يُعزى تاريخ الخلافات المذهبية والفكرية في الإسلام إلى مسألة الحكم، ولمن تكون الأولوية في تولي شؤون الأمة الإسلامية. وقد تفرّعت نظريات عدة في هذا المجال، كلٌّ يشرعنُ لآلية مختلفة في اختيار الحاكم ونِطاق صلاحياته وحدود محاسبته.
وظلت مسألة الحكم في أطرها التقليدية لدى المسلمين، والمتمثلة في ولاية الحاكم المتغلب وشرعية الحكم الوراثي في الجانب السني. بينما تمسك الجانب الشيعي بالابتعاد عن الخوض في العملية السياسية، والإصرار على عدم شرعية أي حاكم مهما بلغت درجة صلاحه وإقامته للعدل.
الحاكمية والإسلام السياسيّ
ظهرت في الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين بعض الأطروحات الإصلاحية التي تدعو للحكم الرشيد الملتزم بالشريعة. وكانت مصر مسرحًا للجانب السني بينما كانت إيران مسرحًا للجانب الشيعي. ورغم تقدمية بعض هذه الأطروحات -مقارنة بزمنها- فغالبية ما طرح لا يخرج عن الأطر التقليدية المذكورة.
وبعيدًا عن الخوض في تاريخ الإصلاح السياسي الإسلامي الحديث، نركز في هذا المقال على ظلال مفهوم الحاكمية الذي رسم طريق الإسلام السياسي بالشكل الذي نراه اليوم. إذ شكّلت الحاكمية التي أرسى دعائم طرحها أبو الأعلى المودودي حجر الأساس في الإسلام الحركي الذي يقوده المتدينون المعارضون للحكم العلماني -حسب تصورهم- والذي يتولاه أعداء الأمة من قوى غربية استعمارية.
ترجع الحاكمية إلى التاريخ الإسلامي المختلف عليه، حتى تحصل على شواهد تشرعن فكرة الدخول في صراع من أجل الوصول لسدة الحكم على أساس الاستخلاف الإلهي. فالحاكم الذي يستمد شرعيته من الحاكمية إنما يحكم باسم إقامة الشريعة واتباع السلف الصالح وفق آلياتهم.
إلغاء الخلافة وبزوغ الإخوان المسلمين
عقب إعلان أتاتورك إلغاء السلطنة العثمانية عام 1922، وإبقاء الخلافة في رسمها مجردةً من صلاحيات الحكم، اشتعلت في العالم الإسلامي جذوة نقاش فقهي وسياسي حول التغير الجديد في الأمة.
وتزامن النقاش مع اشتداد وطأة الاستعمار الأوربي ما بعد الحرب العالمية الأولى. وعليه، انشغلت الأوساط العلمية الإسلامية، الممتدة من شبه القارة الهندية حتى سواحل الأطلسي، بنقاش حول أهمية إبقاء الخلافة كرمز جامع للمسلمين، يوحّد مساعيهم لنيل الاستقلال والنهوض الحضاري.
وبلغ هذا النقاش ذروة زخمه خلال الفترة بين عامي 1922 (إلغاء السلطنة) و1924 (إلغاء الخلافة). وبعد أربعة أعوام من انحسار زخم النقاش العلمي حول الخلافة، أسس حسن البنا عز الدين جماعة الإخوان المسلمين في مصر بوصفه كيانًا دعويًا يروج لاتخاذ الإسلام نهجًا لإدارة المجتمع ولحكم الدولة.
طرحت جماعة الإخوان المسلمين تصورها لحكم رشيد يقوم على تولي مجموعة (مجلس الإرشاد) شؤون الحكم في البلاد بناء على شرعية الحكم الإسلامي، بدلًا من إيلاء الحكم للعائلة الحاكمة التي تحكم باسم الحق التاريخي لسلالة محمد علي، مؤسس مصر الحديثة. وواجه الإخوان معضلة كبيرة في الموروث السني الذي يشرعن خلافة المتغلب ويمجد حكام الدول الملكية (الأموية، والعباسية، والعثمانية)، ويرفد هذا التمجيد قائمة طويلة من أئمة الفقه والعقيدة على مر التاريخ.
لم يجد رموز الإخوان بدّا من الصدوح بآراء يعدّها أهل السنة مستفزة. فقد صرّح سيد قطب في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» بانتقادات حادة لمعاوية بن أبي سفيان ونظامه الملكي الذي عدّه غير شرعي.
التمدد الإخوانيّ خارج مصر
منذ تأسيسها، اتخذت جماعة الإخوان المسلمين طريقة المعارضة للسلطة السياسية في مصر، ونشر أفكارها بين الناس، وحشد شرائح كبيرة للإيمان بإيديولوجياتها في الحكم الإسلامي. وكان التمدد في الجامعات والنقابات المهنية أبرز طرق التمدد الشعبي الذي اتخذته الجماعة.
وسرعان ما انتقلت الدعوة إلى البلدان المجاورة، فتأسست فروع للجماعة في مختلف الدول العربية الإسلامية. واختلف الدارسون في كون الجماعة كلها تدين بالولاء للتنظيم الأساسي في مصر، أم أن هناك تنظيمًا دوليًا سريًا تتبعه الجماعة.
تبدو الفرضية الأولى أقرب للصحة لسببين: كون التنظيم السري غير واضح، ولا يُعرف قائده أو هيكله الإداري. والسبب الآخر إعلان جماعة الإخوان أن مرشد الإخوان في مصر هو قائد الجماعة الأول. يدعم هذا الترجيح كون بعض أعضاء تنظيم الإخوان في العالم سئموا من سيطرة المصريين على الجماعة، مما أفقدها السبغة الدولية وجعلها تابعة لقيادة محصورة في بقعة جغرافية محددة وهي مصر.
الموقف الشيعي من الحكم
في الجانب الشيعي، كان الموقف الشرعي قطعيّا بعدم شرعية أي حاكم غير الأئمة الاثني عشر الذين لم يتولَ الحكم منهم بشكل رسمي غير علي بن أبي طالب. فالإمام في نظر الشيعة حاكم شرعي مفترض الطاعة بغضّ النظر عن تمكينه من الحكم السياسي من عدمه. وعليه، يُنظر للحاكم أنه غاصب لحق الإمام في الحكم. وقد ترتب على هذا تجنب الشيعة التحاكم إلى الدولة الأموية والعباسية، ولجوئهم للتحاكم إلى أئمتهم أو من يمثلونهم من خلص أصحابهم.
وظل هذا الحال حتى بعد سنة 260 للهجرة التي بدأت فيها غيبة الإمام الثاني عشر المنتظر ظهوره آخر الزمان. وعليه، ينظر الشيعة للمرجع الفقهي كنائب عن الإمام وصاحب كلمة الفصل في النزاعات. بالمقابل يكتفي المرجع الشيعي -في الأغلب- ببعض صلاحيات الإمام الغائب، كالإفتاء والولاية على القصر والأيتام واستلام الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها؛ لكنه يتجنب أمور الحكم كونها للإمام المعصوم حصريّا.
ولنا في موقف فقهاء الشيعة فيما بعد ثورة 1920 في العراق مثال واضح. حيث لم يسعوا لإيصال حاكم شيعي للبلاد. واكتفوا بقبول حاكم عربي هاشمي «سني» يوحد صفوف العراقيين دون إعطائه بيعة شرعية، لأنهم لا يملكون حق إعطاء هذه البيعة.
ابتعاد الفقيه عن السلطة
في إيران التي حكمها ملوك شيعة حتى عام 1979، لم يحكم الملك ببيعة شرعية وإنما بحكم الأمر الواقع في ظل الفراغ الشرعي في الفقه الشيعي. وابتعد فقهاء إيران عن مزاحمة الشاهات في سلطتهم الزمنية. أما التدخلات التي قام بها بعض أولئك الفقهاء، فلم تكن من باب المنافسة على السلطة أو إصلاحها بشكل يضفي عليها شرعية دينية.
حيث هدفت الثورة الدستورية الإيرانية (حركة المشروطة التي حدثت بين عامي 1905 و1911) إلى تقييد صلاحيات الملك القاجاري ومنع الاستبداد المتمثل في الحكومة المعينة من الشاه عن طريق فرض رقابة شعبية -وليست دينية- عليها.
وقد ناصر الحركة الدستورية «المشروطة» علماء بارزون أمثال الآخوند الخراساني والميرزا محمد حسين النائيني. ولم تسلم هذه الحركة من معارضة بعض رجال الدين الشيعة الذين رأوا فيها نوعًا من الشرعنة للحكومة التي قد تصدر قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية. ومن أبرز معارضيها، السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف كتاب «العروة الوثقى» أحد أبرز كتب الفقه الشيعي الحديثة.
لهذا يكمن الخلاف بين فقهاء الشيعة في أصل شرعية دخول رجال الدين في العملية السياسية وإعطاء الشرعية للحكم، لا في تأييد أو معارضة الحاكم. فحتى الذين عارضوا المشروطة -ويطلق عليهم أنصار المستبدة- لم ينظروا للشاه على أنه حاكم شرعي، وإنما فضلوا عدم إعطاء شرعية برلمانية لحكمه عن طريق رجال الدين. بمعنى آخر، فليكن حاكمًا مستبدًا، وفاقدًا للشرعية بالمطلق.
الإخوان كحركة ملهمة لتيارات شيعية
قامت حركة الإخوان المسلمين كجماعة سياسية تهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية والتي تحكم مجمل الأمة الإسلامية، غير معترفة بحدود الدولة الوطنية. لا تعترف الجماعة بشرعية أنظمة الحكم في الدول الإسلامية سواء كانت ملكية أو جمهورية، فكلها -في نظر الإخوان- أنظمة لا تطبق الشريعة كما يجب وتخدم المستعمر الكافر. وتعدى رواج الفكر الإخواني النطاق السني ليلهم حركات المعارضة الإسلامية في المناطق الشيعية.
تأسست جمعية فدائيان إسلام (فدائيو الإسلام) في إيران عام 1946 كحركة إسلامية معارضة تتبنى التغيير الراديكالي بهدف إنشاء دولة إسلامية في إيران. وقد وجه سيد قطب دعوةً إلى قائد الحركة نواب صفوي للمشاركة في المؤتمر الإسلامي لتحرير القدس عام 1953. وفي المؤتمر ألقى صفوي خطابًا نادى فيه بتوحيد جهود المسلمين لتحرير فلسطين.
وكما جماعة الإخوان، تكونت حركة فدائيان إسلام من جناح فكري وآخر عسكري. مثّل الجناح الفكري صحيفة «نشرة الإخوة» (منشور برادري) وكتاب «بيان فدائيان إسلام» الذي قال فيه صفوي: «إلى أعداء وناصبي الحكومة الإسلامية، الشاه والسائرين في ركابه، إذا لم تطبقوا الإسلام وقوانينه، فبعون الله سنحطمكم، ونشكل الحكومة الإسلامية الصالحة لتطبيق الإسلام في كل أنحاء البلاد.»
أما على الجانب المسلح، فقد اغتالت حركة فدائيان إسلام مجموعة من رموز الحكومة الإيرانية والمفكرين الموالين لها وعلى رأسهم أحمد كسروي. لكن الحادثة التي أودت بنواب صفوي كانت محاولة اغتيال رئيس الوزراء حسين علاء. إذ اعتقلت الحكومة كل قادة المنظمة، ونفذت حكم الإعدام بحق كلٍ من نواب صفوي وثلاثة من أنصاره في الثامن عشر من يناير عام 1956.
التحالف بين الإخوان المسلمين والشيعة المسيَّسين
تتشابه قصة إعدام نواب صفوي إلى حد كبير مع قصة إعدام سيد قطب الذي لحق به بعد عشر سنوات. فكلاهما سجن على ذمة قضية محاولة اغتيال مسؤول في بلده، وكلاهما حاول الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من الشخصيات العراقية الشيعية تخفيف حكمهم عن طريق وساطة مرجعية النجف، دون فلاح الجهود.
بل سعى الإخوان لتحرير نواب صفوي ولو عن طريق تهريبه من السجن. ففي مذكراته، أشار الشيخ علي الطنطاوي إلى جهودهم لمنع إعدام صفوي عندما سافر برفقة كامل الشريف إلى العراق من أجل السعي للعفو عنه أو الرفق به. ورغم اعتراف الطنطاوي بسعيه لإنقاذ صفوي، لم يذكر سعيه لتهريبه من السجن، لكن معن شناع العجلي ذكر ذلك في كتابه «الفكر الصحيح في الكلام الصريح».
طويت صفحة نواب صفوي طوال العهد الملكي في إيران، لتعود صورته براقة كرمز من رموز المقاومة الإسلامية للنظام الملكي بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979. وهنا لنا وقفة مع تأثير فكر الإخوان المسلمين على فكر الدولة الإيرانية الحالية، وعلى أبرز تيارات الإسلام السياسي الشيعي التي ما تزال نشطة في الساحة حتى يومنا هذا.
الإخوان والخمينية – ولاية الفقيه
تأثر أتباع خط الإمام (الخميني) بفكر الإخوان المسلمين بشكل لا يخفيه حتى رموز الثورة الإيرانية. فقد ترجم الخامنئي كتابيْ سيد قطب «في ظلال القرآن» و«المستقبل لهذا الدين». وبدأت العلاقات بين الإخوان والخميني منذ انتقاله إلى نوفل لوشاتو الفرنسية عام 1978.
بل إن ثاني طائرة هبطت في مطار طهران بعد وصول الخميني كانت طائرة وفد الإخوان الذي قدم للتهنئة بنجاح الثورة، ولم يسبقهم سوى ياسر عرفات نظرًا لرمزية قضية فلسطين. وفي تأبينهم للخميني بعد وفاته عام 1989، نعتته جماعة الإخوان بـ«فقيد الإسلام الذي فجر الثورة ضد الطغاة.»
ومن الناحية الفكرية، يمكن عدّ ولاية الفقيه التوجه الشيعي الأقرب لفكرة الحاكمية التي طرحها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب. وعليه، فإن أنصار خط الإمام يؤمنون بفكرة الإسلام الحركي الذي يقوده علماء ذوو دراية بالسياسة وأصحاب مهارات قيادية تؤهلهم لنيابة الإمام المهدي حتى ظهوره من غيبته.
لذلك قاد رجال الدين معظم مؤسسات الدولة التي أصبحت تخضع لإشراف مرشد الثورة الإسلامية الذي يُنتخَب عن طريق مجلس خبراء القيادة، ويسيطر عليه رجال دين ذوو تحصيل علمي معتبر. ويتشابه هيكل القيادة في الدولة الإيرانية مع هيكل جماعة الإخوان، إذ يتربع المرشد على رأس الهرم، يليه مجلس الإرشاد (الإخوان المسلمين) أو مجلس خبراء القيادة (الجمهورية الإسلامية في إيران).
وتكمن نقطة الاختلاف الرئيسة بين الجماعتين في اهتمام الإيرانيين بالعلم الشرعي. حيث يشترط تحصّل المرشد على درجة الاجتهاد (آية الله)، بينما نجد أن جميع مرشدي الإخوان قد أتوا من خارج سلك التعليم الشرعي.
ويعود سبب تمسك الشيعة بصفة الفقيه في القيادة إلى كون الفقهاء نوابًا للإمام الغائب، وبالتالي لا بد من توفر صفة الفقاهة في القائد الشرعي. وتبقى السمة الأساسية المشتركة بين الإخوان وولاية الفقيه الدعوة لدولة إسلامية يحكمها المتدينون. Click To Tweetتجاوز ولاية الفقيه نموذج الإخوان
بوصول أتباع ولاية الفقيه للحكم في إيران وتحول النظرية إلى واقع، زادت الفروقات بينهم وبين جماعة الإخوان المسلمين التي لا تزال تراوح في موقع «المعارضة». فخلال العقود التي حكم فيها الإسلاميون في إيران، عملوا على تطوير فقه الدولة على أسس الفقه الشيعي الجعفري الذي كان لفترات طويلة لا يتطرق لإقامة دولة «شرعية».
ويضيف عباس خامه يار في كتابه «الإخوان وإيران: عوامل الالتقاء والافتراق»، أنه في الوقت الذي يرى فيه الإخوان إمكانية التحالف مع القوى الغربية، يصر النظام في إيران على إعلان العداء الكامل للولايات المتحدة. هذا الأمر ليس مستغربًا، فالإخوان حركة معارضة تواجه ضغوطات كثيرة من دولها.
وحتى عندما نالت منصب الرئاسة المدعوم بأغلبية برلمانية في مصر 2012، لم تكن تملك زمام الأمور نظرًا لقوة المؤسسة العسكرية. مما قد يفسر موقفها اللين تجاه إسرائيل، في الوقت الذي تستمر فيه طهران على موقفها من أميركا وإسرائيل.
نستطيع القول بأن منظومة ولاية الفقيه قد تجاوزت الإخوان المسلمين، لتشق طريقها في الحكم بعد إحكام قبضتها على الدولة الإيرانية. بينما تراوح جماعة الإخوان مكانها بعد فشلها في إحكام قبضتها على مصر، ومحاولتها عدم تكرار التجربة في تونس وذلك بتأمين الشراكة مع الآخرين.
الفكر الإخواني في حزب الدعوة
يذهب الكثير من الشيعة إلى كون حزب الدعوة الإسلامية النسخة الشيعية لجماعة الإخوان المسلمين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يصف القيادي السابق في حزب الدعوة الشيخ علي الكوراني بأنه «نسخة كاملة من الإخوان المسلمين». كذلك، لم يكن مؤسسه عبد الصاحب دخّيل (وشهرته أبو عصام) من سِلك طلبة العلوم الدينية. لكنه كان صاحب شخصية قوية وأثر في علماء من قبيل السيد محمد باقر الصدر وغيره.
ويذهب الكوراني إلى أن معارضة عبدالكريم قاسم لجمال عبدالناصر سهّلت انتشار فكر الإخوان المسلمين في العراق. فقد كانت كتب الإخوان تصل العراق أولًا بأول وتُقرأ في النجف بشكل كبير. وفي هذا الصدد، يقول السيد طالب الرفاعي: «آنذاك لم يكن لدينا، كحزب شيعي، كتابٌ نتثقف به، فعمدنا إلى التثقيف بكتب الإخوان المسلمين، أقولها حقيقة: إن أول تعرفنا على الإسلام السياسي كان عن طريق الإخوان، وهم أرضيتنا في العمل السياسي.»
وبالرغم من تشكيك الكوراني في مكانة الرفاعي داخل حزب الدعوة، فقد وصل صيت الأخير بعمامته السوداء إلى مختلف أطياف الإسلام السياسي في العراق. حتى وصل الأمر إلى ترشيح الرفاعي لقيادة الحزب الإسلامي في العراق، والذي يعد فرع جماعة الإخوان في العراق. غير أن الرفاعي اعتذر عن قبول المنصب خشية من حجم التجربة مقارنة بسنه، إضافة لخشيته من ترؤس حزبٍ ذي غالبية سنية وهو شيعي.
الدعوة بلا غطاء فقهيّ
مثّل الغطاء الفقهي -إجازة المرجعية للعمل- التحدي الأكبر لحزب الدعوة. فالشيعة لا يجيزون عملًا سياسيًّا تحت مظلة الإسلام دون فتوى فقيه مجتهد. ولأن السيد محسن الحكيم كان المرجع الأعلى للطائفة وقتها، انسحب أبناؤه محمد مهدي ومحمد باقر من الحزب حتى لا يحسب عملهما الحزبي على والدهما.
كان السيد محمد باقر الصدر، على صغر سنه، المجتهد الذي يستمد منه الحزب الشرعية الدينية. لكنه انسحب في وقت لاحق بعد أن راجع نفسه في مسألة تأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي المنتظر).
ولنا هنا وقفة مع رواية السيد طالب الرفاعي في أن الأعضاء قد «بايعوا» الصدر، وأن الانتماء للحزب «يتم عادةً على شكل بيعة.» فالشيعة لا يرون بيعة لغير الأئمة الاثني عشر، وآخرهم المهدي المنتظر وهو غائب. ولا تجوز البيعة لأحد حتى نوابه، أي مراجع التقليد.
دخل حزب الدعوة في دائرة العمل السري المعارض لنظام حزب البعث. وعمل من المهجر في إيران وسوريا وغيرهما ليحافظ على كينونته الحركية حتى سقوط النظام عام 2003. ليعود متصدرًا الساحة العراقية كأبرز الأحزاب السياسية للطائفة الكبرى في العراق. ورغم تناوب ثلاثة من قيادات الحزب على رئاسة الحكومة العراقية، لم ينجح الحزب في قيادة العراق إلى الاستقرار أو على الأقل تقليص الفساد المستشري في مختلف أجهزة الدولة.
وطوال فترة نشاط حزب الدعوة، ظل غير المعممين المسيطرين على قيادة الحزب. مما يتشابه بشكل كبير مع جماعة الإخوان المسلمين التي تقدم المثقف الناشط على المشايخ.
التيار الرسالي – الشيرازيون
رغم أن قيادات الشيرازيين هم من العراقيين الذين هاجروا لإيران، السيد محمد الشيرازي وابنا أخته محمد تقي وهادي المدرسي، فالنشاط الحقيقي لهذا التيار كان منطقة الخليج، وبالذات الكويت والبحرين والقطيف شرق السعودية.
فقد كان لنشاط السيد هادي المدرسي، في الشارقة أولًا نهاية الستينيات ثم البحرين في السبعينيات حيث حصل على جنسيتها، دورٌ كبير في نشر «الفكر الرسالي» القائم على الحركية المستمدة من فكر الإخوان المسلمين تحت غطاء مرجعية الشيرازي.
وارتبط هادي المدرسي بعلاقات ودية مع بعض رجالات الديوان الأميري في البحرين، ونشر عددًا من مقالاته في مجلة قوة دفاع البحرين. وفي الفترة نفسها، انتقل الشيرازي مع مجموعة من أنصاره إلى الكويت، حيث حظوا بهامش كبير من الحرية.
خلال تلك الفترة، ظهرت فصائل منظمة في العراق والبحرين ترجع إلى الشيرازي فقهيًّا. حيث ظهرت في البحرين منظمة تحمل اسم «حركة الكفاح الثوري»، اسمٌ تمويهي هَدَفَ إلى إلهاء أجهزة الأمن في البحرين عن حقيقة هوية التنظيم.
وفي عام 1976 أعلن عن ولادة «جبهة العمل الإسلامي»، أحد الأذرع التنظيمية للتيار الشيرازي، وكان اختصاصها الجغرافي محددًّا بدولة البحرين، وقائدها الميداني المباشر هادي المدرسي.
وفي العراق ظهرت «منظمة العمل الإسلامي» المرتبطة بمحمد تقي المدرسي ويقودها قاسم الأسدي (وشهرته حاجي حسيني). ثم جاء دور السعودية عن طريق «منظمة الفجر الثورية» في القطيف والتي غيرت اسمها لاحقًا بعد خروج قادتها إلى خارج المملكة إلى «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية.»
الهيكلية الإخوانية في التيار الرسالي
سلك التيار الرسالي (الشيرازيون) مسلك الإخوان المسلمين في تنظيم الكوادر وتشجيعهم على الكفاح ضد حكومات بلدانهم من أجل العمل على قيام الدولة الإسلامية التي لا تعترف بالحدود «التي رسمها المستعمر». وقد سار التيار وفق فكرة الإسلام الحركي الذي يقوده رجال دين مثقفون وليسوا بالضرورة علماء. ما يفسر عدم الاهتمام بالعلم الشرعي بنفس المستوى الذي يهتم به الشيعة التقليديون في قم والنجف.
فالتيار يمكن احتسابه حركة تعبوية سياسية وليس حركة علمية شرعية، ما يفسر كون غالبية قيادات التيار في مختلف مناطق الخليج العربية من أصحاب الكاريزما وفن الخطابة وليس من الفقهاء ذوي التحصيل العلمي الغزير.
كان الشيرازي يعتقد بأهمية إنشاء حكومة إسلامية تحت قيادة مجلس علمائي يشرف على مطابقة الحكومة للشريعة الإسلامية. وسميت هذه الفكرة بـ«شورى الفقهاء» والتي تشابه إلى حدٍ كبير فكرة شورى جماعة الإخوان المسلمين ومكتب الإرشاد.
غير أن فكرة الشيرازي لا تحدد قيادة للجماعة، مما جعل منها مسألة متعسرة التطبيق. فمن يحق لهم دخول المجلس من الفقهاء؟ وهل يكتفى بالفقاهة الشرعية (الاجتهاد) أم لا بد من الإلمام بشؤون السياسة والحكم؟ وكم فقيهًا سيشكل أعضاء المجلس؟ والأهم من ذلك: كيف سيتعاملون مع الأمور التي تحتاج قرارات حاسمة وسرعة قد لا تتوفر في حال كانت القيادة في مجلس تتشتت فيه الآراء؟
من أبرز علامات تأثر التيار الرسالي بالإخوان حشر لفظة «الإسلامي» في كل شيء: الثقافة الإسلامية والمنطق الإسلامي والبعث الإسلامي والتمدن الإسلامي والتاريخ الإسلامي والعمل الإسلامي والوعي الإسلامي وغيرها من عناوين كتب محمد تقي المدرسي. ويضاف إلى ذلك منهج «التدبر القرآني» الذي يتعامل مع النص القرآني بشكل مباشر تمامًا كمنهج سيد قطب.
وطرأ الانقسام على الشيرازيين بعد وفاة السيد محمد الشيرازي 2001. إذ توجه أصحاب التوجه العقائدي الطقوسي إلى مرجعية أخيه السيد صادق الشيرازي، بينما بقي «الرساليون» مع المدرسي. أما القيادات الكبرى فقد حاولت الخروج من إطار المرجعية الشيرازية بإعلانها الرجوع «فقهيًّا» إلى مرجعيات أخرى، على رأسها السيد علي السيستاني. ومع ذلك ظلت جميع أطياف التيار تتبع العمل الاجتماعي التنظيمي ذاته في آليات الاستقطاب والتعبئة ضمن المجتمعات الخليجية.
نجاح ولاية الفقيه وفشل الإخوان
عند الحديث عن حركات الإسلام السياسي، فالشيعة لا يختلفون كثيرا عن السنة في تبنيهم فكر وهيكلية جماعة الإخوان المسلمين. إذ تسيطر عليهم الفكرة الأممية العابرة للحدود. فكما تأثر السلفيون في السعودية بالإخوان في فترة الصحوة، تأثر أتباع ولاية الفقيه في إيران وحزب الدعوة في العراق والشيرازيون في الخليج بآليات الإسلام الحركي المسيس الذي جاء به الإخوان المسلمون.
من الواضح أن خط الإمام قد تمكن من تجاوز نموذج الإخوان. وذلك عبر إخضاعه إلى آليات الفقه الشيعي مستحضرًا نظرية قديمة من الكتب (ولاية الفقيه)، ليشرعن بها حكم الدولة. وبهذا يكون التيار قد انتقل من مرحلة المعارضة إلى مرحلة الحكم، مما تسبب في استغنائه عن آليات التنظيم السري والتعبئة ضد من يصفونهم بالحكام غير الشرعيين. بل حتى أولئك الذين يعيشون خارج إيران، أصبحت لهم دولة يتطلعون للانضمام إليها أو تأسيس كيان مشابه لها.
وهذا ما لم يفلح الإخوان المسلمون في الوصول إليه. فتجربتهم في الحكم في مصر كانت فاشلة نتيجة فشلهم من السيطرة على الدولة العميقة التي تقع تحت سيطرة المؤسسة العسكرية. وكذلك لعجزهم عن كسب ود جماهير الشعب المصري بسبب ضيق أفقهم وطرحهم الذي لا يتناغم مع عامة الشعب.
ولعل ما حصل مع جماعة الإخوان في مصر يتشابه كثيرًا مع حزب الدعوة في العراق والذي تناقصت شعبيته ومقاعده في البرلمان العراقي حتى انتهى الأمر إلى وصول رؤساء حكومات من خارج التيار ابتداء من عام 2018.
غير أن العراق يختلف عن مصر بغياب مؤسسة عسكرية قادرة على الإمساك بمفاصل الدولة. وهكذا يظل حزب الدعوة لاعبًا أساسيًا في العملية السياسية في العراق، وإن لم يعد الأقوى. غير أن حزب الدعوة تجاوز موقع المعارض المقهور الذي ما يزال الإخوان يعيشونه في مصر. وبذا تكون تجربة الدعوة في العراق أشبه بتجربة حزب النهضة في تونس.
أخيرًا، فالشيرازيون يعيشون وضعًا أقرب إلى وضع الإخوان المسلمين، فهم لا يمتلكون قوة على الأرض في الدول التي نشطوا فيها. وقد تم تحجيم نشاطهم في دول الخليج بعد فترة ما يعرف بالربيع العربي.