هزيمة إسرائيل أمام السردية الفلسطينية

بعد نكبة حي الشيخ جراح حدث تحول في سردية القضية الفلسطينية، فأصبحت سردية تخاطب الإنسان العالمي وتقترب من قضاياه.

كان للانتفاضة الفلسطينية الثانية أثرٌ هامٌ في تشكيل الوعي لدى الشباب العربي. يذكر الكثير منا أحداث الانتفاضة، وكيف ساهم الزخم الإعلامي العربي آنذاك في نقل تفاصيلها، متكئًا على بعديها الإسلامي والعربي. في المقابل، عزفت العديد من القنوات الغربية عن نقل معاناة الجانب الفلسطيني أو نقد الممارسات الإسرائيلية. إذ دومًا ما خشي الإعلام الغربي مغبة الوقوع في دائرة اتهام «معاداة السامية».

لم تنته الاعتداءات الإسرائيلية مع الانتفاضة الثانية، بل ظلت تسير على وتيرة يومية. إلا أنَّ تغيرًا جوهريًا يحدث اليوم في نقل الأحداث والحديث عنها، خصوصًا في الغرب، أعاد القضية الفلسطينية في محور الأحداث العالمية مرة أخرى. إذ يضم التعاطف العربي والعالمي اليوم للقضية الفلسطينية أصواتًا من مثل أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي ونجوم هوليوود وفنانين ومغنين وكوميديين وإعلاميين.

كلها أصوات تندد بالاعتداءات الإسرائيلية وممارساتها العنصرية بصراحة ووضوح. وتكسر في الآن ذاته قبة إسرائيل الإعلامية التي لطالما جعلت من أي نقدٍ لها، خصوصًا من المؤثرين إعلاميًا، انتحارًا مهنيًا.

يعود هذا التحول إلى تغيّر في سردية القضية الفلسطينية أدى إلى خروجها من النطاق الإقليمي والديني التقليدي إلى الإنساني العالمي. وأرت العالم بالصوت والصورة وبلغة جديدة واقع حياة الشعب الفلسطيني، وزيف الرواية الإعلامية الإسرائيلية. 

نزوح قسري وليس إخلاء

أعطت بعض المستجدات السياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط مؤخرًا انطباعًا بأن القضية الفلسطينية فقدت مركزيتها. لكن سرعان ما تلاشى هذا التصور بعد محاولة المستوطنين المتطرفين، بتأمين من دولة الاحتلال، الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. منطقة ما تزال تعد محتلة بحسب القانون الدولي. 

تلا هذه المحاولات اقتحام الجيش الإسرائيلي والجماعات الاستيطانية الحرم القدسي وقصف قطاع غزة. ووقعت كل تلك الاعتداءات في ظل التوسع المستمر للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.

وكانت إسرائيل استطاعت في العقود الماضية تبرير انتهاكاتها وسياساتها ضد الفلسطينيين بحجّة الدفاع عن النفس. كما استغلت تشريعاتٍ، مثل قانون أملاك الغائبين الذي سنّته حكومة الاحتلال عام 1950، للاستحواذ على أملاك الفلسطينيين. وكان آخر تلك التبريرات وصف التهجير القسري للفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح بأنه «خلاف عقاري».

وفي خضم دفاع أهل الشيخ جراح عن بيوتهم، ساعدت منصات التواصل الاجتماعي ومهارة الفلسطينيين في نقل وتصوير الانتهاكات على رفع الوعي العام في الغرب. حيث تحدث الفلسطينيون القاطنون بالحي منذ عقودٍ عن هذه الانتهاكات بلغة تحاكي الغرب، وتقارن سياسات إسرائيل بالاستيطان والفصل العنصري. وقاربت كذلك القضية الفلسطينية مع قضايا مهمة مثل الاضطهاد العنصري والتطهير العرقي.

فلسطنييون يعبرون حاجز جيش الاحتلال في القدس / Dan Balilty

ويتضح في مقالة كتبتها نورا عريقات وجون رينولدز كيف استطاع الفلسطينيون تغيير السردية بالاستناد إلى سياق «الاستعمار الاستيطاني»، والتركيز على ممارسة إسرائيل لسياسة «الأبارتايد». وعدم التعويل كثيرًا على القانون الدولي الذي لا يتشابك فقط مع التاريخ الاستعماري بل «لن يضع نهاية للاستعمار، إنما قد يحسن من طبيعته فقط.»

وجاء تقرير منظمة «هيومن رايتس واتش» والذي عنونته «تجاوزوا الحد!»، وكذا تقرير منظمة «بتسيلم»، ليؤكدا ممارسة إسرائيل لجريمتي الفصل العنصري والاضطهاد.

لذلك يستخدم الفلسطينيون اليوم مصطلحات تربط أفعال الاستيطان مع سياسات عنصرية. بدايةً بربط التهجير الذي يمارس حاليًا في حي الشيخ جراح بـ«النزوح العرقي القسري» بدلًا من «إخلاء» (eviction). والتي عادة ما تستخدمها وسائل الإعلام الغربية حتى تعطي طابعًا قانونيًا لما يفعله الإسرائيليون.

سياسات إسرائيل العنصرية

كذلك رجع الفلسطينيون إلى الذاكرة الاستعمارية واضطهاد الأقليات والعنصرية. وكان أبرزها تقريب ما يحدث في فلسطين اليوم بالانتهاكات التي تقع على السود في الولايات المتحدة، والدعم الذي لاقته احتجاجات (Black Lives Matter). بالطبع ثمة فارق كبير في الجوهر والسياق التاريخي بين واقع السود في أميركا والقضية الفلسطينية. لكن مقاربات كهذه تساعد في تقريب الواقع الفلسطيني للواقع العنصري الأميركي، وفي خلق نوعٍ من النضال المشترك. 

إذ خلال جلسة مجلس النواب الأميركي في منتصف شهر مايو، قالت النائبة كوري بوش، إن واقع الفلسطينيين اليوم مقارب جدًا لواقع السود في أميركا. كما أن تباين القوى الصارخ بين إسرائيل والفلسطينيين، المتجلي في عدد القتلى، يوضح الخلل في المقارنة بين الطرفين. حيث قالت النائبة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز أن «الأمر لا يتعلق بطرفين متساويين، بل يتعلق باختلال ميزان القوى»

وهكذا ساعد التغيير في السردية، وتسليط الضوء على الانتهاكات الإنسانية في سياسات إسرائيل العنصرية، في تقريب القضية الفلسطينية للجمهور الغربي والعالمي. كما أرغم هذا التحول وسائل الإعلام على التركيز على الجانب العنصري الذي قل ما تتناوله في تغطيتها للأحداث، إذ دومًا ما تصوره مجرد خلاف «عربي – إسرائيلي».

إسرائيل يهودية قومية لا ديمقراطية

وتسلط الأحداث التي تشهدها فلسطين اليوم الضوء على هشاشة المجتمع الإسرائيلي. إذ أجرى مركز «بيو» للأبحاث الأميركي دراسةً استطلع فيها آراء اليهود في إسرائيل. ويتضح فيها أن أغلبية اليهود يريدون لدولتهم أن تكون يهودية أكثر من رغبتهم بدولة ديمقراطية. كما أن أكثر من ثلثي المستفتين يرون أنهم يستحقون معاملة خاصة وامتيازات لأنهم يهود. ونحو النصف يتفق على عبارة «يجب طرد العرب أو نقلهم خارج إسرائيل»

بحسب المحللين الإسرائليين أنفسهم، رسخت إسرائيل في السنوات الماضية العنصرية ضد العرب. وبدا هذا جليًا في شعارات الحملات الانتخابية والنقاشات السياسية وحتى في التشريعات الجديدة. فقانون الدولة اليهودية القومية الذي أقره الكنيست عام 2018 يضع اليهود في مكانة أعلى من العرب. مما ساهم في تشجيع العنف ضد الفلسطينيين داخل إسرائيل.

لم تبدأ العنصرية مع تولي اليمين الحكم بزعامة بنيامين نتنياهو، لكنه رسخها. إذ جعلها أساسًا في التعامل مع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. كذلك نجح نتنياهو في تبني هذا التوجه وتشجيعه طوال السنوات الماضية، ليشهد هذا العصر خروج رعيل جديد أكثر تشددًا من السياسيين الذين قد يخلفون منصبه. ومنهم «نفتالي بينيت» والمعروف بأفكاره المتطرفة ضد العرب. 

كما استطاع نتنياهو خلال السنوات الأخيرة أن يصور الفلسطينيين داخل إسرائيل على أنهم «طابور خامس» وخطرٌ ديموغرافيّ على أمن اليهود. وهذا يدحض الصورة التي تحاول إسرائيل رسمها على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة حيث يعيش جميع أطياف المجتمع الإسرائيلي بسلام وانسجام.

كل مدينة إسرائيلية كانت «الشيخ جراح»

تتزامن الأحداث التي تشهدها فلسطين اليوم مع الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة التي أوضحت مدى تشابه اليوم بالأمس. فالتطهير العرقي في حي الشيخ جراح يعيد الذاكرة إلى النكبة، وما تلاها من تطهير عرقي لمدن وقرى فلسطينية في العقود الماضية.

ففي حين يسترجع الفلسطينيون في الداخل والخارج النكبة المستمرة حتى اليوم، يتغاضى الكثيرون عن الحديث عنها. لأن خسارة الفلسطينيين لأراضيهم أساس قيام دولة إسرائيل. حيث كتب بيتر بينارت في مقاله على النيويورك تايمز كيف «يصعب على اليهود -حتى من اليهود الليبراليين في إسرائيل وأميركا وحول العالم- مناقشة النكبة لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنشأة إسرائيل.»

في ظل المواجهات واقتحام حرم المسجد الأقصى، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لعصابات استيطانية تحرق وتكسر المحلات العربية في داخل إسرائيل. كما اقتحمت هذه الجماعات بمساعدة الشرطة بيوت الفلسطينيين العزل. ولم تسلم المقابر الفلسطينية في مدن مثل اللد من أحداث التخريب والتدمير.

ووثَّقت وسائل الإعلام تنامي أعداد الجماعات الاستيطانية التي تهتف بـ«الموت للعرب» وتعتدي عليهم. وبينت سلسلة من المقابلات النزعة الإسرائيلية العنصرية ضد العرب، وحديثهم الصريح عن عدم حق العرب بالوجود في «إسرائيل». وكل تلك المقابلات تناقلتها وسائل التواصل الإجتماعي بكثرة.

لذلك نجد أنَّ الأحداث الأخيرة سلطت الضوء على عنصرية غُيِّبت لفترة طويلة في التغطية الإعلامية العالمية. وأعادت النكبة من الذاكرة البعيدة إلى الواقع الحيّ المستمر. Click To Tweet

حرب إسرائيل ضد الصحافة

كان من المعتاد لدى اندلاع أي مواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين انحياز أكثر الصحف العالمية في تغطية الأحداث. إذ تصورها على أنها «خلاف»، كما لو كان الجانبان متساويين في السلطة والحقوق والقوة العسكرية. وغالبًا ما تُغيّب الجانب التاريخي المهم لفهم سياق الأحداث، وذلك بذريعة «صعوبة وتعقيد فهم المسألة». وأيضًا لتفادي الخوض في التفاصيل خوفًا من تهمة معاداة السامية.

لكن نسف إسرائيل عددًا من المباني في غزة تضم مكاتب شبكات إعلام عالمية، منها مكتب «الأسوشيتيد برس»، غيَّر هذه المعادلة. وأوضح كيف تحاول إسرائيل صرف الإعلام عن تغطية القصف والضحايا في غزة، بقصفها حتى مكاتب الإعلام المنحاز لها. فتزايد انتقاد وسائل الإعلام العالمية للانتهاكات الإسرائيلية، وارتفعت المطالبات بتحقيق مستقل لكشف تفاصيل تفجير مكاتب الإعلام في القطاع.

ولطالما نشطت إسرائيل في تعزيز جهودها في العلاقات العامة بهدف تصوير الدولة بصورة إيجابية للغرب، وذلك عن طريق جهاز البروباقندا والدعاية الصهيونية المعروف بالـ«الهسبرا» (Hasbara). لكن هذه الجهود تواجه اليوم الكثير من الصعوبات بسبب التغير في السردية. إذ أصبحت إسرائيل تحت المجهر بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وممارسة الفصل العنصري.

قمع وسائل التواصل الاجتماعي 

ويبدو أن الحرب الإعلامية تميل اليوم لصالح الفلسطينيين، حيث يُلاحظ مدى حجم الدعم العالمي الذي حظي به الفلسطينيون في الأسابيع القليلة الماضية. وبرز هذا الدعم في تناقل الأخبار على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة للتوعية بتاريخ فلسطين، وتوضيح الانتهاكات التي تمارس ضدهم منذ النكبة وحتى اليوم.

لذلك تحاول إسرائيل الضغط على وسائل التواصل الاجتماعي لإزالة المحتويات التي تراها «مضللة». إذ عقد وزير العدل الإسرائيلي، بيني غانتس، اجتماعًا على منصة زوم مع المديرين التنفيذيين لفيس بوك وتيك توك في منتصف مايو، وحثهم فيه على إزالة المحتويات «بشكل استباقي». مما يوضح حجم القلق لدى إسرائيل من التعاطف الذي يناله الفلسطينيون اليوم من كل أنحاء العالم.

كما استخدم بعض الأفراد المؤثرين في إسرائيل وأميركا وبعض الدول الغربية بطاقة اللاسامية لكبح الانتقادات الموجهة لإسرائيل، واتهام الداعمين للقضية الفلسطينية بنشر الكراهية. حيث نشرت «شبكة القيم العالمية»، منظمة يهودية بقيادة حاخام أميركي، إعلانًا مدفوعًا في النيويورك تايمز يتهم بيلا وجيجي حديد بدعم «محرقة» جديدة لليهود. 

وفي ضوء محاولات إسكات أصوات معينة وحذف التغريدات والصور من الحسابات المساندة لفلسطين، ازداد تفاعل جنود الجيش الإسرائيلي. وارتكز التفاعل الإسرائيلي بنشر المحتوى في تيك توك، وأبرزهم المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي.

كما نشط الحساب الرسمي الإسرائيلي على تويتر أثناء القصف على غزة، ونشر تغريدات مثيرة للجدل باللغتين العربية والإنقليزية، إذ أتت بصياغات مختلفة، تستعرض القصف والقوة العسكرية على الحساب العربي، وصور المستوطنين الخائفين في تل أبيب، في تناور عجيب للظهور في موضع قوة أو ضعف، حسب الجمهور المستهدف، وفي محاولة لزيادة التفاعل مع حساباتها ونشر محتواها.

سياسة التضليل الإعلامي 

ومن المفارقات أن إسرائيل لا ترى عيبًا في استخدام الإعلام لأغراضها السياسية والعسكرية. فقد ضلل الجیش الإسرائيلي وسائل الإعلام العالمية حين أعلن عبر تغريدة أنه بصدد الهجوم على غزة بحملة جوية وبرية معًا، خبرٌ تناقلته وسائل الإعلام بكثرة. لكن العمليات البرية لم تتم، وأصدر الجيش الإسرائيلي لاحقًا توضيحًا ينفي وجود قوات عسكرية على أرض غزة.

فسر بعض المحللين الإسرائيليين العسكريين أن ما حدث لم يكن «سوء فهم» كما أراد الجيش أن يصوره، بل تضليلًا لخداع الفصائل الفلسطينية إلى الزحف نحو شبكة الأنفاق في شمال غزة. إذ قصفت مائة وستون مقاتلة إسرائيلية تلك الأنفاق، لتصبح مصيدة قتل، كما صرحت وسائل الإعلام الإسرائيلية.

ساعد هذا التضليل على ارتفاع أصوات الإعلاميين والمحللين في نقد إسرائيل ومحاولاتها استخدام الإعلام لأغراض عسكرية. وخرجت العديد من المقالات في الأيام الماضية تسلط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية. وصار الإعلام يستعين بأصوات فلسطينية من داخل وخارج غزة لنقل أحداث الحرب على القطاع، والانتهاكات في القدس الشرقية. 

فلسطين قضية الإنسانية

كانت القضية الفلسطينية سابقًا رهينة النقاشات والشعارات السياسية، لكنها اليوم خرجت من البعد السياسي. إذ ما عادت تحركها الفصائل الفلسطينية أو الحكومات العربية، بل الأصوات الفلسطينية والرأي العام العربي والعالمي. وأصبحت قضية إنسانية بامتياز ضد كيان محتل

قضية تستند على نظريات وتجارب الاحتلال والفصل العنصري الذي لا يزال واقعها المرير حيًا في أذهان الكثيرين. ما أعطاها زخمًا لم تحظ به في السنوات والعقود الماضية.

لذلك فالأصوات التي تقول إن «فلسطين ليست قضيتي» لا تفهم هذا التحول. لأنها تضع نفسها في نطاق ضيق وفي جانب مختلف تمامًا عما هو عليه العالم حاليًا. فالجانب الإنساني للقضية هو ما يجتمع عليه الناس، والواجب الوطني لأي بلد لا يتعارض مع الواجب الإنساني.

حتى اليوم، ما تزال الولايات المتحدة الأميركية والكثير من دول العالم تقف موقفًا مساندًا لإسرائيل، ولا تعير أي اهتمام لما يتعرض له الفلسطينيون من اضطهاد. لكن التغير الجوهري الذي حدث مؤخرًا ساهم في تشكيل وعي جديد للقضية الفلسطينية أثَّر على تناقل وسائل الإعلام للأحداث. فالسردية اليوم أصبحت في يد أصحاب القضية. 

الإعلامالاحتلال الإسرائيليالقضية الفلسطينيةالسلطة
مقالات حرةمقالات حرة