نهاية البوفيه في زمن العولمة

البوفيه يقوم أساسًا على كونه فضاءً اجتماعيًّا يهمش هذا التنميط والتقرير، هذا الفضاء الذي تفتقر إليه المطاعم الحديثة.

علمتُ صدفة أن حسن، عامل البوفيه الذي كنت أقصده بشكل شبه يومي قبل أكثر من خمسة عشر عامًا -قبل إغلاقه- لا يزال موجودًا في الديرة، وأنه صار يعمل في بوفيه جديد، هذه المرة بجوار إخوانه. وجدته هناك بالابتسامة المعهودة عنه ذاتها.

تشكل ابتسامة حسن جزءًا رئيسًا من مكونات الوجبات التي يعدّها، وهي الوجبات التي تتجاوز كونها محض صنف في قائمة طعام. ولذا، حين طلبت يومئذٍ سندويشة فيليه دجاج، كنت أعرف أنها ستكون مزيج مكونات فريدًا من نوعه، وأنها قابلة للتخصيص لدرجة أني لو أردت إضافة بضع حبات فلافل لما كان في ذلك أي مشكلة. 

دائمًا ما أقارن هذه التجربة بما يحدث حين أقصد مطعم وجبات سريعة كلاسيكيًّا. إذا ما جئت أملي طلبي، فإني -شئت أم أبيت- محدود بالخيارات المتاحة في النظام الذي لا يمكن إدخال الطلب خارجه، وهو النظام القابع بدوره في هرمية وتقسيم مهام محددين.

فقد لا أستطيع مثلًا إضافة مكون للوجبة التي أريدها حتى لو كان متوفرًا في وجبة أخرى، وذلك لأن النظام لا يسمح بفعل ذلك. والشيء نفسه ينطبق على إزالة مكونٍ ما في حالة كان جزءًا من صوص أو تتبيلة معَدة سابقًا بحيث لا يمكن تغييرها دون الدخول في معمعة من نوعها الخاص. ولك أن تتخيل مدى الارتباك الذي قد يحدث حين تطلق العنان لإبداعك وتطلب سندويشة بنوع خبز غير معهود.

فاليوم ينصبّ تركيز المطاعم الحديثة على الفاعلية وتنميط المخرجات بما يسلب من الزبون فاعليته في تقرير ما يريده، وذلك كله في سبيل تغليب الجانب «البزنسي». ولا مثال أوضح على ذلك مما نحا إليه بعض المطاعم من إضافة رسوم إضافية في حال أراد الزبون إزالة بعض المكونات من وجبته. فبأي حق يتجرأ الزبون على التدخل في التجربة المتكاملة وتبطيء إعداد الوجبات بلا حساب؟! 

في المقابل، فإن البوفيه يقوم أساسًا على كونه فضاءً اجتماعيًّا يهمش هذا التنميط والتقرير، هذا الفضاء الذي تفتقر إليه المطاعم الحديثة. يهيئ هذا الفضاء لمرتادي البوفيه المعتادين أن يتعاملوا معه كما لو أنه ديوانية؛ يجلسون فيه أوقاتًا مطولة يتجاذبون أطراف الحديث مع بعضهم ومع العاملين دون قلق بشأن ما إذا كانوا يحتاجون إلى طلب مزيدٍ من الطعام كيلا يبدو «شكلهم غلط». 

وعليه فقد ولّى فعليًّا زمن البوفيهات، زمن تلك الأماكن التي تعرف عند الناس بأسماء أصحابها أو العاملين فيها، وتلك الوجبات التي تسبغ تجربة حميمية تتجاوز الأكل بحد ذاته. لم يعد ثمة مكان إلا للوجبات الجاهزة المتكاملة التي تملأ اللوحات الإعلانية، والتي عمل عليها من هم «أبخص» بالذائقات منا.

الإنسانالمستقبلالمطاعمالرأي
نشرة أها!نشرة أها!نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.