خمس قصص تخبرك لماذا بيليه الأفضل في التاريخ

يبرز بيليه كونه الرمز الذي أثر في الكرة بصفتها لعبةً وصناعةً. وتبع ذلك بالطبع تأثير مباشر في حياة ملايين الأشخاص.

توافد أكثر من 230 ألف شخص إلى ملعب «فيلا بيلميرو» في مدينة سانتوس البرازيلية، لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان اللاعب البرازيلي الراحل بيليه. كان السيد قياني إنفانتينو رئيس الفيفا من بين الحضور، وقد عبّر عن أهمية الحدث بتصريح يتضمن طلب الفيفا من جميع الدول الأعضاء إطلاق اسم بيليه على أحد الملاعب تكريمًا له.

عندما تتناول مسيرة بيليه تكتشف ببساطة أن إنفانتينو على حق، فكل الدول التي تلعب كرة القدم مَدينةً لهذا الرجل. بل ومن الإنصاف أن نقر بأن هذا الرجل تدين له جماهير كرة القدم أيضًا. بعيدًا عن الأمور الفنية والتفضيلات الشخصية، يبرز بيليه كونه الرمز الذي أثر في الكرة بصفتها لعبةً وصناعةً. وتبع ذلك بالطبع تأثير مباشر في حياة ملايين الأشخاص.

سنحكي هنا عن مسيرة بيليه في شكل قصص، ولكل قصة دلالة على أثر بيليه في عالم كرة القدم. هذا الأثر الذي ربما لم يدرك البعض كل جوانبه، لأن القصة ببساطة بدأت قبل أكثر من ثمانين عامًا.

القصة الأولى: الرجل الذي غيّر مصير البرازيل

انتهت حكاية بيليه في ملعب فيلا بيلميرو، لكن البداية كانت في ملعب أضخم بكثير، بل كان الأضخم في العالم وقت بنائه. وقد شُيد خصيصًا من أجل استضافة البرازيل لكأس العالم 1950، وأطلق عليه ملعب «الماراكانا». يقال إن ثلاثة أشخاص فقط جعلوا ملعب الماراكانا يغرق في الصمت؛ فرانك سيناترا عندما غنى، والبابا يوحنا بولس الثاني عندما حضر. أما المرة الأهم كانت على يد قيقيا مهاجم الأوروقواي، لحظة تسجيله الهدف الذي تسبب في خسارة البرازيل للقب كأس العالم 1950.

أكد الأطباء الموجودون في الملعب حينئذ، أنهم اضطروا إلى معالجة مئة وتسعة وستين شخصًا عانوا من مشكلة في القلب، نُقل ستة منهم إلى أقرب مستشفى وهم في حالة خطرة. بينما سجلت تقارير الشرطة مئة حالة انتحار في أنحاء البرازيل، بسبب تلك المباراة.

جرى التعامل مع تلك الخسارة على أنّها كارثة وطنية، أشبه بالهزيمة في الحرب. حتى أن الكاتب نيلسون رودريقيز ادعى أن تلك الهزيمة خلقت عقدة نقص في نفوس البرازيليين. وأطلق على هذه الحالة اسم «عقدة مونقريل»، في إشارة إلى شعور البرازيليين بالوصم والدونية.

من بين تلك الجماهير الحزينة كان هناك لاعب كرة قدم سابق معروف باسم دوندينهو. كان الرجل مثل الجميع يبكي بشدة، إلا أن ابنه صاحب السنوات العشر توسل إليه أن يتوقف عن البكاء، ثم أخبره ببراءة: لا تقلق سأفوز بكأس العالم من أجلك. كان هذا الطفل اسمه إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو الذي سيعرفه العالم أجمع باسم بيليه.

أرى أن دي ستيفانو هو أفضل لاعب في التاريخ، لأنني أرفض أن أعدَّ بيليه لاعب كرة قدم، أؤمن أنه أكبر من ذلك.

بوشكاش أيقونة ريال مدريد السابق

كان بيليه موهوبًا بالفطرة، لذا أصبح لاعبًا أساسيًا في صفوف نادي سانتوس، وهو في الخامسة عشر فقط. وبعد عامين انضم إلى صفوف منتخب البرازيل المسافر إلى السويد للعب كأس العالم 1958. نثر بيليه سحرًا خاصًا على أرض السويد، كان يخترق الملعب من المنتصف كأنه اكتشف أرضًا جديدة من العالم، استطاع التسجيل والمراوغة وقيادة البرازيل للفوز بالكأس والتسجيل في النهائي.

تدين جماهير البرازيل لبيليه بالتخلص إلى الأبد من الشعور بأن مصيرهم هو الخيبات المتتالية. أعاد هذا الرجل الثقة والإيمان في نفوس أمةٍ بأكملها. أمَّا بيليه نفسه فقد امتلك من الثقة، ما جعله يُنَصّب ملكًا على عرش الكرة لسنوات وسنوات.

القصة الثانية: ماسح الأحذية الذي ربط حذاءه مقابل مليون دولار

نشأ بيليه فقيرًا؛ فكرة القدم التي امتهنها والده لم تكن الرياضة نفسها التي تدر الربح على اللاعبين، كما يحدث الآن. أُصيب والده فتوقف ناديه عن دفع راتبه الشهري؛ هنا قرر بيليه أن يحمل صندوقًا خشبيًّا، ويلمع أحذية الناس في الشارع، حتى يرجع إلى البيت بالمال اللازم. لكنه لم يكره الكرة، بل آمن أنها منقذته من صندوق تلميع الأحذية.

لعب بيليه عندما كان صبيًّا كرة القدم بجورب محشو بالورق، لأنه لم يستطع شراء كرة. أمَّا فريقه الأوّل كان عبارة عن أولاد من الحي الفقير نفسه، وكان اسم الفريق «عديمي الأحذية». كان هذا قبل رحلة السويد 58.

أصبح بيليه بعد الفوز بكأس العالم 58 الوجه الأشهر في عالم كرة القدم دون منافس. كانت كرة القدم تخطو خطوات واسعة نحو التحول إلى صناعة، وكانت في أشد الحاجة إلى رجل مثل بيليه يمثل هذا المزيج بين فنيات كرة القدم داخل الملعب، واستغلال الشهرة احترافيًّا بصفته وجهًا لعدد من الشركات خارج الملعب. ربما يفسر هذا قصته مع شركة «بوما» في كأس العالم 70، هذه الكأس التي حققها بيليه ليودع رحلته مع المنتخب مثلما بدأها عام 58.

قبل أن يرتدي بيليه الرقم 10، لم يكن لهذا الرقم قيمة، كان مجرد رقم.

البرازيلي نيمار

وصلت الحرب بين شركتي «أديداس» و«بوما» إلى الذروة قبل كأس العالم 1970. وكان توقيع عقد مع بيليه ليكون ممثلًا لإحدى الشركتين هدفًا أساسيًّا لكليهما. لكنهما وبشيء من الحكمة قررا الاتفاق معًا على عدم التوقيع مع بيليه؛ لأن المبلغ الذي سيحصل عليه سيكون مبالغًا فيه بسبب كل هذا التنافس.

لكن ما حدث قبل مباراة ربع نهائي كأس العالم 1970 بين البرازيل وبيرو كان مفاجئًا للجميع. توجه بيليه قبل ثوانٍ من انطلاق المباراة نحو حكم المباراة، وطلب منه بعض الوقت لربط حذائه. توجهت الكاميرات فورًا نحو بيليه. وتركّزت الصورة أكثر وأكثر نحو الحذاء الذي يرتديه بيليه، ليكتشف الجميع المفاجأة. بيليه يرتدي حذاءً صنعته بوما له خصيصًا.

من يقتل لاعبي كرة القدم؟

اكتظت الأعوام الأخيرة بجداول مباريات كرة القدم بين بطولات الأندية والمنتخبات حدًا أصبح يتهدد اللاعبين بخطر الإصابة أو حتى الموت.

9 سبتمبر، 2021

كُشِف بعد ذلك أن شركة بوما خرقت الاتفاق الذي جرى تسويته مع أديداس. وقدمت عرضًا إلى بيليه قيمته 120 ألف دولار، ما يساوي مليون دولار الآن، من أجل أن يربط حذاءه بتلك الطريقة. وللتأكد من حصولهم على لقطة مثالية للحذاء، دفعوا الأموال إلى المصور المسؤول عن كاميرا البث. وحصدت بوما ثمار كل ذلك، فقد سجلت مبيعات سنوية قياسية بسبب هذا الحذاء.

طوال لعبه لكرة القدم كان بيليه الوجه المثالي للشركات كافة. كان اسمه كفيلًا ببيع أي منتج؛ حتى بعد الاعتزال. لم يتوقف الأمر عند الشركات الرياضية؛ فقد وقّع عددًا كبيرًا من العقود لعدد من الشركات أهمها «هوبلو» و«فولكس فاجن» و«صب واي» و«طيران الإمارات». وقدرت ثروته بما قيمته صافي 100 مليون دولار في العام 2022.

لم يحترف بيليه خارج البرازيل إلا في نهاية مسيرته الكروية؛ إذ وقع عقدًا مع فريق «نيويورك كوزموس» الأمريكي عام 1977 مقابل 4.75 مليون دولار، وهو الرقم الذي أثار حفيظة الأمريكان أنفسهم. أمَّا قصة بقاء بيليه في البرازيل طوال سنوات تألقه الكروي، فتلك قصة أخرى.

القصة الثالثة: الرحالة الذي ساهم في شعبية السامبا

يُثار تساؤل منطقي للغاية يتعلق بمسيرة بيليه: لماذا لم يحترف بيليه في أوربا إذا كان بكل هذا القدر من الموهبة؟! في الحقيقة لقد عُدَّ بيليه ثروة قومية للبرازيل؛ إذ أعلنت الحكومة البرازيلية أن بيليه كنز وطني رسمي في عام 1961 لمنع نقله إلى خارج البلاد.

لم يكن نادي سانتوس فريقًا كبيرًا قبل بيليه، لكن وبمساعدة بيليه أصبح فريقًا عظيمًا يعج بالنجوم. لم يكن مصدر دخله الأساسي سوى رحلات في كل أنحاء العالم ليشاهد الجميع بيليه ورفاقه. ربما يفسر هذا بدقة لماذا لم يكن بيليه متاحًا للاحتراف.

قلت لنفسي قبل المباراة، إنَّه مصنوع من جلد وعظام مثل أي شخص آخر؛ لكني كنت مخطئًا.

المدافع الإيطالي بورغنيتش الذي كُلف بمراقبة بيليه في مباراة نهائي كأس العالم 1970

تعج تلك الرحلات بالعديد من القصص. فهناك قصة تتناول تعليق الحرب الأهلية في الكونغو، حتَّى يتمكن الناس من مشاهدة بيليه بسلام. فقد فُعِّل وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة بين الجانبين.

أمَّا القصة الأهم التي يحكي دومًا عنها آباؤنا هي رحلته إلى الشرق الأوسط. تلك الرحلة التي بدأت في السعودية ثم الكويت والبحرين، ثم السفر نحو القاهرة، والعودة لختام الجولة في الإمارات. يمكنك فهم أثر بيليه عن طريق تتبع هذه الجولة، وكيف أن أسماء مثل جاسم يعقوب وعبدالحميد الشطي كُتبت في التاريخ اقترانًا ببيليه.

كيف أنه حتى الآن يجري تأريخ تلك الرحلة، وتناول الكواليس بالتفصيل. خَطَّ محمد الكوس الملعب بنفسه في البحرين. وفي القاهرة وعد بيليه الجميع قبل المباراة أن يحرز هدفين بقدميه اليمنى واليسرى، وفعلها بمنتهى البساطة. كل هذا الزخم كان بفضل بيليه، وكانت نتيجته أن البرازيل أصبحت معشوقة الكثيرين حول العالم، خاصةً في الوطن العربي.

لكن بيليه نفسه يقص عن تلك الرحلات بأنها كانت تعرضه إلى الاستنزاف بشدة. شرح الأمر بأنه في فترة 18 شهرًا قام بجولة في أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا الشمالية وأوربا وآسيا وأستراليا، حتى أنه لعب مباراته الألف مع سانتوس في بلد مثل سورينام. مثلما حصل بيليه على ملايين من كرة القدم، استُغل جيدًا لجلب الملايين. ولم يكن استغلال بيليه على الصعيد الاقتصادي فقط، بل وسياسيًا أيضًا.

القصة الرَّابعة: الرجل الذي لم يستطع أن يكون محمد علي كلاي

يتناول فلم بيليه، وهو الفلم الوثائقي الذي أنتجته نتفلكس عام 2021، تلك القصة بشكل مثالي. كان بيليه شاهدًا على الانقلاب العسكري في البلاد، لكنه لم يمتلك أي موقف سياسي مناهض؛ بل وارتضى استغلاله سياسيًا دون أن يحرك ساكنًا.

نرى بيليه في أثناء الفلم قريبًا على نحو ملحوظ من الديكتاتور إميليو ميديشي. فهو يعانق ويحتفل بالكأس الثالثة، بجوار الرجل الذي يعزى إليه تعذيب مئات المعارضين و434 قتيلًا أو مفقودًا.

كان لديه سلوك الأسود الخاضع الذي يقبل كل شيء، ولا يجادل في أي شيء.

باولو سيزار زميل بيليه في منتخب البرازيل

فهم بيليه أصول اللعبة، وفهم أن كرة القدم راية عريضة يحتمي بها المشتغلون بالسياسة للتقرب من الجماهير، لكنه لم يلعب أكثر من الدور الموضوع له. إنَّه ببساطة لم يستطع أن يكون محمد علي كلاي صاحب المواقف المناهضة لسياسة بلاده. Click To Tweet

واكتفى بإدخال البهجة في قلوب البرازيليين من خلال كرة القدم.

ربما لا يمكن رؤية هذا الأثر بوضوح، لكن الرسالة تبدو واضحة. مهما بلغ حجم لاعب كرة القدم من فنيات أو كاريزما، لا يمكن أبدًا أن يكون أيقونة سياسية، أو دلالة على جودة الصف الذي ينتمي إليه سياسيًّا.

القصة الخامسة: حقائق رقمية عن الملك تخبرك أنه لم يتكرر

سجل بيليه ما مجموعه 1283 هدفًا، إذ استطاع تسجيل ثلاثة أهداف أو أكثر في 129 مباراة. وبعد إحراز هدفه رقم 1000، تسابق المئات على أرض الملعب للاحتفال بالنجم البرازيلي. واستغرق الأمر أكثر من 30 دقيقة لاستئناف المباراة. 

بيليه هو الوحيد الفائز بكأس العالم ثلاث مرات، وأصغر الفائزين بها. لم تخسر البرازيل أي مباراة شارك فيها بيليه بجوار اللاعب العظيم جارنشيا. عندما لعب بيليه في نيويورك، أراد العديد من منافسيه تبادل القمصان معه، إلى درجة أنَّ النادي اضطر إلى إعطاء كل لاعبي الفرق المنافسة قميصًا بعد كل مباراة.

هناك إنجاز وحيد حاول بيليه تحقيقيه ولم يستطع؛ إذ يقال إن والده سجل ذات مرة خمسة أهداف بالرأس في مباراة واحدة. بينما كان أكبر عدد من الأهداف التي سجلها بيليه برأسه في أي مباراة هو أربعة أهداف.

البرازيلالسياسةكرة القدم
مقالات حرةمقالات حرة