشوارع يرفضن القتل، ويطالبن بتعديلات قانونية رادعة ومُنصفة. أصبحت قضية شابة قتلت في الأردن مثلًا، حديثًا تتناقله النساء ويردده الرجال في كل الدول العربية، وشعارًا تحمله المتظاهرات في احتجاجاتهن وتغريداتهن.
وحين صار الصوت أعلى، بتنا ندرك أننا لسنا وحدنا. وأنّ هناك ملايين النساء اللواتي يناضلن للخلاص مثلنا في تركيا والمكسيك والكويت وفلسطين وفرنسا وسويسرا ولبنان والقائمة تطول. على أمل أن تمتد هذه الخيوط فتبني شبكة متينة جديدة تحمينا، وتحمي حقَّنا في ألَّا نموت ضحيّة جريمة.